ابنتي… وشارع القدس

صندوق الدنيا - الشوارع العربية

0 410

هاشم العلوي- السعودية

 

هل صحيح أن أسماء الشوارع  ذاكرة المكان؟ لو تأملنا في أسماء الكثير من الشوارع المشهورة في المدن العربية لوجدنا أنها بالفعل تستحق أن يقال عنها ذلك. بعضها أخذ الاسم من حادثة وقعت فيه، أو لشهرة قصر أو مقهى، أو لوقوعها في سوق معين، أو ربما لتخليد اسم بطل أو معركة تاريخية جليلة تستحق أن لا تنسى. لكن هل يكفي أن يطلق اسم ما، على شارع ما، وينتهي الأمر؟ أم أن الممارسات اليومية وحضور الرمزية في أذهان الناس، هي الكفيلة ببقاء ذاكرة الشوارع حية ومتجددة؟

في ماضي القرى والأرياف حيث الشوارع تأخذ أشكالها كيفما اتفق، مشكلة رقعة فسيفساء عشوائية، قد  تكون لضرورة الوصول إلى نبع ماء أو مزرعة، أو لتنظيم بيوت عائلات معين؛ في تلك الأزمنة لم تكن الأسماء تحمل رمزية عميقة، وقد تستبدل ببساطة، وهي عادة بأسماء وجهائها القاطنين فيها، أو بإسم نوع الدواب التي تسلكها أو لوقوعها قرب نبع ماء أو مسجد. أما في المدن التي يفترض أنها أقيمت على أسس تخطيطية مستقبلية ( حضارية)، فكيف يجب أن تعطى أو تأخذ الشوارع أسماءها؟  في الحواضر العريقة تأخذ الشوارع أسماءها عادة من تراكمات كامنة في وعي القاطنين والمارة، ولوجود ترابط رمزي بين الاسم والمسمى. وغالبا ما يكون الناس أنفسهم من يطلقون هذه الأسماء، ثم ترضخ البلديات للأمر الواقع فتثبتها وتعترف بها. وفي الأعم تكون مثل هذه الشوارع هي الأكثر حيوية والأطول تمسكا  بأسمائها وروحها، لأن الناس هنا يحافظون على منجزهم/ذاكرتهم.

أما في مدن الإسمنت الحديثة نسبيا يأخذ الموضوع شكلا آخر، بحيث تكون أسماء الشوارع قد كتبت قبل أن يرتفع حجر في ذلك المكان، بجرة قلم مهندس، وربما بعد مشاورة سريعة، وتبدأ سلسلة الأسماء برؤساء وأمراء وقادة وشعراء وصناع ومكتشفين و…،  وبعد أن ينطلق البناء تبرز تناقضات الشوارع وأسمائها. ما يثير الكثير من الضحك أحيانا، كمثل شارع الزهور وهو مقفر، أو شارع الأنوار والظلام ميزته الوحيدة وهكذا…

في مثل هذا الحال أي ارتباط يشعره المرء مع مثل هذه الشوارع؟  وأي ذاكرة يمكن أن تجسدها أسمائها الارتجالية؟

قريب من ذلك (شارع القدس) الذي يعتبر الشارع الرئيس (التجاري) في (مدينة القطيف)، والذي يمتد على مسافة تفوق كيلومترين أثنين  تقريبا، بعرض يتجاوز الخمسين مترا، بحيث يعتبر في عرف بعض الدول المجاورة طريقا سريعا! من النادر أن تجد فيه مشاة يتجولون للتسوق، المحلات على جانبية  فارهة، تعرض أفخر البضائع وبطريقة لا تشير إلى تخصص معين، بحيث تجد مثلا صالة عرض للسيارات بجوار مشغل نسائي، أو مطعم يجاور محل لبيع الأثاث، ومحل بيع أدوات كهربائية يلاصق محلا لبيع الملابس النسائية.

ربما من اختار له هذا الاسم كان يقصد معناه، لكن هل يجسد اسم هذا الشارع ذاكرة بشكل ما ؟

لا الناس- كما أظن- يدركون  وهم  يعبرون فيه، المغزى من تسميته، ولا العمال الأجانب- وهم الأغلب- الذين يعملون في محلاته يعرفون ذلك المعنى الخفي وراءه. ذلك لأن الشارع ودلالة اسمه ابعد ما يكون عن ذاكرة الناس وحياتهم اليومية، رغم ما له من بعد.

ربما وبنظرة واقعية – يصدق عليه تسمية شارع البنوك، لأن معظم البنوك لها مراكز رئيسية فيه، ولو حصل ذلك لتلاءم وطبيعة العمل فيه، وأحبه المارون عليه، وبذلك تحفظ رمزية القدس بشكل آخر، ليس بالضرورة بإطلاق اسمها على شارع يحمل من التناقضات الكثير. وفيه كل شيء إلا روحها.

في ظل هذا التسارع (الحداثي) وهذا التبسيط للرموز، أصبحت ذاكرة الناس مخرومة. لم تعد الأسماء بالفعل معللة! قبل سنوات وربما بعد عهد قصير من افتتاح هذا الشارع، كنت وإحدى بناتي في مكان ليس ببعيد عن هذا الشارع ، (أحدهم) كان بجواري، أحب أن يلاطف صغيرتي، سألها: ما اسمك يا صغيرة ؟ قالت: (كدث…)، ضحك وسألها مجددا: ما اسمك؟…قالت: (كدث…) نظر إلي مستفسرا… قلت (قدس) يا أخي تقول لك (قدس). ضحك مسرورا وقال : اسم غريب ونادر هل تسكنون في  (شارع القدس)؟؟. 

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.