الجابر شاعر النص الرشيق

الجابر: لم أصنف ما أكتب على أنه شعر

1 1٬969

سماورد- السعودية   

النصُّ الرشيق، الموسيقى التي تراقبك منذ العتبة الأولى لتخلق تكوينك. الألم الذي يتدلى من أولك إلى أطرافك ولكنه يرحمك لأنه اللقاء الجميل، المأخوذ بالتفاصيل، المشرع للوقت، المرتدي للعزلة، والمهيمن على بوحك ووجعك. فاضل الجابر في ” ذاهلاً تسعى إليك الجهات ” يلهثُ في تجربةٍ تجدد شفرات تعبها، فيرسم ساحةً مهيأةً لبعثرة المصائر وموسقة أحزانها.

هنا حوارٌ أجرته سماورد مع الجابر الشاعر والإنسان، لتدخل لبواباته ، تتأمل ومضاته، وتكشف عنه في لحظات التجلي

سماورد: “إن القليلات لديهن رموشًا يتدلى الليل منها ..” المخيلة والمجاز، التجاوز البصري للعالم، أو التكامل الفكري للرؤية، كيف يغذي الشاعر ويجدد هذه الحاجة للقصيدة ويحققها؟

’’هذه الحياة سريعة بحيث نهلك في ملاحقة ما يجري فيها’’

الجابر: ما يحتاجه النظر هو انفلات زاوية الرؤية، أن تقع على غير المألوف والمعتاد، أن تتخطى الوجوه المكررة والمشاهد متوقعة الحدث، أن تمتلئ ماءً جديدًا يفيض بالراكد من صور والمتراكم من طمي الأيام. لعلي لا أبالغ إن قلت أنه لفرط ما استنسخت الحياة دورة أيامها في سنوات حياتي الأخيرة فقد صرتُ لا أفرّق بين الحقيقة والوهم، وصار عقلي يحذف فقراتٍ كثيرةٍ من اليوم لعدم جدوى الاحتفاظ بها كذكرى. لم أصل يومًا للحد أن تتآكل المسميات من ذاكرتي ويفرض الحدث أمره الجازم “ignore”،  حين يقدّم أحدٌ ما اسمه كتعريف عن نفسه أو يجيء مشهدٌ تعتبرهُ ذاكرتي خارج سياق الأهمية. هذه الحياة سريعة بحيث نهلك في ملاحقة ما يجري فيها فهل نستطيع اقتطاع أنفسنا من مجرياتها لنفتح أعيننا على شرفة كتاب أو إطلالةٍ لا تفضي إلى جحيمنا اليومي؟

سماورد: أقول تعالي وكوني معي / ولكنَّ قلبك كان معه ..” حين تتشظى على روح أنثاك، روح الشعر الأزلية في صراع الحب. هل تنهمر ذاتك في ضفة واحدة ؟!

الجابر: هذا يشبهُ كثيرًا تجربة الشعور المختل في كتابة قصيدة تكاد تنفخ فيها من روحك لفتاة لا تعرفها، ولا تعجبك أصلا، بل أنك لم تسمع صوتها وربما لم توجد يوما لتلمحَ تحديقك بمرورها السريع من أمامك. كل ما أردته هو أن تكتب قصيدة وحسب، لكنك أخيرًا سألت نفسك: “ماذا لو كانت الحقيقة أني كائن يبتكر أحداث حياته من كذبات كتابية محكمة”.

سماورد: ما الذي أكتب الآن أو كيف أكتب والقلب قفرٌ يباب، والبداية تبدو قصية”..كيف كان شاعرك الأول؟، ما هي حاجتنا للشعر؟، كنت طيرًا في موسيقاك، لكن رغم عريك لا تتخلى عن وقوفك خلف الباب الموارب لشعورك .. لماذا ؟

الجابر: لم أصنف ما أكتب على أنه شعر؛ أعني حتى الآن حين تتبادر المحاولة الأولى في البعد الآخر مني حين كنت ملطخًا بالطين ومنتعشًا بماء البحر. هذا الكائن الذي كان يركض طويلا برجليه اللتين لم تتوخيا يوما حذرَ ما ينبت في الأرض من حصى وأشواك. حتى صوت الريح وهي تعصف ألحانها كانت تقولُ شيئًا حينها، خرير الماء متدفقًا يروي نبات عمري كان يقول شيئًا حينها، كنتُ غنيًا رغم الفاقة وضيق عين الرضا. شاعري الأول هذا الذي كنتُه حتى لو لم يندلق في كتابة ما واحتفظت قارورته بكامل أسرارها.

ما حاجتي للكلام حين تكون أصابعي قادرة على كتابة فكرتي؟ لساني لا يحسن صفّ الحروف ولم يكن وسيلة التعبير عندي يومًا. أن تسأليني ما حاجتنا للشعر يعني أن تسأليني ما حاجتنا للكلام أو التخاطب ربما.

أنا لا أقف في مكان إزاء شعوري، أنا أهربُ منه وأتجنب ما يرتبه من ارتباك أو فوضى لا أحسنُ التعاملُ معها داخلي. أرفض ما يفرضه الشعور أحيانا لكني أستسلم لزمام أمره وأصل معه –ربَّما- لصيغة مفاهمة على شكل نص. لا أرتب النصوص على الشعور في غالب الأمر لكنه كثيرًا ما كان يرتب كلماتي ويصيغها على قدر ما يحتمله الرتم المتخمّر فيه حال انفجرت موسيقاه.

سماورد: المسافات/ الحنين/ الموت كاستعارةِ للنهاية واليأس، وكحقيقةٍ تحوّل المحطات في حياتنا إلى مسارٍ آخر، كل هذه الوجوه في النص أو في الواقع تأخذ منا مأخذًا عظيم. ما هي وجوه الفرح، لن نبالغ سأستبدلها بالاطمئنان؟!

الجابر: أنا كائنٌ يعيشُ في دوامةِ القلقِ ويتنازعه الشكُّ في كل ما حوله فالاطمئنانُ كحالةٍ أبعدُ من أن تنالَ وفقَ توترات اليومي والمعاش. كثيرًا ما أُسألُ عن النظرة التشاؤمية والحزن العميم في ما أكتب، لكني بشكلٍ محدد لم أخترع شيئًا لم أرَ حقيقته ولم أتلمّس طباعه. فإن كنتُ لا أجيد التعبير عن الفرح وأحبذ السكوت عن مروره بي فذاكَ أني لم أتعمّد أيضًا اقتحام أقاليم الحزن أو أتخطَ حدودها بإلحاحٍ من لدن نفسي. ما الذي يمكن أن يتبلور حين يستبدُّ بي ذلك الشعور الذي يُظنُ في ظاهره أنهُ شعورٌ سلبي غيرَ أن يتحوّل تلقائيا إلى خامة أستطيع تفصيلها بما تتسع له لغتي وتدرك أبعاده مخيلتي. لكن في معظم الأحيان يتحوّل إلى هذا الشعورُ إلى ما يشبهُ الطنينَ الحاد الذي لا أتمكن من التقاطِ نغمته أو فهم تخلخلاته وسكناته..

سماورد: يقول درويش ليس لي ما أجده داخل الشعر إذا لم أكن ممتلئًا بالخارج..” والجابر الكائن الاجتماعي واقعًا، المنعزل افتراضًا .. كيف يقرأ الخارج والداخل في النص وفي الواقع؟!

الجابر: الواقع في بحر اللغة ويتعاطى الفكر قد يحتاج أن يمتلئ بالخارج قبل أن يقع في فحوى نص، أما نحنُ المرهقون بجرّ أغلالِ الواقع فلا أعتقد بأن نصًا سيولدُ إلا نكالا. الإنهاك الحاصل وسط ضجيج الآلات وأضواء الشاشات يقلّص الفرص في الكتابة خصوصًا في وقع لغةٍ بديلةٍ أو متجردةٍ من المشاعرِ أو الجماليات الشكلية. حين تغرق في بحرٍ من الكلماتِ والأرقام البعيدة عن لغة النص ولا يسعفك الوقتُ لقراءةٍ قد تحكُّ الصدأ المتراكم على مفاصلِ أفكارك فلن تبرحَ القاع الذي يعميك عن التنفس أبداً.

سماورد: اللغةُ عقلٌ منفتح، واللغة الجديدة فكرة وعالم وثقافة .. الجابر الذي يترجم ما يلامسه من الأغاني، ويفتتح رؤى قصائده في ” ذاهلاً تسعى إليك الجهات ” بإحساسٍ غير لغة النص، كيف يقرأ هذا الامتزاج ؟

الجابر: علّقتُ على عتبة كل نص في المجموعة يافطةً من جملةٍ مؤثرة لأغنيةٍ ما، جملةٍ أشعرُ بعمق معناها وتأثيره فهي اللوحة الجميلة التي تزيّنُ جدار النص الأخرس. النصوص كُتبتْ لتترجم اللحظة والاختيار للجملة أتى لاحقًا لتكون مدخل تلك اللحظة بما ارتأيته من اندماج للحالة التي تواتيني في كلٍ منهما.

سماورد: في كل إصدار كان الجابر يخرج بشخصية وأن تشابهت في بعض مضامينها إلا أنها اختلفت في الشكل، في الإصدار الأخير اختزلت الرؤية والعبارة في نص قصير، وعبارة قصيرة.. ما الذي يسوغ للشاعر في هذا السياقات، ويؤثر فيها وعليها؟

الجابر: ربما تكونُ لياقة الكتابة واسترسال انسكاب الفكرة في صفها كلماتٍ على رقعةِ القصيدة. لا أفكر في الشكل لكني مؤخرا كتبتُ نصوصًا متفاوتةً بين الطول والقصر. في الإصدار الأول “متسع للرحيل” جاءت “الهلوسات” كنصوص قصيرة ولربما لم تجيء مثلها في الإصدار التالي “وحيدًا في امتداد خطاك”، هنا أيضًا لا أجزمُ بشكل النصوص القادمة لو استطعتُ المواصلة في الكتابة لإصدار جديد. هي لحظة الكتابة التي تقرر كيف ستنكتب الفكرة وعلى أي نوتةِ أو طولٍ في إدراجها.

 

فاضل جعفر الجابر

مواليد عام 1975، سنابس – جزيرة تاروت – محافظة القطيف – شرق المملكة العربية السعودية.

– هندسة كهربائية تطبيقية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. الظهران عام 1998مـ.

– E-mail to: faljaber@gmail.com

صدر له:

– متسعٌ للرحيل – مجموعة شعرية – الدار العربية للعلوم 2006مـ.

– وحيدًا في امتداد خطاك – مجموعة شعرية – دار فضاءات – 2011مـ.

– مساحةُ لعنٍ شاغرة – رواية – ضفاف – أطياف – 2016مـ

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. فريد نمر يقول

    حوار جميل ومثقف وممتع من جهة الأسئلة والشاعر المتأمل المبدع الجابر دامت ابداعاتكم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.