كريم عينوز .. مخرج برازيلي من أصول جزائرية يصنع الحدث عالميا

0 1٬023

إدريس بوسكين – الجزائر

كريم عينوز، مخرج برازيلي من أصول جزائرية يعد اليوم من أهم سينمائيي البرازيل وأمريكا اللاتينية، أخرج عشرات الأفلام ونال جوائز وتكريمات في أهم المهرجانات الدولية، ورغم شهرته الواسعة إلا أنه عادة ما يثير الجدل السياسي في بلاده بمواضيعه التي لا يتقبلها كثيرون.

ولد عينوز بمدينة “فورتاليزا” الساحلية بولاية “سيارا” شمال شرق البرازيل عام 1966 لأب جزائري وأم برازيلية ونشأ في عائلة متعددة الثقافات وهي السمة التي تطغى أيضا على بلاده البرازيل، درس في شبابه الهندسة المعمارية بالعاصمة برازيليا ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية أين درس السينما بجامعة نيويورك.

كانت بداياته مع الفن السابع في التسعينيات، آنذاك تأثر بالعديد من السينمائيين البرازيليين والأمريكيين الذين احتك بهم وأخذ عنهم “سر المهنة” على غرار المخرج الأمريكي المعروف ورائد تيار “السينما الكويرية الجديدة” تود هاينز الذي اشتغل معه كمساعد كاستنغ وتركيب، وفيما بعد مع مواطنه والتر سالز الذي شاركه في كتابة سيناريو فيلمه “خلف الشمس” (2001).

هؤلاء السينمائيون تركوا أثرا بارزا في رؤى عينوز “الفكرية” ونظرته الجمالية للفن السابع وهذا منذ أعماله الأولى التي كانت وعلى غرار الكثير من المخرجين المبتدئين مع الأفلام القصيرة والتي من بينها الوثائقي “Seams” (“دروز”/ 1993) والروائي “Paixão Nacional” (“شغف وطني”/ 1996).

وقد صار واضحا من هذه الأعمال اعتماد المخرج على اللغة الانجليزية إلى جانب لغته الأم البرتغالية للترويج لنفسه وأعماله على المستوى العالمي وكذا ميله الكبير لمعالجة قضايا “المثليين” في بلاده وغيرها من الطابوهات.

“مدام ساتا” .. الانطلاق نحو الشهرة

كانت الانطلاقة الحقيقية لعينوز في مجال السينما مع أولى أفلامه الروائية الطويلة “مدام ساتا” (2002) وهو من إنتاج مشترك برازيلي فرنسي، وقد قدم هذا العمل في عرضه الشرفي الأول في نفس العام بمهرجان “كان” السينمائي بفرنسا بمسابقة “نظرة ما” حيث أجاد عينوز منذ البداية استغلال ثقافته الفرنسية التي أخذها عن والده للتعريف بأعماله في فرنسا ومهرجاناتها.

“مدام ساتا” -الذي كتب له السيناريو عينوز نفسه- مقتبس عن قصة حقيقية تعود حيثياتها للنصف الثاني من القرن العشرين إذ يحكي عن معاناة السود وجماعات “المثليين” في البرازيل من خلال قصة مقاتل كابويرا شاذ من أصول إفريقية يدعى “جواو فرانسيسكو دوس سانتوس” يتحول ليلا إلى راقص إغراء بالملاهي الليلية لريو دي جانيرو تحت اسم “مدام ساتا”.

لقد حقق هذا العمل نجاحا كبيرا في البرازيل كما أثار جدلا واسعا بسبب تطرقه لقضايا “المثليين” التي كانت آنذاك تثير الحساسية في هذا البلد الكاثوليكي المحافظ، غير أنه كان في نفس الوقت بوابة عينوز نحو العالمية حيث أخرج بعدها العديد من الأعمال الروائية الطويلة الأخرى.

ومن بين هذه الأفلام “O Céu de Suely” (“سويلي في السماء” أو “حب للبيع”/ 2006) الذي شارك هو أيضا في كتابته حيث يحكي هذا العمل عن بائعة هوى تدعى “هرميلا” من شمال شرق البرازيل تمارس الإغراء والدعارة تحت اسم “سويلي” من أجل كسب المال وقد تم عرضه بمهرجان البندقية السينمائي الدولي في 2006 بقسم “آفاق”.

العمل الدرامي الآخر “Viajo Porque Preciso, Volto Porque te Amo” (أسافر لأني أحتاج لذلك وأعود لأني أحبك) هو من نوع “أفلام الطريق” (Road movie) المعروفة به السينما الأمريكية، أخرجه عينوز وكتب له السيناريو في 2009 رفقة مواطنه مارسيلو غوميز وقد تم عرضه أيضا لأول مرة في نفس العام بمهرجان البندقية في فئة “آفاق”.

والفيلم أشبه بعمل تسجيلي إثتوغرافي ولكنه تحفة فنية بامتياز إذ تتجسد فيه فلسفة المخرجين الفنية وتأملاتهما الوجودية من خلال رحلة على الطريق السريع يقوم بها الجيولوجي “جوزي ريناتو” إلى مناطق شاسعة بشمال شرق البرازيل تتضمن وصفا لمختلف معالمها وتضاريسها ومناخها ومناظر غروبها وأيضا عادات سكانها وظروفهم الحياتية وهمومهم اليومية مع استعطاف دائم لحبيبته التي تركها وراءه.

بعدها بعامين، في 2011، أخرج عينوز فيلمه “O Abismo Prateado” (الجرف الفضي) الذي حازت ممثلته الرئيسية جائزة أفضل دور نسائي بمهرجان هافانا السينمائي الدولي بكوبا، وقد تم عرضه أيضا في مسابقة “أسبوعي المخرجين” بمهرجان “كان”.

ويحكي هذا العمل قصة “فيوليتا” طبيبة أسنان تعيش رفقة زوجها وابنها الوحيد، تأتيها فجأة رسالة نصية على هاتفها من زوجها يعلمها فيها بأن مغادر إلى مدينة “بورتو أليجري” الساحلية جنوب البلاد طالبا منها عدم القدوم وراءه غير أنها تقرر اللحاق به.

في 2014 عاد عينوز مرة أخرى لعالم “المثليين” من خلال فيلمه “Praia do Futuro” (شاطيء فوتورو) وهو من إنتاج مشترك برازيلي ألماني حيث تطرق من خلاله لقصة الشاب “فاغنر مورا” الذي يعمل كمنقذ بشاطئ “فوتورو” بمدينة “فورتاليزا” وتتأثر حياته لغرق أحد السياح الألمان.

عودة إلى الأفلام الوثائقية

في عام 2018 عاد عينوز من جديد لإنجاز الأفلام الوثائقية من خلال عمل جديد بعنوان “مطار تمبلهوف المركزي” لفت من خلاله إلى المآسي الإنسانية المعاصرة في ظل الحروب وضرورة النظر لقضايا اللاجئين من زاوية إنسانية بعيدا عن تجاذبات السياسيين والإعلام اليميني في الغرب مسلطا الضوء على حكاية لاجئين سوريين بمطار عسكري تاريخي مهجور بالعاصمة الألمانية برلين.

وعرض هذا العمل لأول مرة بمهرجان برلين السينمائي الدولي (برلينالي) في دورته ال68 بقسم “بانوراما” وفاز بجائزة أمنيستي الدولية للأفلام.

“حياة خفية” .. “التحفة” الثانية لعينوز

في عام 2019 عاد الاعتراف الدولي من جديد ليحتضن عينوز من خلال فيلمه “A Vida Invisível” (حياة خفية) المقتبس عن رواية بنفس الاسم تقريبا “الحياة الخفية لأوريديس قوسماو” للكاتبة البرازيلية مارتا باتالا وقد توج هذا العمل بجائزة “نظرة ما” بمهرجان كان في 2019 كما تم اختياره ليمثل البرازيل في مسابقة أفضل فيلم أجنبي بالدورة ال92 لجوائز الأوسكار الأمريكية.

ويعود هذا الفيلم الميلودرامي -الذي شارك المخرج أيضا في كتابه السيناريو له- لريو دي جانيرو في فترة الخمسينيات من خلال قصة شقيقتين تعجزان عن تحقيق أحلامهما في الموسيقى والحب بسبب “التسلط  الأبوي” فهو عمل يندد بـ “التعسف الذكوري” للمجتمع البرازيلي ويدعو لـ “تحرير” المرأة.

 

 

“نرجس ع” .. عودة إلى الجذور

لطالما كان عينوز مرتبطا بجذوره الجزائرية ولديه رغبة دائمة لتجسيد هذه العلاقة من خلال عمل ما عن أصوله العائلية أو عن الثورة التحريرية التي يعتبرها “مصدر فخر كبير”، وهذا ما جعله يسافر للجزائر لتصوير عمل في هذا الإطار غير أن الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بوتفليقة في فبراير 2019 جعلته يقدم -بدل ذلك- فيلما وثائقيا طويلا عن هذه الانتفاضة.

“نرجس ع .. يوم في حياة متظاهرة جزائرية” هو آخر أعمال عينوز وهو فيلم عن الحراك السلمي للجزائريين يتناول يوميات متظاهرة شابة بشوارع الجزائر العاصمة اسمها “نرجس”، وقد قدم عرضه العالمي الأول بالدورة ال70 لمهرجان برلين في فئة “بانوراما”.

وقام عينوز بتصوير هذا العمل -وهو من إنتاج مشترك جزائري ألماني برازيلي قطري فرنسي- في يوم واحد فقط متتبعا “نضال” هذه الشابة ومعها نساء جزائريات أخريات من مختلف الأجيال في سبيل التغيير والحرية.

إنتاج تلفزيوني وفن معاصر

رغم أن الأعمال السينمائية قد طغت على مسار عينوز إلا أنه شارك أيضا في إخراج سلسلة تلفزيونية بعنوان “أليس” (2008) من 13 حلقة تحكي عن فتاة شابة تغادر بلدتها الصغيرة نحو “ساو باولو” الساحلية (جنوب شرق البرازيل) من أجل إرث صغير تركه لها والدها غير أنها تغرق في شباك تلك المدينة الكبيرة وحياتها الاجتماعية والثقافية المغرية.

ولكن عينوز لم يتوسع كثيرا في عالم المسلسلات على الرغم من أن البرازيل سوق كبيرة جدا وذات منافسة وإبداع إذ لا تزال من بين أهم المنتجين والمصدرين العالميين للمسلسلات إلى جانب الولايات المتحدة وتركيا والمكسيك.

لقد أنجز عينوز أعمالا مركبة أيضا تم عرضها في العديد من التظاهرات الدولية كفيلمه ثلاثي الأبعاد “كاتدرائيات الثقافة” الذي يحكي عن رمزية البنيان المعاصر والذي أنجزه في 2014 رفقة مخرجين من عدة بلدان.

أعمال الأخرى في الفن المعاصر عرضت أيضا ببينالي متحف وايتني للفن الأمريكي (1997) وبينالي ساو باولو للفنون (2004) وكذا بينالي الشارقة (2011).

وبالإضافة إلى هذا فهو أيضا عضو منذ 2017 بأكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة الأمريكية التي تمنح سنويا جوائز الأوسكار كما يشارك دوريا كمؤطر في العديد من ورشات كتابة السيناريو عبر العالم.

عداوة قوية للرئيس اليميني بولسونارو

تعالج أفلام عينوز العديد من الطابوهات والقضايا الاجتماعية التي كبر عليها أو تأثر بها في حياته ومجتمعه على غرار قضايا “المثليين” والتسلط الذكوري وتحرير المرأة ومآسي الحروب وغيرها، كما تعكس أعماله مختلف قيم التسامح والتعايش الثقافي والعرقي والجندري بمفهومه الشخصي، وكذا حنينه الدائم لمدينته “فورتاليزا” ولجذوره الجزائرية والإفريقية.

وإلى جانب شهرته الدولية فقد تركت أعماله أيضا بصمته الفنية في بلاده حيث فاز هناك ثلاث مرات بجائزة أحسن مخرج بمهرجان ريو دي جانيرو السينمائي وهذا عن أفلامه “الجرف الفضي” و”حب للبيع” بالإضافة إلى “أسافر لأني أحتاج لذلك وأعود لأني أحبك” كما ترأس لجنة تحكيم هذا المهرجان في 2014.

غير أن نجاح هذا المخرج والطابوهات التي يتناولها جعلته في مواجهة مع الرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو ونظامه اليميني الذي يحكم البلاد بدكتاتورية منذ يناير 2019، مثله مثل العديد من المخرجين البرازيليين الذين انتفضوا ضد ما سموه سياسيته “القمعية” بحقهم و”تهجماته الدورية” عليهم في وقت انتعشت فيه السينما البرازيلية من جديد.

واصفا إياهم باليساريين الذين يروجون للعهر الأخلاقي والسياسي أعلن بولسونارو صراحة عن كراهيته لهؤلاء السينمائيين فقام بتخفيض كبير لميزانية “الوكالة البرازيلية للأفلام” (أنسيني) -التي هدد أصلا بحلها- وكذا “صندوق قطاع السمعي البصري” اللذين يعتبران الداعمان الحكوميان الرئيسيان للصناعة السينمائية والسمعية البصرية في البلاد، كما هدد بمنع الدعم عن هؤلاء في حال لم يسمحوا برقابة الدولة على أعمالهم.

ورغم أن قطاع السينما في البرازيل يوظف آلاف الأشخاص ويمثل “القوة الناعمة” لهذا البلد الأمريكولاتيني في العالم إلا أن بولسونارو المحافظ ذي الخلفية العسكرية لا يزال متشددا في دفاعه عما يسميه “القيم الأخلاقية” للمجتمع البرازيلي الكاثوليكي ضد هؤلاء “المفسدين” ومنهم عينوز الذي اختار في النهاية الإقامة ببرلين والدفاع والترويج لفنه من هناك.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.