صورة “وردية” تُبدّدها الوقائع

جدل - الناشر العربي

0 415

جعفر العقيلي – الآن ناشرون وموزعون – الأردن

تمثل المعارض المنصة التقليدية التي تتيح للناشرين والمؤلفين والقراء الالتقاء في فضاء واحد، والاحتفاء بالكتاب بوصفه بطل التظاهرة؛ البوابة الرئيسة لنقل التجربة، وتحصيل المعرفة، وتحقيق المتعة. وأبعد من ذلك، فقد أصبحت المعارض فرصة للتعرف على الجديد فيما يتعلق بصناعة الكتاب، وتُعقد على هامشها مؤتمرات المكتبيين والمؤتمرات المهنية لتطوير أداء العاملين في قطاع النشر، فضلاً عن احتضانها اللقاءات بين أصحاب الحقوق لإبرام الصفقات وتوقيع العقود، بخاصة في مجال الترجمة.

ولهذا، فإن أول ما يشغل بال الناشر بعامة هو كيفية إدارة دفة مشاركته في هذه المعارض؛ لتكريس حضوره والتسويق لإصداراته، وبالتالي جني مردود مالي يعينه للمضي قدماً في مشروعه الذي لا بد من الاعتراف بأنه “استثماري” في أحد وجوهه.

مزاجية متوقَعة ومربكة

لكن هذه الصورة “الوردية” سرعان ما تتبدّد بالنظر إلى جملة من الحقائق والوقائع التي لا يمكن إغفال أثرها على مشهد صناعة الكتاب عربياً، بصرف النظر عن المحتوى والقيمة الفنية لما يصدر، فهذا شأن آخر لا تكفي المساحة هنا للخوض فيه. ولتوضيح ذلك، فإن أول ما يواجه الناشر يتمثل في “مزاجية” متوقَّعة قد تظهر هنا وهناك في أداء إدارات بعض المعارض. مزاجية قد تحول دون مشاركة ناشر ناشئ أو ريادي أو يحقق حضوراً واختراقاً في المشهد، لصالح منح مساحة إضافية لناشر آخر قد لا يشفع له في اللحظة الراهنة سوى تاريخه و”عراقته”، أو لأن له “يداً طولى” تستمد قوتها من كونه عضواً في المجلس التنفيذي أو مجلس الإدارة في اتحاد الناشرين القُطْري الذي ينتمي إليه.

واقع الحال هذا جعل إدارة أحد المعارض ترسل لـ “الآن ناشرون وموزعون” رسالة اعتذار لإلغاء مشاركة الدار في المعرض، بعد الموافقة على هذه المشاركة في وقت سابق، وبرسالة رسمية! وهو ما تكرر بأشكال وصور مختلفة مع “الآن ناشرون” ودور نشر زميلة، في معارض متفرقة. والأنكى أنّ التواصل مع إدارات بعض المعارض لا يفضي إلى نتيجة أو الحصول على توضيح (هذا إن كانت أرقام الهواتف تعمل أو تستجيب). وحين تطرق باب “صديق مشترك” لمعرفة سبب “الاعتذار المفاجئ” عن قبول مشاركة الدار -بعد أن أتمت استعداداتها وقدمت الوثائق والبيانات المطلوبة- يكون ردّ الإدارة لذلك الصديق: “لا تنطبق الشروط عليهم”! فتجهد في معرفة الشروط، لكن دون جدوى، لأنها في “بطن” الإدارة!

هذا أحد الجوانب في الصورة. فلنواصل تأمُّل بقية الجوانب! يخاطب الناشر إدارة المعرض (في حال تأكّدت مشاركته) ليزودها باقتراحات لفعاليات يمكن أن يثريها عدد من مؤلفيه (سواء أكان ذلك بطلب من الإدارة أو بمبادرة منه)، لكن لا يُتفاعل معه ولا مع اقتراحاته، وحين يستعرض البرنامج الثقافي على هامش المعرض ربما يصرخ في دخيلته: “مَن هؤلاء؟” وهو يقارن بين الأسماء التي رشّحها وتلك التي اختيرت لتمثل المشهد!

قبل ذلك وبعده، قد تؤدي القرارات الفورية والمرتجلة التي تتخذها إدارات بعض المعارض إلى إرباك حسابات الناشرين. ومنها، أن إدارة أحد المعارض قررت، بشكل مفاجئ، منع دخول الكتب المخزنة لدى شركات الشحن من الدورة الفائتة إلى المعرض؛ ما كبّد الناشرين خسائر محقّقة. فلو كان القرار اتُّخذ قبل نهاية تلك الدورة، لأعادوا الكتب إلى بلدانهم، ولما أقدموا على خطوة “التخزين” التي تعني كساد بعض الكتب بسبب التقادم في زمن صدورها.

مشاكل الشحن وما بعده

حسناً! وماذا عن تدابير الشحن، والإجراءات الكفيلة بحفظ الكتب كي تقدَّم للقارئ على أفضل صورة؟! هذا ينطبق عليه المثل السائر “أنت وحظّك”. فشركات الشحن والتخليص تتعامل مع “بضاعة” لا يعنيها إن كانت كتباً أم أرجُل طاولة! فحدث –وياما حدث- أن تصل “كرتونة” مفتوحة أو ممزقة أو ناقصة بعد أن تناثرت الكتب منها خلال رحلتها إلى “المجهول”! ويحدث –وياما حدث- أن تضيع “كرتونة”، ولا تصل إلى المرفأ الأخير أو الجناح الذي ينتظرها في المعرض. وحينها، ليس هناك من جهة تتحمل المسؤولية.

وقبيل انطلاقة المعرض، يُفترَض أن تكون الكتب قد وصلت عبر الشحن. وفي هذه العملية ما فيها من تفاصيل، أولها عدم إرسال الكتب التي قد “تسبب مشكلة”، وليس آخرها ما تلعبه المنظومة الاجتماعية وإكراهات الرقابة والخصومات السياسية من دور كبير في هذه المسألة. ولا مجال للتسامح هنا. وإذا حدث أن عرض الناشر إصداراً “لم يَرُق” لإدارة المعرض، فالمصادرة أهون الحلول. وإذا كانت الإدارة لا ترغب في إثارة زوبعة، يُكتفى بالتحفظ على الكتاب حتى انتهاء المعرض، ثم يعاد للناشر مع تعهّد بعدم إحضاره في الدورة المقبلة!

الأعباء والوعود وكفّتا الميزان

لنواصل سبر أغوار التجربة/ المغامرة! يتكبد الناشر مبالغ عالية تبدأ من كلف الشحن والتغليف والتخليص والتحميل والتنزيل؛ مروراً برسوم التأشيرات وكلفة الإقامة في الفنادق وكلف التنقل والإنفاق خلال رحلته للمشاركة في المعرض؛ وليس انتهاء بمكافآت المتعاونين والعاملين في الجناح، إذ ينتظره ما هو أكبر: رسوم الاشتراك في المعرض، والرسوم الإضافية، وضريبة القيمة المضافة، وكلف استئجار أيّ لوجستيات (طاولة، كرسي، رفّ)؛ فضلاً عن رسوم التأخير في حال لم يتمكن من دفع المبلغ المطلوب في التوقيت الذي تحدده الإدارة.

ثم ماذا؟! ثمة بصيص أمل. نعم! أمل بالبيع في ظل الوعود الكبيرة بأنه سيكون وفيراً. ليكتشف الناشر أن إدارة المعرض، والمؤسسات المعنية في الدولة المضيفة، لم تبذل الجهد الكافي لتوجيه الرأي العام لزيارة المعرض، ولم تنظم حملات دعائية وإعلانية وإعلامية مدروسة تخاطب الفئات المستهدفة لتخصيص جزء من وقتها لارتياده. فتتضاءل الآمال شيئاً فشيئاً إلى أن تقتصر على ألّا يعود الناشر إلى بلده بـ”الخسارة”. وإنه لتحدٍّ كبير!

وثمة تحديات أخرى بالطبع، منها غياب المعايير عند توزيع المبالغ التي تخصصها المؤسسات الرسمية وإدارات المعارض للشراء من الناشرين دعماً لهم وتعزيزاً لصمودهم في وجه العوامل المثبطة التي تتعلق بتجارة الكتب! ورغم أن هذه المبالغ غالباً ما تكون “منحة” من الدولة ينبغي توزيعها بعدالة وموضوعية؛ فإن “المولد” قد ينتهي والناشر لم يعرف بعد لماذا لم يشترووا منه أو لماذا اشتروا منه بمبلغ رمزي، بينما اشتروا من جاره بأضعاف ذلك. ومما أذكره، في هذا السياق، أن أحد المعارض كان موسماً “خاسراً” لكثير من الناشرين لأسباب تتعلق بالوضع العام؛ فأُعلن عن منحة لـ”إنقاذهم” على أمل أن يعودوا إلى بلدانهم ببعض الثمار، لكنهم عادوا خاليي الوفاض، وها قد مرّ أكثر من عام و”المنحة” ما تزال لم تغادر دائرة الكلام!

تغييب الحاضر، التضحية بالحضور

ولا يملك الناشر من أمره شيئاً وهو يشاهد المساحة المخصصة للمعرض تتحول إلى فضاء للعائلة، يسعد فيه أفرادها بمتابعة فعاليات ترفيهية، وعروض دمى، وفقرات فنية وموسيقية.. إلخ؛ ولا يكترثون بـ”البطل” لهذه التظاهرة (الكتاب) الذي يقف على الرفوف منتظراً يداً حانية أو قارئاً شغوفاً يحمله ويبث في صفحاته الحياة!

ثمة أمر آخر يعيق المشاركة الفاعلة للناشرين في المعارض، وهو التعارض والتضارب والتداخل في مواعيد إقامتها، ما يعني أن على الناشر التضحية بمعرض لصالح آخر، ويكون بذلك بين خيارَين أحلاهما مُرّ! وأنا على يقين أن هذه المسألة يمكن حلّها ببعض التنسيق والتعاون والإرادة بين الإدارات التي كثيراً ما تجتمع على هامش المعارض، لكن يبدو أن هذا الموضوع ليس على طاولة البحث!

تطلعات وآمال

رغم هذا كله، لا بد من الاعتراف أن المعارض ستبقى المنصة المتاحة للكتاب الورقي أساساً، وأن لا بديل عنها، لكن لا بد من بذل الجهود المخلصة لتنظيم “بيوتها” من الداخل، وزيادة التنسيق بين إداراتها، وإبطال مفعول “الرقابة” بمستوياتها كافة، بخاصة أنها لم تعد مجْدية في ظل الثورة المعلوماتية وتَحوُّل العالم إلى قرية صغيرة، وأخيراً اقتراح صيغ فاعلة لإعادة الألق للكتاب وتشجيع صناعة النشر وتكريم المؤلفين ودعم الناشرين لتطوير مشاريعهم بوصفهم يؤدّون دوراً معرفياً وتنويرياً لا غنى عنه لرفعة المجتمعات.

  صفحة الآن ناشرون وموزعون على الفيسبوك

  حساب الآن ناشرون وموزعون على تويتر

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.