حينما يخترع السرد بالحب وطنا

لعبة السرد بين الحب والألم من خلال رواية "إيفا" لسندرا سامي

0 788

 

د. أم الزين بن شيخة

“نحن صحاري وبرك من الحزن القاتم قبل الحب ومن دونه. أو لا شيء نحن غير قطع لحم ممّن أحبّونا. وحينما يرحلون نرحل معهم لأنّنا فيهم، ولأنّهم مغروسون تحت جلودنا. هكذا كتبت “إيفا” في بعض مرتفعات اليأس :”أبكي معي على النائمين في جثّتي حتى ينبت العشب فيها وقد صدأت”. (ًص 163).

“إيفا” عنوان رواية قُدّت من الحبّ والألم. تعلّمك أنّ الحبّ بوسعه أن يشطب أحزاننا، وبوسعه أيضا أن يخترع لنا بالسرد وطنا حينما تسقط أوطاننا. جدلية فلسفية مثيرة تمتح من رحيق السرد لغة خاصة مفعمة بالانفعالات والمشاعر والمفارقات الوجودية لشخصيات معطوبة. انكسارات وخيبات، لقاءات ووداعات، أجنحة مبتورة، وموسيقى تولد من هشيم الكينونة. رحلة تخال فيها نفسك صلب الطوفان يجرفك معه في كرّة واحدة كما لو أنّ الرواية قد كُتبت في جملة واحدة طولها 281 صفحة. عالم من القصص الحزينة يتدفّق كما لو كان نهرا متلاطم الموج صخوبا، نداء اللغة كي تعبر الحياة إلى الحياة الحقيقية. لأنّ “هذه الحياة لم تعد تحيا” على حدّ استعارة للفيلسوف الألماني ثيودور أدرنو، فالسرد ههنا مطالب بمصارعة الموت والانتصار عليه. فالموت ليس فقط نهاية شخصية، بل هو أصاب ههنا صورة العالم نفسه في قلب “إيفا”. عالم من القتلة ومصانع لليأس والألم، يحوّل النفوس إلى قبور وجثامين. “نحن على قيد الألم والبؤس، نحفر قبورا لأولئك الذين فقدناهم.. في التراب. ويحفرون هم قبورا لنا فينا” يقول أيهم الفلسطيني إحدى الشخصيات الأساسية للرواية . (ص.55). هذه أيضا رواية فلسطين ذاك المكان المؤهّل منذ أكثر من سبعين سنة لأن يكون أرض الألغام السردية بامتياز. نعم، “إيفا” هي على نحو ما رواية الحزن والغضب على أرض صارت إلى “ساحة مهجورة يملؤها الموت”. الحبّ والموت جدلية فلسفية أخرى تنسج على إيقاعها سندرا سامي حبكتها السردية تاركة “كلّ شيء مفتوحا على مصراعيه لجميع الاحتمالات في العالم” مثلما يقول تصدير الرواية.

هي رحلة سرديّة متوعّرة تتوزّع على أربع محطّات كبرى. عتبة عبور أولى تنتصر فيها إيفا على الزمن الذي أكل عمرها. “كيف تهرب من الزمن ..فتحت الباب وفرّت” (ص.10). لكن إلى أين؟ إلى مدينة تكرهها لأنّها مرآة لانكساراتها وخيباتها. مدينة “لا أحد فيها على حقيقته.. تُمحى ملامحك وشخصيتك عند دخولك”. في هذه المدينة، يريدون للناس أن يكونوا “نسخا دون ملامح” (ص.11). ممّن تهرب إيفا؟ إنّها تهرب من ذكريات أليمة، حيث فقدت عائلتها بعد تهشّم البناية التي فيها تقطن معهم. ذاك هو الحدث السردي القادح: على حافة دمار ما تولد الحكاية دوما. وهكذا أيضا تولد الشخصية الرئيسية الثانية في المحطة السردية الثانية “أيهم” الفلسطيني على حافة دمار وطنه وتحوّله إلى باحة للموت والمجاعات والنكبات. وتولد الشخصية الثالثة “تارا” على عتبة قصة فقد لزوجها ثمّ هي نفسها سترحل بعد صراع مع مرض قاتل. لكنّ الرواية تنتهي بمحطّة رابعة فيها لقاءات بشخصيات أكثر قدرة على مصارعة الزمن واختراع الأمل. بحيث تمنحنا سندرا سامي باحة الفنّ من خلال شخصيات مثل “تيم” و”أدهم” لمنح إشراقة جديدة للعالم. هكذا اختارت الروائية هندسة روايتها، فاتحة لعبة السرد على أفق البوح والمكاشفة السردية. إنّها كتابة للذات حينما تتحوّل إلى قدرة على العيش تحت جلود الذوات المعطوبة. السرد قدرة على البوح بما يعتمل في النفوس المكلومة من مشاعر الفقد والحزن. فنحن لا نكتب دوما لأنّنا سعداء، إنّما نكتب لأنّ “الحزن دافع للخلق.. والمعاناة وقود للفنّ” (ص. 222). ليس الحزن شعورا سلبيا يحجب عنّا الفرح العاديّ، إنّما هو “كيان كامن فينا..” لا شيء نحن دون أحزاننا. لكنّ المطلوب ليس تحويل الحياة إلى نواح ميتافيزيقي أو حائط مبكى. إنّما المطلوب هو تحرير أنفسنا من الحزن بشطبه سردا أو بتذويبه شعرا أو بتحويله إلى لطخة لونية رسما، أو بنظمه لحنا فيما أبعد من البشر.

سندرا سامي

من أجل الانتصار على الزمن الذي يأكل أبناءه ثمّ يمضي، تهيّء رواية “إيفا” مساحات لتسريد تجارب الفقد والموت واليتم. تولد الشخصيات من اليتم بعد أقدار موجعة : إيفا بدأت رحلة الألم بعد موت عائلتها في حادث فظيع، وأيهم لاجئ من وطن مغتصب فقد فيه أهله وأرضه، وتارا أرملة فقدت زوجها وبقيت وحيدة تصارع مرضا أدّى بها إلى الموت. وتظهر شخصية الرسّام “هتان” في آخر الرواية من حريق التهم منزله وتسبّب له في خسران حبيبته التي هجرته إلى مدينة بعيدة.

إيفا مساحة سردية لليتامى والمتألمين والذين لا أهل لهم والمولودين من قلب الحرائق والفظاعات. يقول بلانشو عن الكاتب :”لست أنت من يتكلّم، دع الكارثة تتكلّم فيك”. ولقد فسحت إيفا للكارثة أن تتكلّم وسارعت إلى تنضيد بياض كفيل بأدب البوح وكتابة الذات. ههنا لوحة سردية تعثرون فيها على كلّ أحزانكم تنثرها سندرا على بياض الخيال كمن ينثر الحبّ حُبّا وفضحا لمدن الانكسارات والأحزان. تكتب: ” بعد كلّ سنين الفقد أدركت أن لا بحر لي أصبّ فيه حرقتي، ولا أرصفة باقية لأرتّب كلامي” (ص. 164). لكن أليس اليتم هو شرط ابتكار ذواتنا على نحو جديد دوما؟ أليست الكتابة هي الاقتدار على بدء آخر. وفي البدء كانت الكلمة. والحبّ هو كلمة السرّ في هذه الرواية.

الحبّ هو الطريق الوحيد للانتصار على الحزن. هذا هو الرهان الكبير لرواية “إيفا”. ففي كلّ مرّة يظلم فيها قلب ما إلاّ وانتشلها الحبّ من ظلامها باختراع شروق جديد. وهو ما تكتشفه إيفا حينما تلتقي بأيهم. حيث يعترضها فجأة “الشروق الممتدّ في عينيه” (ص.35) و”كأنّ عينيه غيمة كبيرة تبلّلني” (ص.42). وتقول أيضا: “كأنّني أنسى أحزاني… أخيط النجوم في عينيه الواسعتين”. ويقول أيهم لها: “جلوسك بجانبي يمسح الغبار عن قلبي” (س.43).

د. أم الزين شيخة

عالم بلا حبّ هو عالم لا يصلح للحياة أبدا. فالحياة بلا حبّ هي “حياة لا تحيا” على حدّ تعبير للفيلسوف ثيودور أدرنو. فالحزن يولد دوما من فشل الحياة في أن تؤدّي إلى الحبّ. لكن الحب يولد دوما على حافة الجحيم. ورغم ذلك ينبغي إعادة ابتكاره دوما. هكذا كتب ريمبو معلنا أنّ “الحياة الحق غائبة، فنحن لسنا في العالم”. وكتب باديو ” أنّ الحب هو أن يشهد المرء على ولادة العالم من جديد”. كما كتب الفيلسوف جاك دريدا: “حينما يتخلى عنك العالم عليك أن تحبّ”. أمّا وقد تمّت إبادة الحبّ بيننا فلا شيء سيكونه العالم غير بركة دم وخرائط حزن كبير. غير أنّ الرواية تنتشلنا دوما من أقصى نقطة في يأسنا كي يشرق الحبّ من جديد في أعيننا . هذا ما تكتظّ به مساحة رواية إيفا رغم مسحة الأحزان الغالبة عليها. لقد نجحت هذه الرواية على نحو استثنائي وجميل في حبك لعبة الحبّ والألم على نحو بديع. وهو ما نراه بيّنا في مساحات ماتعة لهندسة صور الحبّ في أبهى حلل اللغة واستعاراتها الرشيقة. وأنت تجوب تضاريس السرد ههنا، ستعثر على الضياء في عيون المحبّين، وستباغتك السماء في وجوههم الساطعة بالصفاء والبهاء. لكن تمهّل لن يكون حبّا حقيقيا إلاّ ذاك الذي يمتزج بتجارب الفقد والوحدة والوداعات المؤلمة. قالت الراوية: “ونظرت إلى عينيه الواسعتين اللتين انصبّ فيهما ضوء من الشمس. كأنّ في مقلتيه سماء أخذت من النور أصفاه وأحلاه.. استسلمت بكلّ أسلحتي للون الحزن في عينيه” (ص.127). وتكتب سندرا على لسان الرسّام “هتان” أيضا: “كانت تعدّ نجوم السماء، بينما كنت أعدّ اللآلئ في عينيها” (ص.211).

لكن ما هو الحبّ إن لم يكن لقاء بين شخصين انتصارا على الحزن؟ للحبّ عناوين شتى في هذه الرواية. إنّ الفن بأشكاله هو ضرب من الحبّ. هذا هو ما نخرج به من هذه الرواية. بحيث ستولد اللقاءات بين النفوس المحبّة وتتكثّف قصص الحب في القسم الثاني من الرواية. وتنفتح آفاق السرد على فنّ الرسم والموسيقى كسبل للنجاة. وذلك لأنّ “من لا يحبّ الموسيقى ليس على قيد الحياة” (ص.236). ومن لا تسكن قلبه لغة الألوان لن يعثر على نفسه إلاّ كمسخ باهت أو كمهرّج لرعاية شؤون الوحل. قالت الرواية :”كلّ منّا يتأمّل ما يشبهه. فكيف يحبّ السحاب من يعشّش في قلبه الوحل؟” (ص.208).

“إيفا” رواية الحبّ الأسطوري والألم البشري جدّا. كل الثنايا فيها تؤدّي إلى حبّ ما ممزوج بطفولة الممكن. لقد أفلحت سندرا سامي في تجربتها السردية الأولى في هندسة رواية ماتعة بلغة رشيقة واستعارات أنيقة. لكن تمهّل وأنت تتجوّل في أزقّة هذه الرواية لن تعثر على الإمتاع في أوّل الطريق. سيكون عليك مواجهة جميع أحزانك التي ستعثر عليها منثورة هناك على قارعة الحرف وحرائقه الصامتة. وستجد بعضا من روحك ملفوفة بعطر السرد تحت ظلّ حبّ ينتظرك في كلّ محطّة من قطار وجودك الخاص. وسينجح الحبّ في شطب بعض أحزانك، والبعض الآخر من الأفضل تحويله إلى أغنية أو إلى ألوان أكثر إشراقا. وفي كل الحالات لن تخرج من السرد بأيّة خسارة ولا ربح غير سرور كبير يتّسع لكل الأحبّة من حولك. لا أحد يخرج فارغ القلب من هذه الرواية. وبعد الركض في أحزان الراحلين فيك والنائمين تحت جلدك، ستعود لتكتب كما كتبت سندرا في نهاية الطريق: “ها أنذا أعود.. لأقصّ لعينيك باقي قصصي، وأنفض ما ترك الوقت في قلبك من غبار”.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.