ممدوح التايب … الشاعر الكهربائي
محمد توفيق – مصر / الكويت
“الكهرباء” لا الشعر سبب معرفتي به، حيث احتجتُ ذات يوم إلى كهربائي لتوصيل لمبة وعمل إصلاحات في مسكني بالكويت، ومن صحيفة إعلانية حصلتُ على رقمه. هاتفتُهُ، وعرّفتُه بنفسي، فقال لي: “أعرفك تماماً وقرأتُ أشعارك وكتاباتك في جريدة القبس”! وهنا، استغربتُ كثيراً؛ فمن أين عرفني هذا الشاب؟! وهل فنيو الكهرباء يقرؤون الشعر ؟! هكذا مازحتُه، لكن المفاجأة الأكثر إدهاشًا عرفتُها عقب انتهائه من عمل التمديدات والإصلاحات، حين أخبرني أنه شاعر.
إنه الشاعر الكهربائي/ ممدوح التايب ابن سوهاج، الذي جاء الكويت منذ سنوات وامتهن صنعة التمديدات الكهربائية وِراثةً عن والده الذي يعتبره “عمه في الصنعة ومعلمه”.
حين قرأتُ قصائده وجدتُهُ شاعرًا جميلًا، يكتب بروح متمردة وثائرة، ومثقفًا متعدد القراءات. بعد وقت قصير، توثَّقتْ علاقتنا بالتحاور حول الكثير من القضايا العامة والخاصة، بجانب تبادل الآراء والمشورة.
كان بإمكانه العمل مدرسًا؛ فهو حاصل على “ليسانس آداب إنجليزي”، لكنه فضل العمل كهربائياً عن قناعة، فالصنعة موهبة أيضًا، والكهرباء فن وعلم -كما يرى ممدوح- وإذا رأيتَه واقفاً على سقالة بارتفاع برج شاهق لعمل تمديدات؛ فحتمًا ستربط بين نور الشعر حين يسري في الروح؛ فيتحول إلى طاقة خير ومحبة ومشاعر ورؤى تؤثر في الناس، وتروي ظمأهم لكلمات معبرة عن الحلم والعشق؛ وبين شحنات التيار الكهربائي حين تسري في التمديدات فتتحول إلى نور يبدد الظلمة، وطاقة تختصر الوقت والجهد، وهكذا يجمع ممدوح بين الحسنيين، نور الشعر وطاقة الكهرباء.
ممدوح التايب طيب ونقي، قدرَ وعيه الكبير بالقضايا والأحداث التي يجسدها شعره الصافي الثائر على الجمود والثبات، يكتب كأنه يُكهرب المتلقي مُحدِثاً صدمة إثر المفارقات المتتالية في الصور والبناء الشعري:
“أنا عاملٌ باليومية / أخرجُ كحشرةٍ من بيتي
فلا أجد ملائكة تُلمِّعُ الفتارين .. ولا حورية واحدة تقعد تحت صورة الرئيس .. تُمسك الجيتار وتغني”.
وبمهارة يتوغل ممدوح في طرق الحزن الشفيف والرفض وفضح الواقع والتاريخ:
“ها أنا في قاع التاريخ
أنتظر الحضارة لتدور كساقية عارية الفخذين على طاولة القمار
مذ قال آدم:
يا رب هذه ذريتي فُخذْ منها ما شئتَ من جباة
وشعراء يبولون على الرصيف”!
وممدوح كثير الشك في شعره ومبتكر تساؤلات:
“ما الذي يجعلُ الغروبَ يتيماً يستعطف المساء بلا فائدة؟”
وفي شعره يشتبك مع العقل والجنون، وسرعان ما يقلب الطاولة على رأس الجمود:
صدّق جدي في ثلاثة أمور:
الله / الأرض/ الجنرالات
وحين مات أخوه في الحرب / كسر الراديو وبصق في وجه الشمس/ وكفر بالله أسبوعاً بأكمله”.
ممدوح تتوهج الكهرباء بصنع يديه، لكنه شاعرٌ زاهدٌ في الأضواء وبعيد عن “البروبجندا الإعلامية”، وطوال سنوات إقامته في الكويت لم يشارك معنا في أية ندوة أدبية أو أمسية شعرية، ولم ينخرط في تجمعات الأدباء، رغم قراءاته الواسعة للمنتج الأدبي، وحرصه على اقتناء الإصدارات الجديدة.
أصدر ممدوح ديوانين شعريين هما: “نياشين خشب” ” ولا أدري هل قصد بهذه العنوان إحداث لبس لدى المتلقي، فتركيبة المفردتين ” نياشين خشب” أقرب إلى العامية لصعوبة وقعهما عند النطق الفصيح! والثاني ” عصافير في شباك من غُبار”، وهو الديوان الذي نوهتْ بجودته لجنة التحكيم في الجائزة التي حملت اسم الشاعر الكبير/ محمد عفيفي مطر.
تحية لممدوح التايب الشاعر الجميل والكهربائي المُضيء، والذي يمتلكُ نفساً صافية تمنحه نُبل الكبار وتواضع العارفين، الشاعر الكهربائي الذي يستحق المتابعة والقراءة.