حوار الأديان في الجزائر.. بين الجامع الأعظم وتمثال لافيجري

0 594

ادريس بوسكين – الجزائر 

لا يزال مسجد الجزائر الأعظم، أو “جامع الجزائر” كما يسمى رسميا في الجزائر، ينتظر التدشين النهائي بعد اكتمال أشغاله التي استمرت لأزيد من عشر سنوات، يقع هذا الصرح الحضاري الكبير في قلب مدينة الجزائر وعلى ضفة البحر المتوسط والأهم من هذا بالمكان الذي كان يسمى أيام الاستعمار الفرنسي “لافيجري”، نسبة إلى الكاردينال الفرنسي شارل لافيجري (1825- 1892)، المبشر الكاثوليكي الشهير الذي تزعم حركة تنصير الجزائريين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

لم يكن لافيجري مبشرا عاديا، كان “جاثليق” إفريقيا، استعماريا من الدرجة الأولى وصاحب قضية دينية وعرقية وأيديولوجية، عرف بنشاطه الكبير في الجزائر وتونس وبمكانته الهامة عند الباباوات في الفاتيكان فقد عينه البابا بيوس التاسع مندوبا للإرساليات التنصيرية في الصحراء كمكافأة له ليتوسع بعدها نشاطه إلى كامل إفريقيا جنوب الصحراء.

في الجزائر تركز نشاطه أساسا بمنطقة القبائل الجبلية الأمازيغية وفي بعض المناطق الداخلية وأيضا في الصحراء، وهو القائل عن الشعب الجزائري “لا يمكن لهذا الشعب أن يبقى محصورا في قرآنه، يتعين على فرنسا أن تفسح لنا المجال لنقدم له الإنجيل، وإما عليها أن تطرد هذا الشعب إلى الصحاري، بعيدا عن العالم المتمدن”.

في عام 1867 انتقل إلى الجزائر المستعمرة آنذاك مترئسا أسقفيتها التي تأسست عام 1838 وقد كان التنصير مهمته الكبرى فأسس جمعية في 1868 بالحي الذي صار يعرف باسمه فيما بعد “لافيجري” قرب مدينة الحراش حاليا بالجزائر العاصمة تعرف ب “الآباء البيض”، ومن بعدها بسنة جمعية أخرى تعرف ب “الأخوات البيض”.

كان الهدف الأساس للافيجري تنصير الجزائريين وعلى رأسهم أمازيغ القبائل وتحويلهم إلى الرومانية الكاثوليكية من خلال استهداف عرقهم المختلف عن العرب واستغلال الجهل والفقر والبؤس الذي كانوا يعيشون فيه كبقية الجزائريين، وخصوصا في أعقاب المجاعة والأوبئة التي ضربت الجزائر آنذاك.

كان من مهام لافيجري أيضا المساعدة في توطين المعمرين الفرنسيين والأوروبيين القادمين إلى الجزائر، جنتهم الإفريقية الموعودة، معتبرا أن الجزائر لم تكن شيئا في الماضي قبل “غزوها” من طرف العرب المسلمين عدا كونها أرضا رومانية مسيحية، ولا بد لها أن ترجع كذلك، وهذه المرة تحت الراية الفرنسية، وهي نفس الفكرة التي كانت دافعا كبيرا لاحتلال الجزائر من طرف الفرنسيين وقد خاطب الجنرال دي بورمون، قائد حملة الاحتلال، رجال الكنيسة الذين رافقوه في حملته قائلا “قد فتحتم معنا من جديد باب المسيحية في إفريقيا، ورجاؤنا أن تزدهر فيها عما قريب الحضارة التي كانت قد انطفأت”.

كاريكاتير فرنسي ساخر حول غسيل الدماغ الذي كان يمارسه لافيجري بحق أمازيغ القبائل
كاريكاتير فرنسي ساخر حول غسيل الدماغ الذي كان يمارسه لافيجري بحق أمازيغ القبائل

وربما لم يغب يوما عن لافيجري أن هذه المنطقة كانت أيضا مسرحا هاما لمعركة الجزائر الشهيرة لعام 1541 التي جرت بين الجزائريين والأندلسيين والأتراك من جهة بقيادة حسن آغا والإسبان والأوروبيين من جهة أخرى بقيادة شارلكان (كارلوس الخامس) ملك إسبانيا وحاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة وأعظم ملوك أوروبا في ذلك الوقت، والتي انتهت بهزيمة تاريخية مذلة للإسبان والأوروبيين.

بعد استقلال الجزائر في 1962 صارت “لافيجري” تعرف ب “المحمدية”، نسبة إلى رسول الإسلام محمد، كان ذلك في 1985، أعلنت البلاد فخرها الكبير ومن جديد بهويتها الدينية ورجوعها الملحمي إلى الإسلام بعد 132 عاما من الإحتلال، وقد كبر الحي مع الوقت وصار اليوم مدينة في حد ذاتها.

غير أن الكثير من الناس لا يزالون يدعون المكان ب “لافيجري”، العديد من هؤلاء لا يعرفون عن لافيجري شيئا، وبعضهم الآخر تناسوه تماما متجاهلين تاريخه الاستعماري، رغم أنه في فرنسا نفسها رمز كبير للكاثوليكية وللتاريخ الفرنسي الاستعماري في إفريقيا فالجزائر معه صارت عاصمة للتبشير في القارة ككل.

جامع الجزائر اليوم معلم ديني وثقافي وعلمي وحضاري كبير يخلد جزائر الشهداء، الجزائر العربية الأمازيغية الفخورة بانتمائها لأمة الإسلام وبتاريخها العثماني، الجزائر التي كافحت لافيجري والنظام الاستدماري الذي وظف لافيجري، هو صرح ديني كبير يرمز للجزائر ولمكانة الجزائر العلمية والثقافية والحضارية بين الأمم.

في بداية يوليو الماضي أقيم استعراض عسكري ضخم ب “المحمدية” عند جامع الجزائر وفي حضرة هيبته ورمزيته، بمناسبة مرور ستين عاما على استرجاع السيادة الوطنية، حضره رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون وعدد من رؤساء الدول الشقيقة والصديقة للجزائر وقد اعتبر الأضخم في البلاد منذ الاستقلال.

ثالث أكبر مسجد في العالم وصاحب أطول مئذنة

يعد “جامع الجزائر” أكبر مسجد في الجزائر وإفريقيا وثالث أكبر مسجد في العالم بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة وبه مئذنة هي الأطول في العالم ب 267 مترا يمكن مشاهدتها من أي مكان في العاصمة ومن خارجها أيضا .. في البر والبحر.

جامع الجزائر صورة من الأنترنت
جامع الجزائر صورة من الأنترنت

تم وضع حجر الأساس لهذا الجامع الواقع على خليج العاصمة في أكتوبر 2011 قبل أن تدشن أشغال إنجازه رسميا في مايو 2012، وقد وضعت تصميمه شركة هندسة معمارية ألمانية بينما أسندت مهمة إنجازه إلى شركة صينية حكومية بالتعاون مع شركاء جزائريين، هذا وبلغت تكلفته الإجمالية 898 مليون يورو، حسب تصريحات المسئولين الجزائريين.

يتميز الجامع بطابعه المعماري الإسلامي المغاربي الأندلسي وبخصوصيته الجزائرية، وقد حاز في 2021 الجائزة السنوية الكبرى لمتحف شيكاغو أثينيوم الأمريكي للهندسة المعمارية والتصميم والمركز الأوروبي للهندسة المعمارية والفن والتصميم والدراسات الحضرية، وهي إحدى أرقى الجوائز العالمية التي تمنح لأحسن التصاميم الهندسية الفنية ومشاريع التخطيط الحضري عبر العالم.

يتربع الجامع على مساحة إجمالية تقدر بأكثر من 27 هكتارا، وبالإضافة إلى المسجد وساحته الخارجية يضم أيضا فضاء استقبال وقاعة للصلاة تتجاوز مساحتها 2 هكتار تتسع ل 120 ألف مصل ودار للقرآن ب 300 مقعد بيداغوجي لما بعد التدرج بالإضافة لمركز ثقافي إسلامي.

كما يضم مكتبة بألفي مقعد تتوفر على مليون كتاب، وقاعة محاضرات ومتحف للفن والتاريخ الإسلامي ومركزا للبحث في تاريخ الجزائر، بالإضافة إلى مركز ثقافي مشيد على مساحة تقدر بـثمانية آلاف متر مربع يتسع لثلاثة آلاف شخص، والعديد من الهياكل والفضاءات الخدمية الأخرى.

وزود هذا الصرح بنظام مضاد للزلازل يتمتع بفعالية كبيرة قادر على امتصاص أكثر من 70% من قوة الهزات الأرضية، وقد أشرفت على إنجازه “الوكالة الوطنية الجزائرية لإنجاز وتسيير جامع الجزائر” تحت وصاية وزارة الشؤون الدينية والأوقاف وكذا وزارة السكن والعمران والمدينة.

تمثال ضخم للافيجري في ساحة كاتدرائية “السيدة الإفريقية”

اليوم ما عاد هناك من وجود للافيجري في “المحمدية” ولكن تمثالا ضخما له ينتصب ومنذ عام 1925 في ساحة كاتدرائية السيدة الإفريقية ببولوغين غرب العاصمة، أين توفي ذات نوفمبر من عام 1892 عن 67 عاما، وهذا على بعد أكثر من عشرة كيلومترات غربا عن “جامع الجزائر”، يراقب من بعيد العاصمة وما فيها.

تمثال الكاردينال لافيجري
تمثال الكاردينال لافيجري

تعتبر هذه الكاتدرائية الكاثوليكية، أو “مادام لافريك” كما تدعى في الجزائر، من أجمل المعالم المسيحية في العاصمة والجزائر ككل بهندستها الرومانية البيزنطية وزخارفها العربية الإسبانية وكذا موقعها الممتاز فوق ربوة ساحلية على ارتفاع 124 مترا عن سطح البحر.

تم افتتاح هذه البازيليكا في 1872 من طرف الكاردينال لافيجري بعد 14 عاما من الأشغال بعد أن بادر ببنائها مواطنه القسيس لويس أنطوان أوغسطين بافي استجابة لخادمة إفريقية راهبة تحمل اسم مارغريت بيرغر كان قد جلبها معه في رحلته إلى الجزائر عام 1836.

تعد الكاتدرائية اليوم رمزا كبيرا للتلاقح الحضاري والتعايش الديني في الجزائر وجزءا هاما أيضا من التراث الثقافي للعاصمة، هذه المدينة الحضارية التي احتضنت العديد من الثقافات والأعراق والأديان منذ مئات السنين وعرفت أوج عزها وجبروتها إبان العهد العثماني.

“السيدة الإفريقية” هي أيضا الأخت الشقيقة لكاتدرائية “السيدة الحارسة” بمارسيليا الفرنسية، وقد صنفت في 2012 ضمن الممتلكات الثقافية المحمية في الجزائر، وهي أيضا من أهم مراكز الجذب السياحي بالمدينة إذ يزورها السياح من داخل الجزائر وخارجها.

وضع هندستها الفرنسي جان أوجين فروماجو، وتتميز أساسا بالصليب الكبير المنتصب فوق قبتها، بجانب تمثال للسيدة العذراء وجرس، وبداخلها يقبع تمثال آخر بهمة امرأة افريقية سوداء البشرة في هيئة قديسة كتكريم لمارغريت بيرغر، ومن ساحتها يمكن أخذ نظرة بانورامية رائعة على البحر وعلى شرق العاصمة ككل.

وعلى عكس اتجاه الكاتدرائية الغريب والذي هو ناحية الجنوب الغربي فإن تمثال “لافيجري” منتصب ناحية الشرق، تجاه “جامع الجزائر”، يحمل الإنجيل بيده اليسرى ويده اليمنى التي كانت فيا مضى تحمل صليبا كبيرا مقطوعة وعيناه تتبصران المكان وما بعد المكان .. في “المحمدية”.. وجامعها الكبير .. ومئذنته السابحة في السماء .. في حوار ديني وحضاري صامت.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.