مَحْضِنُ استقلاليةِ الجسد

0 45

أحمد بلحاج آية وارهام – المغرب

إن الأمكنة تتكلم في ذواتنا لغاتها وتتنفس أريج مخبوءاتها، وتُرَقِّش وشوماً في الذاكرة تستعصي على الامِّحاء. فكَمْ من مكان خِلْنا أننا غادرْناه، وانفصلنا عنه في الزمن، فإذا به يعود إلى استيطاننا كما الطفولة، ليُوقظ فينا شهوة الحنين إليه، والاندغام فيه مرة أخرى بروح غير التي احتضنته من قبل.

فالمكان لا يكون مكانا إلا إذا مارس مكره المُثْمِل علينا، وضخَّ فينا من السحر ما يُبهِجُ أو يُؤلم، وبخاصة إذا كان من ذلك النوع الذي يجعل الخيال غابة ترسم فيها الظلالُ بيد الرهبة والدهشة والافتتان تشظياتِ الحضور والغياب، وتمثُّلات الوجود والزمن، وشيات التجارب المُوغلة في التناسل كضرْبٍ من النصوص مُحكَمِ النظم، يرُدُّ فعلُ القول فيها وعنها وحولها إلى عالَمٍ ما ينفك يُعَين موضعه من الدلالات، وموضعَ الدلالات منه. إِذْ العالم كله – أيا كان – لا يخلص من الدلالة، سواء أَأَدرجناها في سياق متعاقبٍ يطوي السابقَ منها في أدوارٍ انتهت وتلاشت، أم أبعدناها في المختلف والمغاير، ووصمناها بالمبايِنَة المفارقة. فالمسافة بينهما في كلتا الحالتين تنمُّ عن معنى، وعن صلة بالموضع الذي يُقيمُ فيه ويصدُر عنه من يتصدَّى للبحث في علاقة الذات بالمكان وما يتولد عنها من تجارب وظواهر.

ويكفينا هنا؛ في ملامسة موضوع الفضَاء الحَمَّامِي ومُتَخَيله؛ أن نُشهِر السؤال: لماذا الحمامات ومتخيلها؟ وما الشعرية التي تُلابسها، وتشد العين والذاكرة والروح إلى جمالياتها ومكامن مباهجها؟. لا شك أن الأسئلة سترتَدُّ علينا، وستغدو عوامل تعريف لعالمٍ ممعن في الانحجاب، غير مَفَكَّرٍ فيه.. عالم بِكْرٍ مقبور تحت ترابِ النسيان، قد لا يؤدي استحضار وجهه المعرفي والفكري والأدبي إلا إلى عقوق لدم الحداثة الناظر وراءه في غضبٍ، والواضعِ بينه وبين الماضي مسافةً أشبهَ بالموت. مع أن المسافة؛ في جوهرها العميق ما هي إلا تعريف، مثلها مثل ارتداد السؤال. فهو في هذا العمل لا يرومُ إلا ربطَ الصلة بين الذات وبين مكان حميمي تستعيد فيه ذكريات عُريها في الرحم، واغتباطها بما كانت عليه دون قيود ومواضعات خارجية، بحيث سنعيد نصَّ تلك التجربة حيًّا، بعد ترميمه وإعادة بناء هيكله من التاريخ والمتخَيَّل. فهل التاريخ سيحيط بهذه الصلة؟ وهل الشكل يُحْيِيها؟ بالتأكيد لا، ولكن الفن والشعر سيجعلانها كذلك باعتبارهما نَفَسَ الوجودِ وقِيمَةَ الإنسان فيه، زيادة على أنهما الحبلُ السريُّ الذي يشدنا إلى الفلسفة، ويشدَّنا معها إلى ما نعتبره أتفهَ الظواهر أو أخطرها. فكل تجربة في الوجود لا تنفصل عن (أنا) متغيرة وعابرة، وبهذا تكون الفلسفة مشروعا يَنهبه التنازع والتعارض، ما تفتأ تسعى إلى إدراك ما يقبع في أساس التاريخ والشكل في الوقت الذي تُنكِر فيه عليهما احتواء ما لا يتحقق إلا بواسطتها وعبرَها.

ومن هنا نرى أن نرصد نقطة البدء والتشكل في هذا البحث، لتجاوز ما لا نقيض له إلى نهايات مفتوحة على النقيض المراوغ، وذلك باعتماد أُسُسٍ؛ هي:

      أ-فهمُ (الذات) من خلال استخلاص المعاني من التجارب المعيشة.

      ب-علاقةُ هذه (الذات) بـ(الذوات) الأخرى في الجو الحمامي، والعالم المعيش.

     ج-فهمُ ماهية الوجود عن طريق ربط الذوات به

فالوصول إلى المعاني الكامنة في التجربة المعيشية هو ما يُسَمى بالظاهراتية الهيرمينوطيقية. وهو منهجٌ تأويلي تفسيري يَتوسَّع في استخلاص المعاني المتجسدة في تجربة المعيش. وهو بهذا يهدف إلى تأسيس نظرية عامة للإدراك والفهم لطرق التعامل مع التجربة المعيشة المادية والزمانية. فعن طريق جدلية العلاقة بين الذات وغيرها من الذوات الأخرى يتأكد الوجود، وتنعكس المعاني والدلالات المُتجسِّدة فيه.

وهاجسه في هذا المقام هو الكشف عن المعاني المُتَضَمَّنة في تجارب الذات داخل الحمَّام، وكما هي حادثة في الحياة اليومية وفي المعيش. كيف نقرأها؟ وكيف نفهمها ونتأملها؟ وكيف نعرف الحقيقة المتَجَسِّدة فيها؟  فهناك علاقة بين السلوك الاجتماعي وبين حقول معرفية متباينة في المنهج، مترابطة في الهدف. فالفلسفة والسوسيولوجية تشتركان –مثلا – في عامل التفكير والتأمل في التجارب الإنسانية المعاشة، حيث ينصب انهمام الأولى على البحث في (جذور) الوجود الاجتماعي لمعرفة حقيقته والمعاني الكامنة فيه، وذلك لأن- حسب Haw Yol Jung – “الحقيقة الاجتماعية هي بمثابة شبكة من العلاقات بين الشخص والآخرين، سواء أكانت علاقة مع شخص واحد أم مع مجموعة أشخاص، إذ في هذه العلاقة تتجسَّد الذات في العالم المحيط بها”. أما الثانية فإن اهتمامها يتجه إلى عمق السلوك الإنساني، وإلى التاريخ والحياة الاجتماعية بشكل خاصٍّ، حيث نتقرَّى ملامحَ ذاتنا الخفية في مرآتها. وبخاصة إذا استحضرنا أهميةَ الحمام في النسيج المجتمعي، ووظائفَه المتعددة والمتنوعة، فهو:

      1- وجهٌ من وجوه الفن والإبداع الإنساني الراقي.

      2- مُرَكَّبٌ ذو طابع فريد من العادات والتقاليد الحميمة الرائعة، والمفتَقَدَة الآن.

      3- مَظْهَرٌ من المظاهر الصحية الحية.

      4- مُلتَقًى للحياة الاجتماعية التي يتجلى فيها الظرف والخفة، والصفاء والأدب، والمجاملة والمشاكسة.

      5- نَادٍ من النوادي الفاعلة في المجتمع، يلتقي فيه الناس من كل الأصناف والمشارب والتيارات، ومن مختلف المهن والثقافات.

     6- مَعْرِضٌ تجاري بامتياز، يلتقي فيه الحِرَفيون والمهنيون كالبزَّازين والعشَّابين، والحلاقين والمزَيِّنين، وما إليهم ممن يُشهرون تجارتهم وصناعتهم.

    7- وكالةُ أخبارٍ، تستقي الأحداث والوقائع من الرواد، وتبثُّها فيهم. حيث تُتَدَاوَل فيها أخبار المنازل والأحياء، وأخبار التجار والقضاة والعلماء والحكام والمسافرين، والأعراس والأفراح والمآتم، وغير ذلك من أحوال المعيشة والحياة، ومُستَجَدَّات الوقت.

    8- فضاءٌ للمناظرات الثقافية والفكرية والأدبية، والمناقشات العلمية والطبية.

إن تحليل التجربة الذاتية في الوجود يرتكز على الذات وأبعادِ علاقاتها بالآخرين، وعلى استحضار تعبيراتها الفنية والجمالية والفكرية في الزمكان. وهذا لا يتم إلا من هذه المُنطَلقات الأربعة:

        1-الوعي؛ والمقصود به إدراك الظاهرة في الوعي الإنساني قبل حدوثها في الواقع لكونه المؤشِّر على القصدية.

       2-التفكير؛ وهو عادة ما يسبق الفعل. فالوعي والتفكير يوجد بينهما فرق وتداخل في الوقت نفسه وذلك لأن الوعي بالشيء يسبق التفكير فيه والتفكير في ذلك الشيء يّجَسِّدُ الوعيَ به. على أن التفكير في الشيء يُمثِّل مرحلة تالية للوعي به فالوعي به هو الذي يُوجِدُ معنًى له، وهذا المعنى هو عُصارة التفكير فيه ويتجسد في التجربة التي يمر بها الشخص.

      3- التفاعل مع الآخر بواسطة اللغة التي تمثل أهم عنصر من عناصر الاتصال الإنساني، فبواسطتها نستطيع أن نكتشف حقيقتنا الاجتماعيةَ في هذا العالم القائم على أساس العلاقة بين الذات والبيئة المحيطة بها، والمتفاعلة معها.

      4- المشاركة الجسدية؛ فاللغة وحدها لا تكفي لمعرفة حقيقة الوجود الإنساني في محيطه الاجتماعي، بل إن التفاعل الحِسِّي الجسدي مع الآخرين هو الذي يؤكد هذه الحقيقة الوجودية، فعن طريق التفاعل الحسي الذي يمثله الجسد، والتفاعل الخطابي الذي تمثله اللغة يتأكد وجود الإنسان، وتتأكد إشراقاته.

فالحمامات هي مرَكَّبات جمالية تتلاقى فيها كل صنوف المعارف الذهنية، والمهارات اليدوية وتتحاضن وتتناسج وتتناغم، كما تتلاقى فيها الأجساد البشرية لتُدنْدنَ بأنغامها السرية كما كانت تدندن في الرحم، ولتمارس عريها الذي هو الأصل بعيدا عن الطابوهات، وسياط الطهرانيات المُقَنَّعة بقناع المقدس. ففيها تنتفي الحدود بين ما هو مقدس وما هو مدنس، ويعتلي الجسد قمة حريته، حيث يمارس في هذا المَحْضِن استقلاليته، ويتفيأ ظلال وعيه بالوجود من خلال عنصري الزمان والمكان الفينومينولوجيين، وليس المراد بالزمان هنا الزمان الفيزيائي المعروف، بل الزمان المعيش في الذاكرة والوعي والحُلْم. ولا بالمكان المكان الجغرافي الشائع، وإنما المكان المعيش الذي تتعرش فيه استيهامات تتلذذ بها الذات، وكأنها بذرة مرتوية بأنغام الرحم الأولى.

فالذي يسعى إليه في هذا البحث هو إثبات أن الجسد لا يتمتع باستقلاليته التي تمنحه معنى الوجود في الكون إلا داخل هذه المُرَكبات الجمالية المدعوة بالحمامات، وهذه الاستقلالية لا تُلغي الترابط المعنوي الوثيق بين كيانات أخرى مستقلة بجسدها. وهذا الترابط يجد صيغته العليا في الحمَّامامات، حيث تنفتح فيه أزهار الفتنة بكل معانيها الفنية والشعرية والذوقية، وتتصادى فيه أحلام الآتي، وأصوات المنسي، وكأنه بلَّورٌ مضيءٌ بالحدوس، صاعدٌ في سماوات غير مرئية إلا لروحه. وتلك هي روعة الشعرية الحمَّامية التي تجعلك تتعرف على الخفي والمحجوب فيك.

إن الحمامات تكشف عن جملة من السلوكيات المجتمعية التي تحكمها تصورات غيبية، لا أثر ظاهرا للعقلانية فيها، والتي كانت مُلجَمة خارجها بحكم المواضعات الاجتماعية، وعند تأملها والبحث فيها ستنكشف لا محالة عقلانيتُها المخصوصة، ونسقُ اشتغالاتها. والسوسيولوجية والإناسة Anthropologie؛ بما هما علمان ينصبان في جانب كبير منهما على ظاهرات وسلوكيات تتنافى والتعليل العقلي؛ تساعدنا منظوماتهما على فهم كثير مما يستعصي علينا فهمه من هذه السلوكيات التي قد تظهر شاذة. وإن اهتمامنا بها ينتمي إلى مهمة إضفاء المعنى، بل المعنى الأعمق والأكبر أحيانا على جوانب ثقافية تبدو للعقل التعليلي خالية من أي معنى. وذلك باتجاه رصد الوظيفة المجتمعية لما يبدو في ظاهره نافلا وزائدا، أو عبثيا وهامشيا وشاذا، أو ضرْباً من ضروب قلة العقل.

وإذن؛ فالاهتمام بمثل هذه السلوكيات ليس اهتماما بها لذاتها فقط، وإنما هو عتبة تُيسر التوقف عند غيرها من الوقائع المجانسة لها. فإذا كانت الأحوال النفسية والسلوكيات والمعتقدات الجماعية تصل في تأثيرها على الجسد إلى حد تعطيل وظائفه الحياتية والجنسية تعطيلا شبه كامل، وإيقاف مفعولاتها، فإنها قادرة بشكل أَوَّلِي على إحداث استجابات، وتحديد ضوابط جسدية، بحيث ينتج عن ذلك قَوْلَبَةٌ معينة للسلوك مجتمعيا وفرديا، كما ألمح إلى ذلك نيتشه حين دعا إلى ”توضيح وتفسير جميع القيم والالتزامات التي يتحدث عنها التاريخ والدراسات الإناسية من ناحيتها الجسمانية، وإخضاعها للبحث”. والواقع أن تصنيف الأفعال إلى مباحات ومحظورات، وإلى أمور محللة وأخرى مُحَرَّمة، أي إلى مجموعة من الأوامر والنواهي التي تحفل بها ثقافة جماعة من الجماعات، فتحدد سلوكاتها والتزاماتها، لا تتكرَّس عمليا بالهيِّن،بل بالكلفة الباهظة. ولذلك فنحن نرى أن نتساءل مثلا عن: كيف جرى تثبيت قواعد السلوك الجسدي لدى المسلمين الأوائل وبخاصة في الحمامات؟ وما هو دور الأحوال النفسية والمعتقدات الجماعية في تثبيت هذه القواعد التي ميزت الجماعة الإسلامية الأولى من غيرها من الجماعات المحيطة بها.

وإن ثمة ميلا كبيرا لدى الكثيرين إلى اعتبار القرآن المصدر الأول لتكَوُّن سلوكيات الجماعة الإسلامية الأولى، غير أن البحث الإناسي لا ينشَدُّ إلى هذا الميل، بل إنه يميل إلى السُّنة ؛بما هي أحكام لتحديد السلوك بدقائقه الجسدية أحيانا فهي التي تُفسر بدرجة أكبر نشوء الجماعة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.