تتار روسيا والإسلام

0 306

إدريس بوسكين – الجزائر

اعتنق التتار الإسلام عام 922 ميلادي لما استقبل خان التتار “ألمش بن يلطوار”، وبطلب منه سفارة من الخلافة العباسية من بغداد في بولغار، مدينة كازان الحالية، وأعلن الإسلام دينا للدولة؛ وهكذا تم اتخاذ خيار حضاري لم يؤثر فقط في تاريخ شعب التتار، ولكن أيضا في تاريخ الدولة الروسية بأكملها؛ حيث أصبح التتار المسلمون اليوم جزءا لا يتجزأ من الإمبراطورية الروسية متعددة الأعراق والديانات.

يوجد في العالم اليوم أكثر من 20 مليون تتري يقطنون في أغلبهم في روسيا، بالإضافة إلى بلدان آسيا الوسطى والقوقاز وشرق ووسط أوروبا، وصولا إلى الصين واليابان. في روسيا، يعيش التتار أساسا في جمهورية تتارستان، وأيضا في جمهورية بشكورتستان المجاورة، كما يعيشون أيضا في موسكو وأستراخان وسان بطرسبيرغ وأغلب جمهوريات ومقاطعات سيبيريا، بالإضافة إلى تركيا وكازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وأذربيجان وأوكرانيا ومولودوفا ورومانيا وبلغاريا وبولندا وبيلاروسيا والمجر والصين ولاتفيا وليتونيا وإستونيا وفنلندا واليابان، وفي أغلب هذه البلدان يعتبرون من العرقيات الأصيلة، أي أنهم سكان مسلمون أصليون وليسوا من المسلمين المهاجرين الوافدين كحال الأتراك والعرب، وهم في بعض هذه البلدان يعتبرون الممثلين الرسميين للإسلام كما في بولندا ولاتفيا، وقد كان للتتار دور كبير في نشر الإسلام بالقوقاز والبلقان وسيبيريا إلى جانب أبناء عمومتهم الأتراك العثمانيين، ومعروف أن المساجد الأولى في التاريخ التي بنيت في الولايات المتحدة الأمريكية وبولندا ولاتفيا شيدها التتار؛ ففي الولايات المتحدة مثلا يعتبر مسجد “باورز ستريت” ببروكلن بمدينة نيويورك الذي بناه تتار الليبكا (تتار ليتوانيا وبولندا) في بداية ثلاثينيات القرن الماضي (أو قبله) أقدم مسجد في نيويورك وفي الولايات المتحدة, كما أن التتار كتجمع عرقي ديني (إسلامي) هم أول من مارس العقيدة الإسلامية بصفة رسمية وعلنية في نيويورك.

في كازان، يمكن للزائر أن يزور العديد من الآثار القديمة التي تعود لحاضرة (بولغار) التترية القديمة، عاصمة التتار القديمة، والمتواجدة خصوصا على ضفاف نهر “إتيل” (الفولغا)، وكذا الكثير من المتاحف التي تعكس تاريخ وحضارة التتار، كما يمكنه زيارة كرملين المدينة الواقع في أعلى إحدى التلال والذي أدرجته اليونسكو ضمن تراثها الإنساني عام 2000؛ حيث يبرز فيه خصوصا قصره الحكومي الذي يرتفع فوقه العلمان التتري (القومي) والروسي (الفيدرالي) ويعود تاريخ بنائه للقرن التاسع عشر، وبرج فريد من نوعه شيد في ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر. المكان برمته فخم جدا، ويمكن للزائر من خلاله أن يرى الكثير من معالم المدينة. في قلب الكريملين الذي بني فيما بين القرنين العاشر والسادس عشر، يتواجد أيضا مسجد “قول شريف” الذي شيد في القرن السادس عشر، وأعيد بناؤه عام 1996 فوق حصن كازان، وهو قطعة فنية عصرية آية في الجمال، كما أنه من أكبر مساجد أوروبا الشرقية على الإطلاق رغم أن هناك مساجد أخرى أقدم منه بكثير وذات هندسة تترية رائعة كالمسجد الأحمر “زاكابانيا” والأخضر “أزيموفسكايا” الذي يمثل قمة هذه الهندسة المعمارية، وقد بني مسجد “قول شريف” على شرف المجاهد والإمام والشاعر والمفكر ورجل الدولة التتري الشهير “قول شريف” الذي استشهد وطلابه عام 1552 أثناء الدفاع عن كازان ضد قوات إيفان “الرهيب” الغازية.

بعيدا عن المساجد، ثمة أيضا (مناستير) مسيحي للرجال يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن السابع عشر، وكنيسة قديمة بنيت في النصف الأول من القرن الثامن عشر على شرف الإمبراطور “بطرس الأكبر” الذي زار المدينة عام 1722، وأما في وسط كازان فإن أجمل مكان فيه هو حتما شارع “باومنه” الشهير الذي يكتظ بمحلات التسوق والمكتبات والغاليريهات، والفنانين المتجولين، والمطاعم الفخمة التي تقدم أشهى المأكولات التترية والروسية والتركية، وكذا المقاهي التي يمكن التمتع فيها بألذ أنواع الشاي الساخن المرفوق بالـ “تشاك تشاك” أشهى التحالي التترية، كما به أيضا كنيسة جميلة ذات أجراس تعود إلى القرن الثامن عشر. غير بعيد عن المكان، يبرز هرم كازان الزجاجي الرائع الذي يعتبر مجمعا ثقافيا وترفيهيا رائدا بالمدينة. ويعكس بشكل ما ثقافة التتار العريقة.

كما تحوي المدينة عدة مراكز حضارية على غرار المسرح الأكاديمي الوطني التتري الذي يعود تاريخه إلى العام 1906، ومنزل تاريخي باسم الإمام شاميل يعود تشييده إلى العام 1903، والذي تحول اليوم إلى متحف أدبي يحمل اسم “توكاي”، ومنزل القائد الأعلى للقوات المسلحة لمقاطعة كازان، والذي يعود تاريخه إلى بدايات القرن العشرين، وهو اليوم المتحف الوطني للفنون الجميلة لجمهورية تتارستان بالإضافة لساحة السلطان “ﭭﺎلييف” التي أنشئت عام 1986 تخليدا لذكرى لينين، وتحولت ابتداء من عام 1991 إلى المركز الثقافي الوطني لكازان، من دون أن ننسى طبعا الجامعة الوطنية لكازان التي تأسست عام 1804 وتحمل اسم لينين وهي من أكبر جامعات روسيا وأعرقها، غير أنها وللأسف مازالت لا تسمح باستعمال التترية في تخصصاتها العلمية، ولا حتى تعليم طلابها التاريخ الحقيقي للمنطقة؛ حيث مازال الأجانب يدرسون عن فترة غزو التتار والمغول لما يسمى “روسيا القديمة” على أنها ظلم وطغيان أو كما يصفها الروس أنفسهم “منغوله-تتارسكايا إﻴﭭﺎ” في حين لا يعلم الأجانب أي شيء عن تلك المجازر التي ارتكبها قياصرة الروس بحقهم فيما بعد.                                                           ويوصف التتار في كل روسيا بأنهم أذكياء جدا وشديدو الجمال، كما تعرف عنهم نباهتهم، وبأنه لا يمكن خداعهم أبدا، ومن ميزاتهم أيضا أنهم مجتهدون ومحبون جدا للعمل تماما مثل أبناء عمومتهم الأتراك، وهم أيضا من أثرى الأقليات العرقية في البلاد إلى جانب اليهود الأشكيناز واليهود التات والأذريين والأوكرانيين والأرمن والأوزبك، غير أنهم يعتبرون في نفس الوقت جهويين ومنغلقين على أنفسهم تماما مثل “أبناء عمومتهم” الآخرين “الأشكيناز”، وفي هذا تقول إحدى الأمثال الروسية عنهم “إذا ولد تتري بدأ اليهودي بالبكاء”.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.