رهانات العمل الروائي..جدلية الناقد والمبدع*
كه يلان محمد – العراق
لا يكفي تزايد عدد الاصدارات الأدبية وتراكم العناوين والأعمال من شتى الأجناس لإحداث التحول في التعامل مع المعطيات الواقعية على المستوى الابداعي إنما يتطلبُ التطور النوعي إطلاق حلقات النقاش بشأن ما تشهدهُ الحقول الثقافية والأدبية من الظواهر. فمن المعلوم أنّ مواكبة الواقع على الصعيد المعرفي يستدعي إعادة ترتيب الأوراق، وتفحص منطلقات المنجز الأدبي وإثارة السؤال عن المحتوى ناهيك عن حتمية الاهتمام بالشكل والأسلوب، وما يمكنُ للنقدِ أن يقدمه في هذا السياق. حول هذه المواضيع أطلقنا حلقة نقاشية بمشاركة الدكتور حسن سرحان من العراق والدكتور لونيس بن علي من الجزائر حيثُ يكون لكل منهما رأي وتعقيب على إجابة الآخر. من بعدها، استكملنا حلقة النقاش بأخذ هذه الأسئلة بمعية إجاباتها من الدكتورين لطرحها على إثنين من الروائيين هما الكاتب محمد سعيد أحجيوج من المغرب الكاتب نجم والي من العراق، لغرض استكمال بعض جوانب الصورة من وجهة نظر الروائي كمبدع للنص.
*تناولت في مقالاتك ظاهرة تكرار الثيمات والمواضيع في الأعمال الروائية التي صدرت مؤخراً كيف تفسرُ هذا الأمر، هل تعتقدُ بأنَّ شحة الوعي بأساليب كتابة الرواية هو السبب، وهل يساهم تراكم الإصدارات الروائية في تكريس مفهوم صنعة الرواية؟
حسن سرحان: تكرارُ الثيمات، بحد ذاته معزولاً عما يتصل به من مثالب متوَّقَعة، ظاهرةٌ طبيعية لا تقتصر على الرواية العربية دون غيرها فالرواية العالمية تشهد من فترة لأخرى عودةً قوية لباقةٍ من مواضيعها الأثيرة حتى أن بعضَ هذه المواضيع المستعادة تحولت، لكثرة ما تم تدويرها ولشدة ولع الكتّاب بها، إلى أساطير سردية تمتلك حضوراً احتفالياً يكاد أن يكون وجوبياً يفرض وجوبَه على الرواية الزمانُ والمكانُ وطبيعةُ التلقي في مرحلة ما من المراحل التاريخية. رغماً عن التكرار والإعادة، ما زال قسمٌ من هذه الثيمات محتفظاً بثرائه ولم يستنفد بعدُ كلَّ طاقاته التعبيرية سيما ذلك النوع من المواضيع الذي تحول، بفعل ديناميكيته واستراتيجيات توظيفه ومهارة التعامل معه والإفادة منه، من مجرد كونه ثيمة روائية الى معطى تاريخي تتكثف فيه وتتكشف عبره طبيعةُ تأريخ أمة بأكملها في لحظة فاصلة من لحظات وجودها. مثال ذلك موضوعةُ الحنين التي عرفتْ، منذ مطلع الألفية الثالثة وقبلها بقليل، حضوراً استرجاعياً كثيفاً جعلها المحورَ الأساس للكثير من روايات تلك الفترة ولعددٍ لا بأس به من روايات اليوم. أزعم أن ليس في تكرار الثيمات ما يثير الخوف لو أُحسن استثماره، فبعض التكرار لا يُمل، وروايات موديانو وبيريك وقبلهما روب-غرييه وبانجيه، من بين آخرين، تعدُّ من النماذج الفاخرة على روعة التكرار؛ حيث المدار كيفية التوظيف ومبرَّرُه الفني وإمكانية المبدع الاستثنائية في قول الشيء نفسه بطريقة مختلفة في كل مرة يعاد فيها تناول الموضوع ذاته.
لا ينطبق، إذن، أمرُ تكرار الثيمات على الرواية العربية فقط، لكنه ينطبق عليها بشكل خاص لأنها حبست نفسها داخل حيز “الثيمات الكبيرة” ذات الأبعاد الشمولية والامتدادات الفضفاضة المفتوحة التي تتجاوز طموحاتُها التعبيرية بكثير التجربةَ الفردية العادية إلى الرغبة في تغطية تجربةِ شعب كامل أو جماعات واسعة منه. روايتُنا لم تغادر بعدُ منطقة الأسطورة، فهي تريد أن تسرد حكايةَ أمة لا حكاية فردٍ يتمركز اضطراراً في نقطة صغيرة في برهة زمنية ما داخل أو خارج هذه الأمة، وقد لا تثير لحظةُ وجوده القلق اهتمامَ أحدٍ في هذا العالم. رأيُ بلزاك الذي بحسبه ينصِّبُ الروائيُ نفسَه أميناً عاماً للمجتمع ما عاد صالحاً ولا ذا مقبولية وبلا أية قيمة تذكر في عالم ما بعد الحداثة، حيث تساقطت قيمٌ وثوابت اجتماعية، فنية وثيماتية ونشأت أخرى زعزعت اليقينيات وخلخلت السائد منها والأشد رسوخاً. إن لحظة الوعي بمجموع هذه التغيرات، تلك اللحظة التي جسدتْها بشكل مبكر روايةُ جويس وبروست بداية القرن المنصرم، هي من فتحت الطريق أمام الرواية الغربية للتحول من رواية المجموع الى رواية الفرد. إن التغير الهائل الذي طال حياة الفرد العربي على جميع المستويات منذ بداية العشرية الأولى من هذا القرن شكَّلَ مفترقَ طرقٍ لم تُحسن الروايةُ العربية التعاملَ معه واستثماره لتجديد ثيماتها وضخ مواضيع مختلفة بالدرجة التي استثمرت وتعاملت بها الرواية الغربية مع أحداث فاصلة كنهاية الحرب العالمية الثانية مثلًا.
أؤمن بأن تطور الرواية يكمن بالنوع لا بالكم؛ لذا فإني أشك كثيراً في أن يساهم تراكمُ الإصدارات الروائية في تكريس مفهوم صنعة الرواية، سيما عندما تأبى الرواية وكتّابُها منح النقد والناقد الفرصة المناسبة لتأمل واقعها، ومراجعة مسيرتها وفحص حصيلة مشوارها. تتمتع روايتنا العربية بظاهرة تكاد أن تكون خاصة بها، وذلك أنها لا تصغي للنقد؛ إذ ترى نفسها أعلى مقاماً منه ويجتهد كتّابُها في التقليل من قيمته، وينشغلون بالحط من شأن الناقد الذي يفرضونه مبدعًا فاشلًا تحوّل إلى النقد سدًا لنقص فيه وملأً لفراغ عنده. لن تتطور الروايةُ عندنا على النحو المأمول إلاّ عندما تجيد الإنصاتَ لصوت النقد ويعي كتابُها أهميته في تحديد المسارات ورسم خارطة التحولات ولو أن دون ذلك خرطَ القتادِ.
لونيس: هناك سؤال لابد من طرحه: ما الذي لا يكون موضوعاً للرواية؟ إذا لم تجد الرواية موضوعًا للكتابة عنه، كتبت عن نفسها، فظهرت الميتا رواية. لكن أريد هنا أن أشير إلى مسألة أساسي
ة، في سياق الحديث عن التكرار. الموضوعات تتكرر، إما محاكاة أو سرقة أو صدفة، لكن ما لا يتكرر هي الأساليب. ما يهمني أنا في الرواية هو أسلوبها، وطريقة كتابتها، وكيفية اشتغالها على الأشكال، بل أعتبر أن الرواية هي مغامرة تجريبية تؤسس وجودها الفني والجمالي على بحث (ناتالي ساروت) مستمر عن الشكل الفني. فلعبة الشكل لا تعني الوقوع في محظ المقاربة الشكلانية لفن الرواية، بل تعني أنّ الموضوع يتخذ معنى ما بحسب علاقته بالشكل الفني للرواية؛ ففي رواية جيرمنال لإميل زولا، كان واضحًا أن الروائي في توزيعه لعالمه الروائي بين عالم ما فوق الأرض وعالم ما تحت الأرض (المناجم) كان في واقع الأمر يكشف لنا عن الهندسة الاجتماعية في مجتمع طبقي.
محمد سعيد احجيوج: الكسل ربما، أو السعي إلى إرضاء الجمهور، هو الذي يؤزم من مسألة تكرار الثيمات في الأعمال الروائية. التكرار في حد ذاته ليس مشكلة طالما أن طريقة المعالجة مختلفة، أو كما يفترض، مبتكرة. هنا أتفق مع دكتور لونيس. أنا الآخر ما يهمني في الرواية، سواءً قارئًا أم كاتبًا، هو أسلوبها وطريقة كتابتها. الشكل والموضوع عندي لا ينفصلان، ولا يفضل أحدهما عن الآخر. طريقة كتابة الرواية هي جزء من الرواية نفسها. ليس الشكل الفني مسألة جمالية وحسب، بل عنصرًا عضويًا ووظيفيًا يساهم في تشكيل الموضوع وتحديد معناه، أو بالأحرى معانيه المحتملة. لكن ما يحدث لدينا، كما في كل العالم، حين يحقق عمل روائي ما نجاحًا جيدًا، إن على مستوى القراء أو الجوائز، يسعى الكثيرون نحو تقليده، طمعًا في نفس النجاح، لأن الموضوع ذاك أثبت أنه مطلوب في سوق القراء، و/أو سوق الجوائز، أو سوق المنح الأدبية. نرى مثلًا كيف تحولت الأزمة السورية إلى فرصة استرزاق عند بعض الكتاب، المستحوذين على المنح الأوروبية والجوائز العربية والترجمات العالمية. ولهذا السبب نفسه، التكرار الناتج عن الاستسهال والتقليد، لا يساعد التراكم في الإصدارات على تحسين الصنعة الروائية، لا على المستوى الفردي لدى الكاتب نفسه الذي يراكم الإصدارات، ولا على المستوى الأدبي العام، لأن الكثيرين يختارون الطريق الآمن؛ التقليد عوض الابتكار. طبعًا في قولي تعميم لا مفر منه، لكن هناك دائمًا عناصر فردية تخط لنفسها طريقها الخاص، على مستوى الصنعة كما على مستوى الثيمات.
نجم والي: إذا كان هناك تكرار ثيمات، فأنا لا أجد نفسي معنياً بهذه القضية، لأن من صفة رواياتي أنها لا تشبه بعضها. ربما برزت فيها موضوعات الحرب، الديكتاتورية، العنف، الحب، الأقليات، الهامش (وأعني به الإثنين: المكان المهمش والكائن المهمش)، إلا أن هذه الموضوعات احتلت مساحات مختلفة من رواية إلى أخرى. بعضها كان يمكن ملاحظته أكثر بروزاً في رواية ما مما هو في رواية أخرى. جمعها خيط واحد: التمرد (خصوصاً تمرد النساء). هذا الخيط هو بمثابة الصوت الداخلي الذي يمنح التنوع لكل رواية جديدة لي. فمن أجل كتابة رواية جيدة، لا يحتاج المرء غير موضوع جيد ورغبة بالقص، بالسرد، بالحكي. وفيما يخصني، أجد نفسي ومع كل رواية جديدة مثل مبتدئ، هاوٍ يريد أن يروي قصة لم يروها أحد من قبل. وكيلتي الأدبية في ألمانيا، تقول لي، أمر غريب عندك، نجم، كل مرة أقرأ لك رواية جديدة، أريد أن أقترح عليك بعض التعديلات على أساس رواية سابقة قرأتها لك، فأجد عليّ عمل ملاحظات جديدة لرواية قادمة أخرى. إنك كل مرة تولد من جديد.
وأظن لو لم أكن بهذا الشكل لما كتبت روايات مثل “الحرب في حي الطرب”، “مكان أسمه كميت”، “تل اللحم”، “صورة يوسف”، “ملائكة الجنوب”، “بغداد مالبورو” و”إثم سارة”، وآخرها “سعاد والعسكر”، كما ترى هذا التنقل والتجوال يشبه تنقلي بحار على الأرض، من المكان المهمش حي الطرب (حي الغجر وبائعات الهوى) عند المثلث الحدودي العراق، الكويت، ايران وهروب الجنود من مطحنة الحرب إلى هناك؛ مروراً بكميت، ضاحية بعيدة مهمشة تغفو على نهر دجلة في جنوب العراق، ومحنة معلم التاريخ (بطل الرواية) بمحاكمة التاريخ؛ عبر تل اللحم، نقطة التفتيش (Check Point)، حيث توقفت القوات البرية في غزوها العراق ربيع 1991، وحيث حضر إليها العراق بقضه وقضيضه، بكل ما حوى من مهن وطوائف ومذاهب وأديان وقوميات؛ مروراً برواية صورة يوسف وخروج المكبوسين (المرضى) في “الشَمّاعِية” مستشفى الامراض العقلية في بغداد في فوضى دخول المارينز لبغداد في يوم 9 أبريل 2003؛ ثم بغداد ومالبورو وسرد قصة جنديين أسيرين، أميركي وعراقي، طحنتهما الحرب بمطحنتها، يدخنان سيجارتي بغداد ومالبورو على تخوم البادية الجنوبية ويتلوان شعر وولت وايتمان؛ ثم قصة إثم سارة وهي تحكي عن نساء المملكة، وسعاد والعسكر، قصة تلك المرأة التي ما زال يحبها الملايين، السندريلا المصرية وعلاقتها بالعسكر الذين دمروا حياتها. لكي لا أتحدث عن المجموعتين القصصيتين: ليلة ماري الأخيرة وفالس مع ماتيلدا، صاحبتي حانتين في شارع الوطني في البصرة، جعلت اسم كل مجموعة قصصية على اسم إحداهما.
العالم كله يتأسس على التنوع والاختلاف، في الطبيعة، في النبات، بين البشر. ومثلما تزهو الطبيعة باختلافها وتنوعها وألوانها، لابد وللأدب أن يزهو بتنوعه. الروائي الجيد، هو من يعي ذلك مبكراً وعند كتابة أول رواية، من دون وضع غائية أخرى نصب عينيه، كأن تكون جائزة يمنحها فلان أو علان، أو نيل رضى أنظمة وسلاطين وحكام.
*أين دور النقد في ظل ما يشهده الوسط الثقافي من مدٍ في الإصدارات الإبداعية. ثمة من يعتقدُ بأنَّ الناقد لم يعد عنصرًا أساسيًا في حلقة العلاقة بين المبدع والمتلقي. كيف ينعكسُ هذا الوضع على المستوى الإبداعي؟
حسن سرحان: لاستفسارك هذا علاقةٌ مباشرة بالفكرة التي أنهيت بها جوابي عن سؤالك الأول. كيف يُراد من النقد أن يكون ذا دور كبير في جو أقل ما يوصف به أنه معادٍ، يكره الناقدَ غير المدّاح ويستصغر شأنه وينقم عليه، وقد لا يفوِّتُ فرصةً سانحةً للانتقام منه، ويستخف بما قدمه الدرسُ النقدي من انجازات معرفية مهمة واستثنائية منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم؟
الوسط الأدبي العربي في عمومه لا يحب النقد إلاّ إذا كان مجاملًا، أو ينتمي الى ذلك النوع من الكتابات المهادِنة التي يسطرها “نقادٌ ايجابيون”، مسالمون يكتفون خلالها بعرض النص ومناقشة أفكاره والتركيز على محاسنه، ولا يجدون غضاضة في كيل المديح باستحقاق أو دونه إلى الكاتب متجنبين التورط في إثارة الأسئلة الحرجة، المشككة التي تستفز النقاش وتجلب النظر نحو جوانب القصور في النص وفق الطرق العلمية ذات المنهج التفكيري الواضح. الملاحظ أن من يثير الأسئلة غير المرغوب فيها يسمونه في أوساطهم مشككًا ومتآمرًا، ويطعنون به وبعلمه، وقد لا يترددون عن سبه والنيل منه.
على أن سؤالك يؤشر حقيقةً عالمية تخص تراجع أثر النقد في تشكيل الذائقة الأدبية للمتابعين، والخوف من نهاية دوره كحارس للأدب، وموجِّه ذوقي مؤثر في تحديد خيارات القراءة، وصياغة شكل المشهد القرائي الأدبي. لا مفر من الاعتراف بأن وضع النقد اليوم مقلق للغاية والخشية من احتمالية خفوته وتدني منسوب حضوره أصبحت جدية وتقترب من أن تكون واقعًا. لعل من أبرز مظاهر هذا التراجع قيامُ عديد الجرائد الكبيرة بإغلاق الصفحة الثقافية فيها، والاستغناء عن خدمات محرريها، أما تلك التي ما زالت تناضل في سبيل الإبقاء على منشوراتها الأدبية فإنها تراهن على مزاج القلة القليلة من القراء ممن لم يفقدوا بعد الثقةَ بالنقد ويحسنون الظن بالناقد التقليدي، وأعني هنا الناقد المواظب على نشر مقالاته في الصحف الورقية. إن التغير الذي طال مفهوم القراءة في عالم الويب والتكنولوجيا الفائقة الحداثة حوّلا الممارسةَ القرائية من فنٍ له قواعدُه القارة الى غرض استهلاكي ذي إيقاع سريع يناسب مزاجَه الريبورتاجُ الصحفي أكثر حتى من المقال النقدي الملتزم بالحد الأدنى من المعايير العلمية. قد يكون في هذا التراجع بعضُ الايجابية من حيث أن تضاؤل دور النقد قد يساهم في دمقرطة القراءة وذلك إثرَ غياب الوصاية النقدية وتراجع أثر ديكتاتورية الناقد/المرشد على أذواق القراء واختياراتهم.
في كل الأحوال، لا يمكن تجاوز دور النقد ولا تجاهل منزلة الناقد؛ ولا يفعل ذلك إلاّ جاهلٌ أو مدعٍ ضال. لن تحلَّ الملخصات التي يقدمها صحفيون غير مختصين بالأدب، وروائيون يتسلون بكتابة ما يظنونه نقداً محل هذا الأخير، وإن كانت ملخصات الصحفيين وتسالي الروائيين تلاقي رواجًا في أيامنا الحاضرة فهذه النشاطات التي تشجع على الكسل الفكري لن تدوم الى الأبد.
يبقى السؤال عن مصير النقد بلا إجابة حاسمة فقد يضعف الجهد النقدي وينحسر دوره نوعاً ما وينكفئ عنه الناس، لكنه لن يموت لأنه يستمد بقاءه من حاجة الأدب إليه كي يواكب مساره الحثيث ويواصل مغامرته الرائعة.
لونيس: ألم يحن الوقت للبحث عن قارئ حقيقي للنقد؟ فقرّاء النّقد هم في الأغلب قرّاء الرواية، يتعاملون مع النقد كوسيط فقط يسعفهم في قراءة الرواية، أو يكتفون بآراء النقاد كما لو أنّهم يقرأون بالنيابة عنهم. لا نقرأ النقد كخطاب مستقل، ثم لا نقرأ النقد بمتعة مثلما نقرأ كتابًا في الفكر أو في الفلسفة أو حتى رواية. إذ تبدو علاقتنا بالنقد علاقة وظائفية فقط، تنتهي بمجرد معرفة موقف الناقد من عمل ما. أليس النقد خطابًا يمتلك هو الآخر استقلاليته من حيث الرؤية، الشكل، اللغة، المرجعيات؟ منذ مدة كنت أقرأ وأعود باستمرار إلى كتاب “كيف نقرأ ولماذا؟” لهارولد بلوم، كنتُ أعثر في مقالاته النقدية، على قِصرها، الكثير من الجمالية في مقاربة الأعمال الأدبية العظيمة. لا يهمني ما الذي قاله عن همنجواي أو عن شكسبير أو عن تشيخوف، لأني كنتُ أقرأ نصًا فأستمتع به. قد يبدو هذا الموقف غريباً، لكن أنا متأكد أنّ النقد، خارج وظيفة الحكم والتقييم، هو كتابة على قدر كبير من الجمالية، لماّ يضطلع بها نقاد حقيقيون.
محمد سعيد: شخصيًا، كنت محظوظًا حين نالت روايتي القصيرة، كافكا في طنجة، التي لا تخلو من هفوات البداية، على مقالة نقدية بديعة وجدتها نصًا إبداعيًا موازيًا للنص الأدبي نفسه. أنا أريد النقد، أبحث عنه، وأشتهي أن يُشرح النقاد كتاباتي جميعها كيفما يشاؤون. لكن لو أردنا الحقيقة، أين هو النقد المواكب؟ يتصف النقد لدينا بالبطء الشديد، ولا غرابة أن تجد مقالات نقدية كثيرة عن روايات صدرت منذ عشر سنوات أو يزيد، ولا تحصل الإصدارات الحديثة على أي متابعة. حتى لو اعتبرنا النقد إبداعًا في حد ذاته، فإن قيمته المنفعية تختفي تمامًا إن لم تكن مواكبته شبه آنية للإصدارات الإبداعية. لدينا نقص كبير في عدد النقاد، وثمة اعتماد كبير على الصداقات. هناك مشكلة تقوقع الناقد داخل مكتبه في الجامعة… ولعل المشكلة الأكبر التي قادت إلى تلك النتائج، أو النتيجة الأعظم التي قادت إليها تلك المشاكل، هي منصات التشبيك الاجتماعي على الإنترنت، التي بقدر ما
ساهمت في دمقرطة النشر وحق التعليق، قضت على تميز الملاحق الثقافية في الصحف والمجلات، وقلصت بالتالي من فرص النشر والكسب عند الناقد. كما أن استسهال إبداء الرأي، من القراء، ورأيهم مهم على أي حال، ألغى تماما اعتماد القارئ على المقالات النقدية في متابعة ومواكبة الإصدارات، فكان البوار نصيب سوق النقد. كما أشار دكتور سرحان، هذه مشكلة عالمية، فعلى مستوى العالم تراجع أثر النقد في تشكيل الذائقة الأدبية للقراء. المشكلة، أعتقد، أن النقاد لم يستطيعوا التأقلم وانهزموا أمام سطوة شبكات الويب. ما وصلنا إليه مشكلة يتحمل مسؤوليتها الناقد نفسه. على الناقد أن يجد الحل بنفسه لا أن ينتظر نزول الإله في الآلة يحمل حلًا سحريًا.
نجم والي: آسف إذا خيبت ظنك بالجواب. اليوم: لا وجود للنقد في البلدان الناطقة بالعربية. طبعًا، ستقولون لكن هناك استثناءات، نعم، هناك استثناءات وتجدها في بعض النقد الأكاديمي، خصوصًا عند بعض النساء كما هي الحال في العراق (اثنان أو ثلاث أكاديميات حقيقة، لا غير)، لكنني أتحدث هنا عن الظاهرة. والظاهرة تقول، لا نقد موجود اليوم لدى العرب.
هناك طقطوقيات نقدية، سفسطات، ادعاءات، لكنها كلها بضاعة من أجل السوق. وسوق النقد هو مثل سوق الشعر والرواية والبحث في الوطن العربي، هو سوق فاسد، بضاعته بالية، علكة سمجة وتدوير منتوجات قديمة فيها الغث وتفتقد لما هو سمين. ربما كان حال النقد آخر في أعوام الستنينيات والسبعنييات، سنوات تصاعد حركات التمرد والبحث عن آفاق جديدة أفضل، لكن منذ الثمانينيات، وسيطرة العسكر والانظمة الشمولية ورشوة البترودولار، أصبح النقد في مهب الريح، مثلما انتهى امر النهضة وأسئلتها في البلدان الناطقة بالعربية. حتى تلك الأسماء الكبيرة التي اشتهرت وفي عقود مختلفة، فإنها حتى في عناوينها الكبيرة وهي تدعي التحدث عن الرواية العربية، إلا أنها لم تتعدَّ ترديد بضعة اسماء مكررة هي نفسها، وتوقفت عن مواكبة ما يصدر من أدب روائي جديد، ثم أن أغلب هؤلاء الكبار ظل يردد رطانة أيديولوجية لا علاقة لها في الادب، أتذكر كيف اختل تقييم روايات نجيب محفوظ، لأنه وقف مع اتفاق كامب ديفيد في اتفاقية السلام التي وقعها أنور السادات مع مناحيم بيغن، قيل في حينه “لقد كفّ محفوظ أن، يكون روائيًا”، هراء حقيقة.
في بلدان تغيب فيها الحريات ويزداد القمع، يصبح من الصعب على النقد الحديث بصوت عالٍ. في نهاية الثمانينيات وحتى اليوم سادت الرشوة وطغى الفساد على النقد. وأصبح النقد يكتب ونصب عينيه الغنيمة التي سيحصل عليها ممن يمدحه، إذا كان صاحب منصب مهم في بلاده، وزيراً مثلاً أو مسؤول عن دعوات لمهرجانات، بل وحتى إذا كان مسؤول صفحة ثقافية مهمة، ليس من الغريب، أننا نقرأ مدائح لكتّاب هم في الحقيقة من الدرجة العاشرة لم يمدحهم النقد وحسب، بل حصلوا على أهم الجوائز وأكثرها دسماً.
ولكي أكون منصفاً ولو قليلاً، أقول، ربما ابتعد النقد المغاربي قليلاً عن هذه الظاهرة السائدة، إلا أنها مسألة وقت وسيثبت الاستثناء القاعدة. لأن المشكلة في البلدان الناطقة بالعربية، أن أباطرة الرشوة والفساد، لا يتسامحون مع المختلف ولو كان صوتًا واحد وحيدًا. من يغرد خارج السرب، لابد وأن يفعلوا كل ما في وسعهم لكي يجلبوه إلى صفوف القطيع.
الحديث اليوم عن فعالية النقد والنقاد هو مثل الحديث عن وجود أدب روائي عربي مشتبك مع الواقع … أدب خارج الجوائز .. أدب فعال!
*تصاعد دور القارئ العادي، وتمكن من تحويل وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائه ومشاركة أفكاره بشأن الأعمال الأدبية، كما أنَّ تواصل المبدعين مع متابعيهم أصبح مباشرًا من خلال المنصات الإلكترونية هل تجد في ذلك مؤشراً لتراخي سلطة الناقد؟
لونيس: سأوضّح المسألة عبر سؤالك: أولًا، يجب أن نعترف بأنّ وسائل التواصل الاجتماعي عجّلت في سقوط صورة الناقد بالمعنى التقليدي له، أي الموجّه الأساس للذوق العام. وفي المقابل أتاحت هذه المنصات الجديدة المجال لمن هبّ ودبّ ليخوض في الأدب وفي مسائله المعقدة والشائكة. ما عزز هذا الاجتياح للعوام على الفعل النقدي هو الوهم الذي زرعته هذه الوسائط، وهو وهم دمقرطة الخطاب؛ بحيث صار الجميع يشعر أنهم على قدم المساواة إذا تعلق الأمر بإبداء وجهة نظر حول الأدب. صحيح أنّ كلامي قد يُزعج البعض، لكن دعونا نتأمل المسألة من زاوية أنّ العملية النقدية هي عملية متخصصة، وأنها لا تتوقف عند عتبة إصدار الأحكام. لقد غادر النقاد خيام عكاظ، ولم يعد عملهم هو الحكم بين الأدباء من هم أكثر إبداعًا من الآخر. ولو أنّ الحكم التقييمي نفسه قد تم تسفيهه وتبسيطه، حتى أصبح مجرد تعبير عن كسل ذوقي، ومجرد تعبير عن أمزجة تفرضها العلاقات. القارئ اليوم يُمكن أن يحكم على رواية دون قراءتها!
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فالمنصات الافتراضية تحولت إلى بديل بالنسبة للأدباء للانفتاح على العالم، في ظل صعوبة النشر وغياب إعلام ثقافي وأدبي متخصص يعمل على التعريف بالتجارب الأدبية. وهذا لا يلغي المخاطر المحدقة بالعملية الإبداعية بسبب خاصية الإعجاب والتعليقات التي قذ تؤدي إلى خلق حالة تورم في ذات المبدع بالنظر إلى عدد (اللايكات) التي يحصدها. فهل ذلك كاف لتعزيز موقع المبدع في السلّم الإبداعي؟
حسن سرحان: أتفق مع مضمون هذا الرأي ولو جزئيًا، فالجرأة على النقد وعلى ممارسته وادعاء الانتساب اليه أصبح اليوم ظاهرة ينبغي التصدي لها على ما في هذا التصدي من محاذير ومخاوف حقيقية، سيما أنه من غير الأكيد أن يكون لهذا الفعل أثر حاسم في إعادة الهيبة إلى النقد والحد من تطاول العامة عليه وإيقاف إساءاتهم له. مع ذلك، فإني أؤيد حق الجميع في إبداء الرأي بالعمل الإبداعي إذ لا خطورة في هذا الأمر بحد ذاته ما دام ضمن نطاق التعبير عن الإعجاب أو عدم الإعجاب. لكن الأمر يكون خطيراً ويتجاوز المسموح به عندما يحلو للمعبِّر عن رأيه لبسُ رداءِ الناقد فيحاول اسباغ الشرعية النقدية على رؤيته التي قد لا تتعدى الحكم الذوقي غير المستند الى آليات عمل يعلمها الناقد، تحكمها النظريات وتبرر اطلاقها المناهجُ العلمية المتعارف عليها في عالم النقد. الحقيقة التي يجب أن يعيها القراءُ غير المتخصصين أن المرء لا يحتاج الى أن يكون ناقداً بالضرورة كي يعطي رأياً بنص أدبي باعتبار أن إبداء الرأي حقٌ من حقوق القارئ التي لا يمكن سلبها منه. هنا تكمن فضيلة وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك في وضعها نهاية لديكتاتورية الناقد وانفراده بسلطة إصدار الحكم على الأعمال الإبداعية إذ انها أتاحت للجميع هذه الفرصة على أن هذه الإتاحة لا تعني، بأي ظرف من الظروف، تساوي القارئ العام والناقد؛ فالأخير يمتاز عن الأول بوجوب احتكامه الى العلم عند ممارسته للعمل النقدي، وهذا أمرٌ غير ملزِم للقارئ العادي. تبقى الفروق بين هذا الأخير والناقد بيِّنة ولا تحتاج الى تفصيل، وليس معنى تطفله على النقد انه صار باستطاعته ان يحل محله ويلغي دوره.
بالنسبة لدور المنصات الافتراضية في نشر الإبداع غير الصادق وبث الدعاية للمبدع المزيف، فهذا أمر لا ينبغي التهويل من أثره؛ فهو يبقى ذا فعالية محدودة القدر وقليلة التأثير، وحتى وإن أثّرت فلن يعدو أن يكون هذا الأثر وقتياً وفي أوساط بلا سلطة ولا شرعية وسيكشف النقد الحقيقي والشجاع، إن عاجلًا وإن آجلًا، عن ضعف موهبة أصحابها وبطلان ادعاءاتهم.
محمد سعيد: هو سلاح ذو حدين. بقدر ما تمنح تلكم المنصات للقارئ الحق في التعبير عن رأيه، والكاتبَ الفرصة للتواصل المباشر مع القراء، إلا أنها أيضًا أداة سهلة للتلاعب وتوجيه الذائقة الأدبية، سواء بقصد أو دونه، وهي أيضًا مقصلة تهدد عنق الكاتب أن تهوي عليه في أي لحظة. صار الكاتب تحت رحمة تعليقات من القراء، أو الكتاب الخصوم، لا يحكمها أي منطق، تؤثر بسهولة على نفسية الكاتب. مشكلة القارئ أنه في الغالب مزاجي جدًا، خاضع لأهواء شخصية غير أدبية. مثلًا، يمكن لرواية تتغنى بأمجاد الأندلس أن تنال إعجاب شريحة واسعة من القراء وتنجح في إبهارهم، دون أن يهتم أولئك القراء إطلاقا بمدى الهفوات الفادحة في الرواية على مستوى الصنعة الأدبية. القارئ لا يهتم بالحرفة، بل دغدغة مشاعره، وحين يصير القارئ بديلًا عن الناقد تغيب الجودة والصنعة والإبداع، وتحضر فقط المواضيع المكررة المجترة بأساليب بليدة وأخطاء فادحة.
نجم والي: استحواذ وسائل الاتصال الاجتماعي على حياة الناس هي ظاهرة عالمية اليوم، للأسف لها مخاطرها أكثر من محاسنها. اليوم كل واحد يستطيع أن يكون ناقدًا وشاعرًا، وينشر نتاجه بحرية من دون رقابة أو انتظار رأي محرر صفحة ثقافية. من هذه الناحية، تمنح وسائل الاتصال الاجتماعي الحرية للشخص، أن يفعل ما يريد، لا رقابة عليه، غير الرقابة الداخلية. وحسب ظني، الرقابة الداخلية هي أخطر من الرقابة الخارجية، رقاب
ة السلطات. الخطورة أيضاً، أن عدد (اللايكات) والإطراءات، يجعل من البعض يظن إنه أصبح عبقرياً، خلاص، لا حاجة له أن يقرأ، أن يطور نفسه، بل أصبح من الجرأة أن يشتم أدباء آخرين، وكم ذلك مضر للناشئ، الذي بدأ للتو، إنه مضر، بضرر حصوله على الجائزة.
ولكن بصراحة كما قلت في جوابي السابق، كلما زاد غياب النقد عربياً، وتضاعفت سيطرة الفساد والرشوة على المشهد الأدبي، الجوائز، المهرجانات… إلخ، كلما زاد حجم الهراء في وسائل الاتصال الاجتماعي. لكن على الرغم من ذلك، الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي حررت النقد من ديكتاتورية النقاد الرسمية على صفحات الثقافة الورقية. وهذا ما يسمح بظهور استثناءات تكتب النقد بوعي عال وجديد. وهؤلاء كما النساء المتمردات، يقاتلون الصخر بجسد من زجاج.
*معظم الروايات العربية مستقاة موضوعاتها من التاريخ، حتى أنَّ العناوين التي نافست على جائزة بوكر لهذه السنة تستعيدُ أحداثًا وشخصيات تاريخية. برأيك هل تكفي المادة التاريخية أو التجارب الذاتية لتشكيل هوية روائية، وبمَ تعلل غياب روايات ذات بنية ذهنية في السرد الروائي العربي؟
لونيس: يحضر التاريخ في الرواية بأشكال مُختلفة؛ قد يحضر كخلفية تؤثث للحدث الروائي، وقد يحضر كنظام من المعلومات التي ينثرها الروائي في ثنايا روايته. لكن يبقى التاريخ في الرواية جزء من العملية التخييلية، غير مفصول عنها، بل أن التخييل هو الذي يعزّز التاريخي وليس العكس. لنتحدث عن رواية (الديوان الاسبرطي) لعبد الوهاب عيساوي. هناك كم هائل من المعلومات التاريخية في الرواية استمدها الروائي من مراجع ووثائق تاريخية، إذ يُمكن للقارئ العودة إليها متى شاء. لكن ما يهم في الرواية كعمل تخييلي أنها حررت التاريخ من تقريريته، وأيضا من خطيته، والأهم من ذلك فجّرت التاريخ من الداخل من خلال تقديمه من زوايا نظر مختلفة؛ لقد اعتمدت الرواية على التبئير السردي وهي تقنية مهمة لأنها تعطي للحدث التاريخي أكثر من منظور: شخصيات استعمارية في مقابل شخصيات أصلانية. ومن جهة أخرى، اهتمت الرواية برؤية ذاتية للحدث من خلال التركيز على منظورات الشخصيات الروائية لحادثة احتلال الجزائر.
حسن سرحان: للتاريخ أشكال كثيرة ومتنوعة يحضر بحسبها داخل العمل الروائي وفي كل مرة يُستدعى، يؤدي غرضاً مختلفاً من ناحية الدور الذي يلعبه والوظيفة التي يؤديها. عندما يكون التاريخ مجرد خلفية للحكاية فإن وجوده لا يماثل، من حيث القيمة والأثر، حضوره عند كونه مصدر الحبكة ومحددَ مساراتها والمتحكم بجوها العام وصاحب القول الفصل في طبيعة رسم شخصياتها ونوعية اللغة التي تُسرد بها الأحداث. من هنا فإن التاريخ، كموضوع ومرجع ومنبع للتخييل، مهيمن كبير عندما يحضر بقوة، كبير إلى الحد الذي تخشى فيه الروايةُ منه ومن سطوته. تفشل الروايةُ التي تستحضر التاريخ عندما تخافه وتهاب الخوض في تفاصيله وعندما تجرب الوقوف على الحياد إزاء مجرياته المستعادة كما كانت تفعل الروايةُ التاريخية الكلاسيكية. إذا كانت رواية الديوان الاسبرطي قد نجحت في التعامل مع التاريخ فذلك لأنها سلكت مسرى الروايات الكبيرة عندما أظهرت، منذ البداية، إصرارها على مماحكة التاريخ وعدم تركه يحيا بسلام داخل منظومته المعرفية التي أحاط نفسه بها، ونافستْه ببراعة وحيلة على قول الماضي وبيَّنت، عن طريق التقنيات السردية، نيَّتَها المبيّتة على كسر احتكاره للبحث في أسرار الأزمنة الغابرة. وفّرتْ هذه القرارات الذكية للكاتب المناسَبةَ الجيدة كي يمنح مخيلتَه الفرصة الكاملة لإعادة صنع كل شيء تقريباً. كما زوده هذا التحررُ من سلطة التاريخ وحاكمية نتائجه واستخلاصاته بالقدرة على جعل الحكايات المختلَقة تتداخل في رأس القارئ للرواية مع الأحداث التاريخية فلا يستطيع الفصل بينها مما حدا بالتعزيز لأن يسير بالاتجاهين لا باتجاه واحد.
محمد سعيد: هو السبب عينه الذي أشرت إليه في جوابي على السؤال الأول. الكسل والاستهتار والتقليد. القارئ يبحث في الرواية التاريخية، ربما لأنه يجد فيها أمجاد الماضي، ما يخفف عنه من كآبة حاضره وانهزامية أمته، والكاتب يسعى لتحقيق الرغبة تلك للقارئ. صار الكاتب رهين توجهات القارئ وذوقه، وما عاد يملك الجرأة، أو لم يملكها يومًا، لإبداع روايات ذات طبيعة ذهنية وتجارب تخوض في محيطات الميتافيكشن. تلقي هذه الأزمة بظلالها حتى على الناشر أيضًا، أو ربما هو من يعززها. فاز مخطوط روايتي، ليل طنجة، بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، وكانت الجائزة التي وعد بها الناشر هي نشر الرواية. نالت روايتي إعجاب لجنة التحكيم، وهي تتكون من أسماء وازنة. هي رواية ذات طبيعة ذهنية وتجريبية تعتمد الميتافيكشن أسلوبًا ووعاءً. إلا أن الناشر أحجم عن النشر، وحين عرضت الرواية على ناشر آخر اعتذر لكون الرواية ذات صبغة نخبوية يصعب أن تحقق مبيعات كبيرة، وهو لا يمكنه المخاطرة بنشرها خلال هذه الفترة التي تأثرت فيه صناعة النشر من آثار جائحة كوفيد 19.
نجم والي: منذ رواياتي الثانية “مكان اسمه كميت”، التي صدرت أولًا عن دار شرقيات في القاهرة عام 1995، والتي صدرت قبل أيام عن دار الرافدين بطبعة جديدة، وشغلتني موضوعة التاريخ. بطل الرواية أستاذ صالح سلطان الذي يأتي منقولًا من بغداد العاصمة إلى الناحية الصغيرة في جنوب العراق “كميت”، هو مدرس لمادة التاريخ. المعضلة التي يواجهها المدرس هي كبيرة، أحداث الرواية تدور عام 1978، عام المطاردات السياسية في العراق، حيث لم يفرض النظام البعثي ديكتاتوريته وحسب، بل فرض على الجميع تدريس مادة التاريخ حسب المنظور القومي البعثي. في ذلك الوقت شكل صدام حسين لجنة تعني بإعادة كتابة التاريخ، ووصل الأمر بالبعثيين، أن يدعوا أن إنسان نياندرتال عربي، وليس أفريقي، أو وصل بهم الأمر أن ينسبوا شجرة ولادة صدام حسين إلى النبي محمد والامام علي…. محنة صالح سلطان مدرس التاريخ تتعاظم، وهو يعرف أن التاريخ المفروض عليه تدريسه هو من صناعة النظام. لكن أليس تلك هي مشكلة التاريخ في كل مكان؟
التاريخ تصنعه الأسلحة. الفلسفة تصنعها الأفكار. والرواية يصنعها الخيال، ستاندال يقول، يذهب الروائيون إلى موقع المعركة بعد انتهائها. هكذا فعل هو في الأحمر والأسود وفي صومعة بارما، روى معركة واترلو ومعارك نوبوليون بشكل آخر. هكذا فعل تولستوي في الحرب والسلم، هكذا فعل نجيب محفوظ في “أولاد حارتنا” في لعبه بقصة الخليقة، أقدم قصة في تاريخ البشرية… وهكذا فعل ماركيز في مائة عام من العزلة وحروب الجنرال بوينديا في كولومبيا، بلاد أنهكتها الحرب الاهلية أكثر من قرن، وعدد الضحايا الذين دفعوا ثمنها. لاسيما فيما يتعلق بـ “أحداث الموز”. الدرس الذي قدمته لنا هذه القصة هو درس بليغ جدًا يصلح لكل مكان وزمان.
قال غابرييل غراسيا ماركيز، ذات مرة في مقابلة تلفزيونية، إن “أحداث الموز” ربما تكون أولى ذكرياته. كان إضراب (Bananeras)، العمال في مزارع شركة (United Fruit Company) “شركة الفواكه المتحدة” في كولومبيا وقمعها الدموي في ديسمبر 1928، أسطوريًا لدرجة أنه عندما بدأ ماركيز في كتابة “مائة عام من العزلة”، أراد أن يعرف أي واحد من الحقائق صحيح، وكم هو عدد الوفيات في الواقع. من ناحية، كان هناك حديث عن مذبحة، مذبحة مروعة. من ناحية أخرى تحدثت مصادر أخرى عن عدد قليل من القتلى. وزعم آخرون أنه لم تحدث وفيات على الإطلاق. أصيب ماركيز بخيبة أمل. في كتاب يتم فيه تضخيم الأشياء، مثل “مائة عام من العزلة”، تابع ماركيز قائلاً كان عليه أن يملأ سكة حديدية بأكملها بالجثث حتى تنصف أبعاد الكتاب الذي كان يكتبه. لم يستطع ماركيز (بل لم يرغب) في التمسك بواقعة تاريخية غير مؤكدة. بدل ذلك قرر أن يكون عدد القتلى ثلاثة آلاف، وهو رقم يقارب الواقع “التاريخي” لما جرى فعلًا وفقًا لما أثبتته البحوث الحالية.
كان هذا أول دروسي عندما بدأت في كتابة الروايات. من أين تبدأ الحقائق “التاريخية”؟ أين ينتهي الخيال؟ ما هو الواقع “التاريخي” وما هو الاختراع؟ أي شخص يعمل مع الحقائق “التاريخية” في أدبياته سيواجه هذا السؤال دائمًا: ما الذي عليه أن يستخدمه وما الذي عليه أن يتركه؟ كلما كان الخيال الذي أقوم ببنائه على وقائع القصة قويًا، كلما زادت قوة الإقناع للقصة، بل كلما ظهر الواقع أكثر قوة من رحم الخيال.
كل ما لا تحتفظ به الذاكرة لا يصلح للسرد. الحقيقة والخيال قابلان للتبادل في رواياتي. هكذا هو الحال في جميع رواياتي. عدتي الخيال الذي يقترب من اللعب بمقاومة الأسلحة الصانعة للتاريخ. هل رأيتم كيف يلعب الأطفال؟ إنهم يتحدثون مع العابهم، يتحاورون معها بشكل جدي، كما لو كانوا بشراً ناطقين. هكذا أنا، أتعامل مع الواقعة التاريخية، ألعب معها، كما يلعب الاطفال.
كل ما حدث في تاريخ العراق، تجده مرويًا بغير الطريقة التي حدثتنا بها الروايات الرسمية، بما ظنه الناس حقيقة مطلقة، لا بديل عنها. آخذ الواقعة وأبني عليها خيال. حقيقة (Fact)، ومن جانبي (Fiction) تخييل. في المحصلة يأتي التخييل (Fiction). ليس من الغريب أن تشكل رواياتي صدمة للبعض، كما شكل ما رواه ماركيز على طريقته عن قصة إضراب عمال الموز في شركة الفواكه المتحدة في أميركا من صدمة في حينه. وأعني بالصدمة هنا: رواياتي تهدم ما فرضته الأسلحة على الناس من أكاذيب وإذعان على مر التاريخ. إنها تهيؤهم لمقاومتها، في النهاية هي بذلك المعنى الذي ذهب به الألماني بيتر فايس: أحد أنواع (أستيتيك) المقاومة.
فيما يخص الديوان الأسبرطي، لم أقرأها وليس في نيتي قراءتها، لا أدري كيف تعامل الروائي مع وقائعه. وللأسف فوز رواية بجائزة البوكر أو ترشحها لها، يمنح التشاؤم أكثر، بعض الروايات التي وقعت بين يدي وكانت فازت بجوائز البوكر، أو كانت مرشحة على القوائم الطويلة والقصيرة، كما اللجان التحكيمية التي تشكلت، تقول لي، إننا أمام جائزة لا علاقة لها بالإبداع الروائي مطلقاً.
* نشر الجزء الخاص بإجابات الدكتورين حسن سرحان ولونيس بن علي في مجلة الأوان الإلكترونية.