قلعة صلاح الدين.. الجدار العازل بين الحاكم والمحكوم

صندوق الدنيا - القلاع

0 458

محمد زهران – روائي مصري-سماورد

كنت في الثانية عشرة من عمري، عند الاستكشاف الأول للقلعة بأبراجها وأسوارها المهيبة. نصطف خارج الباص المدرسي. نتطلع مبهورين لهذا الكيان المهيب. يبدأ الأستاذ طلعت مدرس التاريخ حشو رؤوسنا بالتلقينات المدرسة الرنانة. فقد شيد القائد العظيم صلاح الدين هذه القلعة لحماية مصر من الأعداء. بنيت القلعة من مادة الحجر. يزيد ارتفاع الأسوار التي تتخللها الأبواب عن عشرة أمتار. سمك الجدار يزيد عن ثلاثة أمتار. ارتفاع الأبراج يزيد على العشرين متراً. بدأ تشييد البناء في عام 572 هـ على يد الناصر صلاح الدين، ولم يكتمل البناء إلا في عهد السلطان الملك الكامل محمد، أول من اتخذها مقراً للحكم.

لم يذكر لنا الأستاذ طلعت، في استعراضه التاريخي، أن البقعة التي أنشئت عليها القلعة كانت عامرة بالمساجد والمقابر التي أمر صلاح الدين بهدمها لبناء قلعته. كما تم تدمير بعض الأهرامات الصغيرة التي كانت بالجيزة لاستخدام أحجارها في عملية البناء.

كان أول تمرد من عقل الطفل الصغير على تلقينات الكتب المدرسية هو التساؤل. إذا كان الهدف من إنشاء القلعة هو حماية مصر من الأعداء، فلماذا لم يتم تشييدها على أحد الثغور التي ينفذ منها الأعداء سواء في الإسكندرية أو دمياط؟!

بعد سنوات قلائل من تشييد القلعة تعرضت مصر لواحدة من أشرس المعارك الصليبية. اضطر معها الأيوبيين لحرق مدينة دمياط حتى لا يستفيد منها الصليبيون. وظلت المعركة دائرة في منطقة الدلتا بين كر وفر؛ حتى انتهت بخسائر فادحة للجانب الأيوبي وهزيمة الصليبين في المنصورة؛ فلم يكن للقلعة دور يذكر في صد أي عدوان، بعد كل ما أنفق عليها من دم الشعب المصري. فالمرويات التاريخية والشعبية تحوى عشرات القصص عما فعله بالشعب المصري بهاء الدين قراقوش وزير صلاح الدين، حتى يتم بناء القلعة؛ فصار اسم قراقوش في التاريخ المصري دلالة على البطش والتجبر.

مع القراءة المتأنية لأحداث التاريخ، تستكشف أن صلاح الدين لم يقم ببناء القعة حماية لمصر من خطر الأعداء؛ ولكن حماية له ولرجاله من أبناء البلد الذي يحكمه. فصلاح الدين كان سني المذهب يحكم دولة عاشت لسنوات طويلة تحت حكم الدولة الفاطمية شيعية المذهب. وسواء كان الشعب المصري في ذلك الزمن قد اعتنق المذهب الشيعي أم لا، حسب المجادلات العقيمة للمؤرخين، فقد كانت تلك الفترة من أكثر عصور مصر استقراراً في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

كانت القلعة نقطة تحول في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فقبل القلعة كان قصر الحاكم محاطاً ببيوت العامة. يخرج وسطهم لأداء الصلوات والاحتفال بالمناسبات والأعياد. بعد القلعة، أصبح الحاكم قابعاً فى برجه العاجي، محاطاً بحاشيته وجنوده. يسيطر عليه هاجس الانعزال والخوف من تمرد العامة؛ فيبالغ بإحاطة نفسه بالأتباع في هذه القلعة الحصينة حتى لو اضطر لشراء هؤلاء الأتباع. وهى السُنة التي ابتدعها أبناء أيوب بشراء العبيد أطفالاً، وتربيهم تربية عسكرية ليكونوا درعاً واقية لهم؛ حتى استفحلت الظاهرة وصارت دولة حكمت مصر لقرون من هذه القلعة الحصينة.

على مدار العصر المملوكي، تجلّى الدور الحقيقي للقلعة. فمن يسيطر عليها يسيطر على مقاليد الحكم. فئات متناحرة تتقاتل تنتهي صراعاتهم بالأقوى والأكثر عدة وعتاداً يتمكن من اعتلاء عرش القلعة، فيتم تنصيبه حاكماً على البلاد. يدين له الجميع بالولاء حتى يظهر من هو أقوى منه فيستطيع اقتحام أسوار القلعة فيتم تنصيبه. وهكذا، وفق مبدأ البقاء للأقوى. ظلت هذه الحقيقة المُرّة هي المسيطرة على واقع الحكم المصري، حتى عصر الخديوي إسماعيل الذي نزل بحاشيته ورجاله من القلعة إلى قصر عابدين، في تقليد لملوك وأباطرة أوروبا، الذين كان الخديوي مولعاً بتقليدهم. والمفارقة، أن إسماعيل بعد نزوله من القلعة، كان من السهل إزاحته عن العرش وتنصيب ابنه بدلاً منه؛ وكأن مهابة الحكم قد ضاعت منه بنزوله من القلعة.

مفارقة أخرى في تاريخ القلعة هي حالها وقت الحملة الفرنسية. فمع كل ما ذكره التاريخ عن الحملة وثورات أبناء القاهرة ضد الفرنسيين، لم يكن للقلعة دور يذكر في كفاح أبناء القاهرة ضد المستعمر، مع أنه كان من المفترض أن تكون إحدى بؤرات الغليان ضد المحتل فكل ثورات القاهرة كانت قاعدة انطلاقها من الأزهر الشريف؛ بل استغل المحتل القلعة بارتفاعها لضرب القاهرة بالمدافع.

كان هدف صلاح الدين من تشييد القلعة أن ينشأ دولة تحكم الدولة. فحرص على أن يوفر لهذه الدولة كل ما يضمن لها استقلاليتها حال تعرضها للحصار الشعبي. ورغم أن صلاح الدين لم يسعفه العمر ليهنأ بحلمه، فقد حرص كل من جاء بعده على إكمال الحلم. فحرص كل حاكم على أن يضيف لمنشأتها من القصور والدور والمساجد، ما حوّلها بحق إلى مدينة عسكرية متكاملة تداخلت عمائرها لتشكل مجموعة معقدة من المباني. تحولت اليوم لعدة متاحف يغلب عليها التوثيق للجانب العسكري والحربي والتنظيمي لكيان الدولة، كما نرى تحديداً في المتحف الحربي ومتحف الشرطة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.