تتار روسيا .. تاريخ حافل وحضور متميز

0 415

إدريس بوسكين – الجزائر

جمهورية تتارستان في روسيا هي حاضرة الثقافة التترية (التوركية) وعاصمتها هي كازان التي يمتد تاريخها لأكثر من ألف عام فهي بذلك واحدة من أقدم المدن في روسيا على الإطلاق، أقول في روسيا ولا أقول الروسية لأن الأمر مختلف تماما ففي اللغة العربية وأكثرية اللغات الأجنبية يطلق على البلاد عادة اسم روسيا وعلى قاطنيها اسم الروس رغم أنها تحوي عشرات الأجناس ورغم -أيضا- أن أكثر من ثلاثين بالمائة من سكانها ليسوا روسا بتاتا، وهذا أمر مظلل ومجحف إلى أبعد حد لأن العالم بذلك ينسب كل المفاخر إلى الروس وإن كان غير الروس هم من صنعوها .. وإذا عدنا إلى التاريخ فإن “روس الكييفية” أو “كييفسكايا روس” كما يسميها السلاف الشرقيون هي أول كيان “روسي” قائم بحد ذاته حيث كان منشؤها بالعاصمة الأوكرانية “كييف” من طرف سلالة “الريوريك” التي تقول بعض المصادر الغربية بأنها ترجع في أصولها إلى جماعات هائمة من الفايكنغ الجرمان الهمج، ولم يكن تأسيس هذا الكيان الذي ضم أغلب القبائل السلافية الشرقية وخصوصا منهم الروس والأوكرانيين والبيلاروس إلا مع نهاية القرن التاسع رغم أنه استمر إلى غاية منتصف القرن الثالث عشر فأراضي الروس الأصلية إذا لم تتجاوز في الأصل مدينة “كييف” التي تفخر اليوم بكونها “أم المدن السلافية” وبعض المناطق المحيطة بنهر الدون في حين أن باقي مناطق روسيا الحالية كسيبيريا والأراضي الجنوب غربية والشمال غربية كانت دائما الموطن الأم لمختلف الشعوب الطورانية (التوركية منها والأورالية) بما فيها العاصمة موسكو التي كان أول من سكنها إحدى الشعوب الفنلندية الأورالية، غير أن هذا الإشكال اللغوي قد تم تجاوزه نوعا ما على المستوى المحلي ففي اللغة الروسية يطلق على البلاد ككل اسم “راسيّا” وعلى مواطنيها “راسيّانيي” في حين أن الإنسان الروسي يسمى “روسكي” وبذلك فقد تم إلى حد ما تفادي هذا الإبهام الذي يحجب كليا ثقافات شعوب بأكملها ولكن العالم ككل لا يزال إلى اليوم لا يستوعب هذا الفرق الشاسع لدرجة أن الجميع لا يعرف مثلا أن لينين ليس روسيا وإنما تشوفاشيا توركيا.

شخصيات عظيمة في التاريخ الروسي هي ذات أصول تترية ويكفي أن نذكر هنا على سبيل المثال القيصر الروسي الشهير باريس ﭭودونوف الذي حكم روسيا في الفترة من 1585 وإلى غاية 1598 والذي وصل إلى الحكم بعد الكثير من الدسائس والإستراتيجيات فبعد وفاة إيفان “الرهيب” خلفه ابنه فيودور الأول ولكنه كان ضعيف الشخصية فحكمت بدله واقعيا زوجته التترية إيرينا ﭭودونوفا ابنة باريس ﭭودونوف إلى أن توفي ليخلفه باريس ﭭودونوف نفسه وهكذا انتهت سلالة “الريوريك”.

ومن بين هذه الشخصيات أيضا ديمتري كانتيمير وأصل لقبه “خان تمير” (بعض المؤرخين ينسبونه إلى أصول مغولية) وهو أمير مولدوفا فيما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر وقد كان أديبا وفيلسوفا ومؤرخا وموسيقارا ولسانيا وإثنوغرافيا وجغرافيا عظيما قلما عرف مثله التاريخ الروسي، كما أن أبناءه كان لهم دور كبير في هذا التاريخ على غرار أنتيوخ كانتيمير الذي وعدا شغله لمنصب سفير روسيا لدى كل من لندن وباريس فقد كان أيضا من أهم أدباء البلاد في القرن الثامن عشر وكذلك ابنته الفاتنة ماريا كانتيمير التي كانت معشوقة الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر (بيوتر الأول)، وهذا الأخير كان تتريا أيضا من ناحية أمه نتاليا ناريشكينا بل وحتى إيفان “الرهيب” الذي نكل بالتتار كانت أمه يليينا غلينسكايا تترية الجذور أيضا، ومعروف أن كثيرا من العائلات النبيلة في روسيا منذ القرن السادس عشر وإلى غاية قيام الثورة البلشفية عام 1917 كانت من أصول تترية جرى تمسيحها بالقوة على يد قياصرة روسيا على غرار عائلتي ستروغانوف ويوسوبوف وبالطبع آل شيريمتييف الذين يسمى عليهم أحد أشهر مطارات موسكو.

وهناك أيضا الجنرال ميخائيل قطوزف هازم نابليون بونابرت في معركة “برودينو” الشهيرة قرب موسكو عام 1812 والمؤرخ والكاتب والشاعر والناقد السوفيتي الكبير نيكولاي كرمزين والروائي والقاص والمسرحي الشهير إيفان تورغينييف والروائي والقاص والفيلسوف الكبير فيودور دوستويفسكي والمنظر الماركسي الشهير غيورغي بليخانوف والشاعر الكبير في الأدب الروسي الكلاسيكي غافريلا ديرجافين وكاتب القصة القصيرة المعروف فسيفولد غارشين والفنان التشكيلي الشهير فاسيلي كادينسكي (من مؤسسي المذهب التجريدي في روسيا) وهو تتري من ناحية أمه بالإضافة إلى العالم الكيميائي دميتري مندلييف.

ومن هذه الأسماء أيضا الموسيقار العالمي سيرغي رخمانينوف والموسيقار صوفيا غوبيدولينا وكذا الشاعرة آنا أخماتوفا حفيدة جنكيز خان من ناحية أمها وأكبر امرأة شاعرة في تاريخ الأدب الروسي (من أصول مغولية تترية) والشاعر المعروف ليرمانتوف وهو تتري من ناحية أمه والروائي ألكسندر كوبرين وهو أيضا تتري من ناحية أمه وكذلك الأمر مع إيفان بونين الذي لديه أيضا جذور تترية وتركية من ناحية أمه (من أسلافه الشاعر الشهير وأب المذهب الرومانسي في الأدب الروسي فاسيلي جوكوفسكي الذي كانت أمه تركية الأصل).

وفي قائمة الشخصيات الروسية التترية الأصل يدخل أيضا اسم الروائي العبقري والشاعر والمترجم والناقد العالمي فلاديمر نابوكوف والشاعرة المتمردة بيلا أخمادولينا بالإضافة لبطل الحروب النابوليونية دنيس دافيدوف وهو أول من كتب المذكرات الحربية في التاريخ الروسي بل وحتى الكاتب والناقد المعروف قسطنطين أكساكوف الشهير بحبه ودفاعه عن الثقافات السلافية كان تتري الأصل.

كما تبرز أيضا أسماء راقص الباليه العالمي رودولف نورييف أهم راقص باليه في القرن العشرين وقسطنطين تسيولكوفسكي رائد علوم الفضاء والصواريخ وهو تتري من ناحية أمه، وكذلك المنشق والحقوقي الشهير وأبو القنبلة الهيدروجينية الروسية أندري ساخاروف وأمه كذلك تترية الأصل، بالإضافة للكثير من الأسماء البارزة في السنوات الأخيرة على غرار لاعب التنس مرات سافين وأخته دينارا سافينا والممثلة السينمائية الشهيرة تشولبان خاماتوفا (التي وقفت مؤخرا في وجه الهجوم الروسي على أوكرانيا) ومغني الراب الأول في روسيا تيماتي وعارضة الأزياء الشهيرة الحسناء إيرينا شايك (صديقة رونالدو البرتغالي السابقة) ولاعبتا الجمباز العالميتين ألينا كاباييفا (صديقة بوتين) وعاليا موستافينا ومفتي روسيا راويل غينوتدين وكوكبة لا تحصى من السياسيين والعسكريين والمثقفين والفنانين والعلماء الكبار وفي مختلف المجالات. بل وحتى خارج روسيا فإن التتار مميزون بشخصياتهم التي لا يعرف أصولها أغلب الناس على غرار الممثل الأمريكي الأسطورة تشارلز برونسون ورينات أخمتوف أغنى إنسان في أوكرانيا ومجدت رخيمكولوف أغنى إنسان في المجر وهارون تازييف عالم البراكين الفرنسي الشهير وكذا عالمي الطبيعة ورائدي الخيال العلمي في فرنسا الأخوين إيغور وغريشكا بوغدانوف بالإضافة طبعا لهنريك سينكيفيتش الروائي البولوني صاحب نوبل للآداب لعام 1905 وهي أول جائزة نوبل تمنح للبولاك .. والمثل الروسي يقول “إذا حطمت روسيا تجد داخله تتريا”.

إن علاقة العديد من الشعوب الطورانية من تتار ومغول وقيرغيز وأوزبك وتركمان وآذر وكازاخ وياقوت وتشوفاش وبشكير وأتراك ومجريين وفنلنديين ولابونيين وإستونيين وسامويد وبلغار وبلكار وكاراتشاي وكوميك وناﭭﺎي وآفار وﭭاﭭوز وكراييم (كراييت) وكريمتشاك وتوفان و”يهود أشكيناز” (حفدة الأتراك الخزر) مع الروس هي علاقات قديمة جدا ومؤثرة في التاريخ والفكر والثقافة الروسية بل هي الأكثر تأثيرا بين كل الثقافات والحضارات التي احتك بها الروس على مر تاريخهم، حتى أن الثقافة الشعبية الروسية الحالية تستمد الكثير من عناصرها من الثقافات التوركية القديمة وعلى رأسها التترية كما يؤكده الكثير من الباحثين في الفلكلور الروسي، وهذا حقيقة ليس بالغريب فأغلب الدراسات الجينية اليوم تقول بأن الكثير من الروس تجري في عروقهم الدماء التترية وهذا أمر يمكن ملاحظته بسهولة في تعابير الروس وخصوصا شكل العينين ولون البشرة “الصفراء” وفلاديمير بوتين وليونيد بريجنيف أبرز الأمثلة على ذلك، وهذا الواقع لا ينكره الروس أنفسهم باستثناء قلة من القوميين رغم أن الإختلاط بين البشر هو في النهاية سمة عادية بين جميع شعوب العالم الحالي المتحضر.

بالآلاف أيضا هي الكلمات الروسية ذات الأصول التترية أو التوركية على غرار اسم “الكريملن” المأخوذ من المفردة التترية “كريم” ومعناها “الحصن” وهي نفس أصل كلمة “القرم” التي تطلق اليوم على “شبه جزيرة القرم”، وكذلك المفردة الجغرافية “سيبيريا” وبالروسية “سيبير” وأصل الكلمة “سيب إير” ومعناها بالتترية “الأرض النائمة”، بالإضافة لمصطلح “بويار” أي الرجل النبيل ومعنى الكلمة في التترية “الرجل الغني”، وأيضا إسم بحر “كارا” (قارة) الواقع بالمحيط المتجمد الشمالي ومعناه بالتترية وباقي اللغات التوركية “البحر الأسود” وبالطبع إسم جبال “ألتاي” في جنوب شرق سيبيريا ومعناه في اللغات التوركية “جبل الذهب”، ويقول عدد من المؤرخين أن جميع الشعوب التوركية قد خرجت فيما مضى من جبال “ألطاي” (قبل آلاف السنين) وانتشرت بعدها في كل أوراسيا وعمرتها.

ومن هذه المفردات أيضا “بلالايكا” وهو إسم آلة وترية روسية يفتخر فيها الروس وتعتبر من رموزهم الموسيقية غير أنها توركية الأصل إذ تستمد جذورها من آلة “الدومرا” التي أدخلها التتار إلى كل روسيا، وهناك أيضا “دينغي” أي النقود و”لوشد” التي تعني الحصان كما أن كلمة “دافاي!” نفسها التي تحمل معنى “هيا بنا!” وذات الاستعمال الواسع في الحديث اليومي الروسي توركية الأصل. وعدا هذا فإن آلافا من أسماء المواقع والمدن والمقاطعات هي أيضا ذات جذور تترية أو توركية على غرار شارع “أربات” الشهير في موسكو (ومعنى الكلمة في التترية حسب بعض اللغوين “ضاحية”) وبحيرة “بايقال” جنوب سيبيريا (ومعنى الكلمة في اللغات التوركية “البحيرة الغنية”) وأيضا بحر “آرال” (ومعنى الكلمة في اللغات التوركية أيضا “جزيرة”) وبحر “آزوف” (ومعنى الكلمة في لغة شعب القبتشاق التوركية المنقرضة “الأراضي المنخفضة”) وكذلك مدينة “ساراتوف” جنوب غرب روسيا (ومعنى هذه الكلمة في التترية “الجبل الأصفر”) بالإضافة للمصطلحين الجغرافيين “التايغا” (ومعناها في اللغات التوركية “الغابات الصنوبرية”) و”الأورال” (ومعنى الكلمة في لغة البشكير التوركية “الحزام الصخري”).

هي إذا أسماء مواقع ومدن ومقاطعات وتضاريس ذات جذور تترية وتوركية لا غبار عليها وهذا لأنها كانت سابقا تابعة لسلالات وممالك توركية أو أنها تاريخيا بمثابة الأرض الأم لعدد من هذه الشعوب على غرار تشوفاشيا وبشكيريا بالإضافة طبعا لشبه جزيرة القرم التي ارتكب فيها القادة السوفييت أبشع الإبادات بحق التتار، ومعروف أن أراضي الشعوب التوركية وحضاراتها القديمة قد امتدت تاريخيا من المحيط الهادي وتركستان الشرقية التي تحتلها الصين اليوم وتسميها “شينجيانغ” أي “المستعمرة الجديدة” وإلى غاية المجر ووسط أوروبا مرورا بآسيا الوسطى وجميع الأراضي الشمال شرقية المطلة على المحيط المتجمد الشمالي تماما مثلما هو مشهور المثل الروسي الآخر الذي يقول “أبي تركي وأمي يونانية وأما أنا فروسي”.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.