الصورة والإحساس المضاعف بالمكان..تجربة شخصية

ورشة فن - فوتوغراف

1 778

أثير السادة – السعودية

إذا كانت واحدة من حسنات الصورة الفوتوغرافية أنها ترفد الزمان الماضي بديمومة في الحياة، ترفعه من حيز الغياب إلى حيز الحضور، فإنها تهبنا أيضا قدرة على التوغل في المكان، بمعنى اكتشافه والانغماس في تفاصيله، وهذا كما سيأتي الحديث عنه بالتفصيل خلال السطور القادمة لا يتصل فقط بما تقدمه الصورة من وثائق تعرض تفاصيل المكان، وتقدمه في صيغة تجعلنا قادرين على التفاعل معه بنحو مختلف، وإنما له صلة بما يتجلى للممارس على مستوى التصوير من أفكار ومعاني وما يجمعه من قصص وعلامات، تضعه في حالة تماس عاطفي مباشر مع المكان الذي ينشغل بتصويره.

هنالك فرق حقيقي بين مشاهدة المكان عبر الصورة وبين تصويره، أنت ترى في الصورة سكونها ساعة المشاهدة، بينما يراها المصور في حالة كثيفة، حالة يتصل فيها المشهد بما قبله وما بعده، ويفيض بأصواته وروائحه، وبالعلاقة التي ترفعه من حيز الجماد، إلى حيز الكائن الحي، وبالتحديد في هذا التفاعل الإنساني بين المكان والناس، الصورة بالنسبة للمصور هي منصة لتذكر ما هو خارجها، وما يحيط بها، لذلك تبدو الصورة له سنادات بصرية لذاكرة مفتوحة على تفاصيل لا يسعها إلا السرد.

بالنسبة للمصور، الصورة هي تمرين يومي على النظر، والنظر بعمق، تبدأ العلاقة مع المكان عابرة وسرعان ما تصبح متشعبة وممتدة في كل الاتجاهات، تتحول فيها الصورة إلى دليل ومرشد إلى الاحتمالات الأخرى التي يكتنزها المكان في داخله، وحتى أبسط الأمر، دعوني أذهب مباشرة إلى صورة بسيطة، أعتقد بأنها كانت المحرض الأكبر  ب-النسبة لي- على الانشغال بالوجه الأخضر لمدينتي وللمحافظة بنحو عام.

في عام 2010 دعينا للمشاركة في دورة للتصوير الوثائقي يقيمها المجلس البريطاني بالخبر، ويحاضر فيها الاستاذ اللبناني الكندي كميل زكريا، دورة استمرت لأسبوع واحد أو أسبوعين لا أتذكر جيدا، لكنها حملتنا للذهاب أبعد في فهم الصورة الوثائقية، ولعبة التوثيق بالصورة، كان على كل مشارك أن يختار موضوعا هو بمثابة مشروعه الذي سيقدم ضمن الورشة، وسيعتمد لاحقا ليكون ضمن معرض جماعي لاحق يموله المجلس، المعرض لم يحدث طبعأ، لكنها كانت فرصة للمشاركين للاشتغال على مشاريع وثائقية متنوعة.

كنت يومها حائرا أي موضوع أختار، وأنا الذي انطلقت قبلها بأعوام أوثق بعضا من حياة الناس، أراقب بعدستي الوجوه والتجمعات وكل ما يصف إنسان هذا المكان، فكرت بمشروع يرصد وجوه الجالسين على الأرصفة، بحيث يجري تنفيذ الفكرة لتدمج لاحقا ضمن رصيف واحد يحكي سيرة المكان..الوقت وتعقيدات العرض لاحقا جعلتني أنصرف للتفكير في خيارات أخرى..كنا يومها في شهر شوال، وصادف أن عبرت في رمضان من أزقة الديرة بالخويلدية، النهار الطويل دفعني مع أحد الأصدقاء لاكتشاف هذا المكان المليء بعناوين الدهشة.

لست غريبا على تفاصيل البيئة التقليدية، ولا على الديرة كنواة أولى للقرى والمدن قبل اتساعها، لكن ثمة أشياء أخذتني إلى الانغماس في هذه التجربة، كنت أتأمل تفاصيل العمران القديم، والأزقة الضيقة التي تنتهي إلى متاهات مغلقة، أتهجى لغة الألوان والتطاريز، أحصي عدد العربانات، أقف متأملا في منظر الرواقات القماشية الساترة، وصوت الصبية الصغار، كتبت بعدها مقالة تحتفي برائحة المكان، برائحة الرز في المشاخيل، ورائحة القرنفل، بسحنة الناس العابرين من هذه الأزقة، هنا لم يتغير لون الناس، في الوقت التي أصبحت الأحياء القديمة في مدينتي مساكن للعمالة.

تذكرت كل تلك التفاصيل وذهبت راكضا لأعيد الزيارة ثانية وأرصد بعدستي هذه المرة ملامح المكان، بدت الخطوط العريضة لمشروعي الخاص بالدورة تتضح، سأرصد الحياة اليومية والتفاصيل العمرانية لهذا المكان، حي الديرة بالخويلدية، وقد جمعت عددا جيدا من الصور، صور وهبتها روح السائح بداية، قبل أن تهبني روح المكان وناسه ويتشابك العمران والإنسان في هذا المشروع.

وكأي مصور، يظل مشغولا في تعقب الأفكار واللحظات لخلق صورة  أو مشروع فوتوغرافي ما، واصلت الطريق باتجاه اكتشاف المكان، وهذه المرة باتجاه الأرياف، وبالتحديد الوجه الأخضر للمكان، كانت الصدفة وحدها من قادني لذلك..وكعادتي، كنت أتحايل على الطرقات السريعة في طريق العودة من العمل، وأسلك طرقا متعرجة تعبر بي داخل المدن والقرى، فأعود من رأس تنورة عابرا من صفوى والعوامية فالناصرة والقطيف وصولا إلى مسقط رأسي سيهات..طريق لا يعرف السرعة، ولا قلق الحوادث الذي اعتدنا عليها في الطريق السريع، طريق يهبك النظر للناس والعمران ثانية، غير أن الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة جعلت من هذا الطريق غير سالك بالتمام، فكان الخيار الجديد وهو العبور من الجش عبر المزارع التي تعرفت على اتصالها بمزارع سيهات لأول مرة في هذه المرحلة.

وجدتني أكتشف وجها جديدا لمدينتي، وصلة جديدة بينها وبين الفضاء المحيط بها، هذه المدينة التي تتخذ من البحر عنوانا لها في كل شيء، تتغنى به وترفع من قدره في ذاكرتها المنسوجة على هامشه، مدينة يرى ناسها أنهم “نواخذة بحر”، بدأت أصغي كثيرا لحفيف الشجر هناك، لمواسم الحصاد، لوجوه الضاعنين في تلك المزارع المشتركة بيننا وبين الجوار، اكتشفت يومها “سيحة سيهات” التي تمتد غربا حتى عين الكعبة، وتعرفت إلى سيرتها الممتدة في ذاكرة الآباء.

كان الجوال باب الولوج الأول في تفاصيل المكان إياه، كنت أجمع لحظات الدهشة وأرويها للأصدقاء، هم يرون الصورة، وأنا أرى مايحيط بالصورة من تفاصيل عميقة، تعلمت الإصغاء للأرض وناسها، أحاور الفلاحين وأدون على هامش الصورة شيئا من حكاياتهم..هنا لم أكتشف جماليات المكان فقط، بل اكتشفت هويته أيضا، اكتشفت بأن سيهات هي مدينة تتنفس النخيل والبحر معا، وأهلها أهل نخل كما هم أهل بحر، الأمر الذي دفعني لإعادة تعريف صورة سيهات، ومراجعة السرديات الشائعة والتي تدفع ناحية تهميش الجانب الزراعي من سيرة المدينة.

حقروص كانت ذروة الاشتغال على جماليات البيئة الزراعية، وعلى سبر الذاكرة البديلة كما أسميها، والتعرف أكثر على سيحة سيهات التي تنكمش يوما بعد يوم، وتخرج من الحدود الإدارية لسيهات، كتمهيد لتحويلها إلى عناوين جديدة للتوسع العمراني في القرى المجاورة والتي لا سبيل لتوسعها إلا في اتجاه الغرب شمالا وجنوبا.

في حقروص التقيت واحدا من وجوه الأرض يتجول في في مساحة زراعية مكشوفة، بادلته الحديث، وبنيت جسرا عاطفيا يكفي للوصول بنا إلى مرحلة التصوير، صورة تلو صورة، لأصل إلى صورة تحكي عن بهجة هذا المزارع ورفعته وهو يلتصق بجذوره وأرضه، ويتمسك بصناعة ورثها عن والده الذي صادف أن يكون واحدا من الأسماء التي كنت أتعقب أخبارها في تغطيات جريدة قافلة الزيت التي تصدرها أرامكو…كانت هنالك الكثير من الأخبار و الصور التي تروي الشراكة بين علي معتوق في سيهات وشركة ارامكو وذلك على صعيد تجربة زراعة بعض المحاصيل الزراعية الجديدة، حفلت الجريدة بتغطيات مختلفة لعلي معتوق ومزرعته وكانت المصادفة أن أقف حيث وقفت القافلة توثق وترصد هذا الرقعة الزراعية.

أصبحت الصورة مجرد بابا للولوج أكثر فأكثر في ذاكرة المكان، والتعرف على ملامحه، وتحولاته، هنالك رحت أجمع شهادات عن هذا المكان الزراعي الذي يتشارك فيه أهل الجش وسيهات، أهز ذاكرة الآباء لاستعادة صور غير مرصودة عن رحلة الصيف ومضاعن أهل سيهات فيها، عن السيرة الزراعية المهملة لمدينة تحب أن تتغزل البحر دون غيره.

في قبال الصور التي كنت أجمعها ومازلت، كنت أجمع الأخبار والذكريات، أدون بعضها وأسجل بعضها الآخر بالصوت أو الصورة، كمن يريد ترميم ذاكرته وإعادة ترتيبها، حلمت بكتابة سيرة عبدالله بن حسين ، حاكم سيهات، كواحد من أبرز الأسماء التي مرت في سيرة المنطقة، عبر شفاهيات الفلاحين، و كبار السن، كما حلمت بجمع سيرة الحاج ناصر بن ناصر  الذي تعود له الكثير من الأملاك الموقوفة في سيحة سيهات وسواها، وساهم في بناء الكثير من المساجد والحسينات، ولا يعرفه أحد، وكذلك عين الكعبة التي كانت تقف شامخة كواحدة من الأطلال العتيدة قبل إزالتها، وهي العين التي تدور حولها الكثير من القصص والأساطير.

هذا الانغماس في المكان تجلى مرة أخرى في صورة تعقب واحدة من علامات البيئة المحلية، وهي الطيور، لم أكن أحسن التمييز بينها، ولم أكن أشعر بمواسم الهجرة، قبل الانخراط في مراقبتها وتصويرها، هنا بدأت مرحلة أخرى في اكتشاف وجه آخر من وجوه المكان، الطيور المهاجرة، والتي تمثل أيضا جزءاً من ذاكرة الناس والأرض في هذه المنطقة..لم أكن أعرف شيئا عن مواعيدها، ولا مواقعها، ولا أنواعها، حتى صرت أجرب تصوير ما أراه مختلفا عن الطيور الدارجة محليا..استفدت كثيرا من وجود أصدقاء منشغلين بهذا الجانب، في الجهتين، مصورين وصيادين، وكلاهما يقف على طرفي نقيض، غير أنهم يشتركون في امتلاكهم لحصيلة معرفية حول سلوك هذه الطيور ومواعيد وصولها.

مع هذه التجربة، صرت أرهف السمع لكل صوت يحط في أذني، أتدرب على تمييز طائر عن آخر، واكتشاف ما إذا كان في المكان طائر زائر جديد، حساسية نمت مع الوقت، حتى بات بالإمكان إدراك مواقع الطيور وأنواعها من الشكل وطريقة التحليق، وأحيانا مواضع تواجدها.

هذه المحطات على اختلاف عناوينها، كانت جميعها تحرضني على اكتشاف المكان في صورته المكثفة، في أبعاده الكثيرة، في تحويل الصورة إلى أداة محرضة للتفكير، والبحث، والتفتيش في تفاصيل مهملة، كانت هي الدليل على أن الكاميرا قادرة على أن تكون طريقة للتفكير بمثل ما هي طريقة للنظر، بها نعرف بمثل ما نرصد وندون ونوثق، ما يجعل من المصور صاحب مساحة واسعة للاشتغال ثقافيا وجماليا.

* الصور من تصوير الفوتوغرافي والناقد أثير السادة، يمكن مطالعة المزيد من صوره على

صفحته في الانستغرام

Atheer Al-Sadah (@atheer93) • Instagram photos and videos

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. حسين الرضواني يقول

    مقال رائع
    كروعة الكاتب الذي ينقلك بحروفه و كلماته إلى أرض الواقع
    السيد أثير السادة
    طاقة مشعة من الإبداع اللامتناهي
    و يمتلك من الثقافة ما يؤهله لشغل حيز كبير لخدمة
    الشأن الثقافي في مجالات متعددة كالمسرح و الصورة و النصوص الإبداعية و المقالات الناقدة.

    أنا أحد المعجبين جداً باطروحاته و اثارته الهادئة !
    التي تشغل حيز من التأمل في عقولنا و قلوبنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.