الكرسي المتحرك

0 334

ماهرين سهيل*

ترجمة راضي النماصي**

في البداية، اشتريت الكرسي المتحرك مع أمي وأخي، ثم أخذنا أبانا إلى محل البقالة. طلب منا التوقف قرب أحواض الثوم المخلل، والمانجو المخلل، والفلفل المخلل، والزيتون المخلل. قال، أليس من الرائع أن تكون مخللًا؟، بوجه يضحك وينفرج مثل ثمرة برقوق. حدث ذلك بعد أن زارتنا السيدة التي قالت إنها تعرف شبحًا، وأن الشبح قال إن أبانا ليس مريضًا. يا له من يوم. كانت معنوياتنا مرتفعة.

سأل أبي، أيمكن أن يتحول ذلك إلى قصة إحدى المعجزات؟، ولم نقدر على قول “لا” رغم أن قلوبنا كانت تصرخ بذلك. كنا نعيش مع عمتنا التي يقع بيتها قرب جميع المستشفيات. كنا حزينين جدًا في بيتها، كنت أرتدي كل يوم نفس الملابس.

لم يحظ أبي باستقرار في نومه، كان يلوح بيديه في الهواء وأصابعه تتلوى فوق رأسه. ظننا أنه يتحدث مع الشبح، فكنا نوقظه طيلة الوقت؛ خفنا أنه قد يهين الشبح فيسلبه الشبح تشخيصه الجيد.

لم يستطع أبي الذهاب إلى الحمام بمفرده، كان عليه أن يتلقى المساعدة قيامًا وقعودًا على المقعد. كان يأخذ الأدوية في كل وقت، من أجل الحديد ومن أجل الدم ولإيقاف الألم. يا لها من طريقة كي يبقى الجسم على قيد العمل. ويا لها من طريقة للحزن. كان يحدق بعض الأيام في يده وفي كل الأقراص البيضاء ويسأل، ما كل هذا المسحوق؟ كنا نتحدث معه كما لو أنه طفل. كنت أبكي وأبكي كل يوم، فتحاول أمي إيقافي بعض الأحيان، وتشاركني أحيانًا أخرى. حين بكتْ تورم وجهها مثل بطيخة، وصارت عيناها مثل بذور بإمكانها أن تبصقها بعيدًا. كان منظرها أكثر منظر محزن قد ترونه طوال حياتكم لولا احتضار أبي.

كنت أذهب إلى أندية الكوميديا المستضافة على أسطح المنازل متى ما أمكنني الفرار. جلست على وسائد أرضية حمراء بجوار أولاد، ودخلت نسوة بشعر مضفر وملابس بيضاء فضفاضة ذات خطوط ملونة. كانت المراوح ومكيفات الهواء تتحرك بيننا، والجبال مرئية في الأفق. أطلقت وجهت مؤديات الفقرات الكوميدية نقدًا ساخرًا للجمهور، فضحكنا جميعًا بشدة حد أن وجوهنا تعبت من إبداء السعادة. كان يخطر ببالي كم أنا محظوظة في تلك الأيام.

في متجر البقالة وقرب أحواض المخللات، كان أبي يرتدي قميصًا أخضر بحال جيدة، وعليه بنطال رياضي. قام لوهلة أمام واجهة عرض العينات صغيرة. جرب الزيتون المحشي بالثوم، والمحشي بالجبن أيضًا. وقف بساقين مرتعشتين إلى جانب أخي، وثبت نظره على البائع. قال إنهما لذيذان للغاية.

أخذت الكرسي المتحرك من خلفه ثم جلست عليه لمدة. كنت متعبة بعد تجوالي معه في أرجاء المتجر، بعد أن تعدينا الملابس وأجهزة التلفاز والفاكهة والخضروات والمخبوزات والشوكولاتة المستوردة. كان يحادثني دون أن يلتفت فأضطر إلى أن أميل نحو قفاه. كان يتحدث مثل رجل أدرد وشفتاه مضمومتان إلى فمه.

جلست على الكرسي المتحرك أثناء وقوفه ريثما يتذوق عينات الزيتون مع أخي. أغمضت عيني وارتحت. لما فتحتهما لاحظت أن جميع من تعدّاني يحدق بحزن شديد. كانت الشابات ينظرن إلى ساقي، والرجال متحلقين حولي كما لو أنني أحترق، والعجائز يبحثن عن مرافقي. بدوا جميعًا وكأنهم يفكرون بالمأساة والشابة الصغيرة والساقين المعطوبتين.

لاحظت أن أبي يتمسك بسطح العينات ورجلاه ترتعشان، وعلى كتفيه لوحين عظميين بدلًا من الذراعين. وضعت قدمي في مكانهما بالعربة وأمسكت بالعجلتين، ثم درت بنفسي وأخذت أتجول حول المتجر. تأكدت من كون الجميع قد رأوني أدور وابتسامة عريضة تعلو محياي. تعديت مجددًا كلًا من الملابس وأجهزة التلفاز والفاكهة والخضروات والمخبوزات، إضافة إلى الشوكولاتة المستوردة. ثم حدقت بشوق في الملابس، خاصة البناطيل. ودردشت مع الزبائن رافعة عنقي بشدة إلى الأعلى كي أنظر إليهم. رأيت عيونهم تفيض بالشفقة. قال دماغي حسنًا، حسنًا، حسنًا، حسنًا، عمل جيد، كما لو أنه يغني. سألتني سيدة عجوز بلطف في منطقة الأحذية، ماذا حدث لساقيك؟ قلت، حادث، ثم نظرتُ إلى فاترينة الكعوب الطويلة مثل ثلج متراكم. ربتت على كتفي، وقالت، أنتِ شجاعة جدًا. كان الشعور بالتقدير طيبًا.

تغيرت الأغنية في رأسي، وصارت كلماتها، أنتِ شجاعة جدًا. عدت مجددًا إلى منصة الزيتون. رأيت أن أبي ما زال واقفًا يأكل الزيتون. سأل أخي، أين كنتِ؟ وقفتُ على ساقيّ المعافاتين القويتين وأعنتُ أبي على الجلوس مكاني. أخذ بعض الصبية يشيرون. بقيت مبتسمة رغم أنني شعرت بأن الأجواء في المتجر تتغير، وتغمرها الربكة قليلًا، لربما العدائية. أستطيع المشي، كنت كاذبة، لكني متعبة في نفس الوقت. دافعت عني الحقيقة. كانت تقرقع في المال الذي دفعه الناس للمحاسبين، وحملت نفسها إلى الخارج عبر أكياس التسوق، ودخلت بيتنا. أكلنا – أنا وأمي وأخي – الطعام وحافظت على جمعتنا لسنوات. أنت شجاعة جدًا، نحن شجاعان جدًا، نحن أقوى من تعرفين.

 

ماهرين سهيل

* ماهرين سهيل كاتبة باكستانية نالت درجة الماجستير في الفنون الجميلة في كلية سارة لورنس إثر منحة فولبرايت من الولايات المتحدة. سبق ظهور قصصها في أنثولوجيا جائزة بوشكارت للقصص القصيرة، ومواقع مثل «أ بابليك سبيس»، «نو توكينز»، «بوست رود»، «كوزموناتس أفينيو» و«غرانت» غيرها. كما تلقت زمالة تشارلز بيك لجنوب آسيا عام 2014، وزمالة الكاتب الناشئ لموقع «أبابليك سبيس» في نفس العام. تعيش حاليًا في إسلام أباد، باكستان.

 

راضي النماصي

** راضي النماصي: كاتب ومترجم سعودي، صدر له

«داخل المكتبة.. خارج العالم! – نصوص عالمية حول القراءة»

 

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.