العيش في (ماخلاطة) مرمية على الحافة

1 256

بدر السويطي – بلغاريا

لطالما كان الغجر عرضةً للازدراء والعنصرية في المجتمعات التي يعيشون فيها، حتى أنهم تعرضوا لحملات من الإبادة الجماعية في ألمانيا إبان الحقبة النازية بعد الحرب العالمية الأولى، استمر ارتكاب الكثير من الجرائم بحقهم وتم التغاضي عنها. كثيرًا ما يكون هذا الإقصاء والتهميش بتواطؤ مع السلطات الحاكمة. لعل هذه النظرة العنصرية الدونية للغجر هي التي جعلتهم ينفصلون عن كل ما يحيط بهم حفاظاً على إرثهم وكينونتهم. ينظر الغجري بعيون نسر من حوله، ينفرد وحيدًا بجرحه، ويقاوم من أجل البقاء والعيش في مجتمعات متوحشة تتجه بعنصريتها نحو دمار حتمي. يسعى الغجري لجمع قوت يومه من النهارات الخاسرة، ليعود حاملًا الخبز لأطفاله. الكثير من أفراد المجتمع الغجري يحلمون بعيش كريم، ومساواة وحقوق مدنية، غير أن الواقع شيء آخر. لا يعول الغجر كثيرًا على الآمال؛ فهم يعيشون الحياة بعبثية ولا مبالاة، وربما يكون ذلك ناتجًا عن يأسهم وإحباطهم من الآخر؛ الآخر المتوحش الذي لا يريد أن يقبل بحقيقة وجود بشر يشاركونه العيش على سطح هذا الكوكب المحتقن بالكراهية.

اللقاء الأول

في بلغاريا، يعيش الغجر حياتهم على  أطراف وهوامش البلاد. غالبًا ما يطيب لهم الاستيطان في ضواحي المدن وعشوائياتها مفضلين عدم الاندماج في المجتمع والحفاظ على خصوصيتهم وعاداتهم. 

وللغجر عالمهم العبثي الخاص؛ إذ أن الغجري يروق له العيش في محيطه وبيئته، وهنا تكمن رغبته في التواصل مع أبناء جلدته و(صنفه) البشري المفضل. كما أن للغجر أسلوبهم في الحياة والعلاقات الاجتماعية فيما بينهم، إلا أنهم يشعرون أيضًا بالنظرة الدونية من الآخر البلغاري، الذي يعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية بل أقل من ذلك. وهنا إشكالية الدونية والعنصرية المتأصلة في المجتمعات التي تعتبر أن عرقها وقوميتها هي الأنقى والأكثر تفوقًا من بين الأعراق والقوميات الأخرى حتى تلك التي تشاركها الوطن والحياة.

أول مرة صادفت الغجر، في بلغاريا، كانت في العاصمة صوفيا في شهر مايو العام 2012.

هناك، في حي نوفي اسكار (Нови Искър) ذي الاغلبية الغجرية، حيث شاهدت جموع الغجر تتكدس، وكنت مندهشًا من تلك العشوائيات المرمية على حافة العاصمة. تراءت لي الوجوه كما لو أن سحبًا دخانية رمادية تحتشد في السماء لتثقل مخيلتي بكل ذاك الحزن البشري العالق في أطراف مدائن لا تكترث بسكانها.

الـ(ماخلاطة)

الـ(ماخلاطة) هي مقر تواجد الغجر، ومحل سكنهم ومتاجرهم، وأماكن العبادة الخاصة بهم. تكون في الغالب في أحياء عشوائية من الصفيح وأكواخ متهالكة تصطف بجنب بعضها البعض، بشكل عبثي، يقتفر للهندسة المعمارية العصرية. تتكدس البيوت والمخازن ومحلات البقالة والأدوات الصحية في وسط الحي؛ مما يحدث فوضى سكانية عارمة، وضجيجًا هائلًا يلمسه كل زائر لهذه المخلاطة، والتي اشتق اسمها من مفردة عثمانية قديمة أصلها عربي وهي المخالطة. تدل هذه اللفظة على النسيج الاجتماعي والخليط اللامتجانس من قوميات الغجر والاتراك في هذا الحي، حيث تقطنه الغالبية المسلمة من الغجر الرومن. هذا جعلهم يعانون من عنصرية شديدة ومضاعفة بسبب أنهم غجر ومسلمون في ذات الوقت؛ مما يجعل الضغط يتزايد عليهم من قبل السلطات البلغارية والمجتمع الرافض لوجودهم من الأساس.

وسط المخلاطة أذهب للتسوق لأواجه الكثير من الشباب العاطلين عن العمل؛ يقفون بالطوابير أمام اكواخهم المهترئة؛ يتفحصون المارة الغرباء بنظرات غريبة من الأسفل للأعلى، باعتبارهم أشقياء الحي وحراس المملكة الغجرية. في  مخلاطة بازاردجيك، واحدة من مستوطنات الغجر الرومن المسلمين، مسجد ذو قبة فضية عملاقة تم تشييده بغرض جذب هؤلاء الشباب وتذكيرهم بدينهم وموروثهم من خلال ندوات دينية ينظمها دعاة غجر درسوا الفقه والدين في تركيا. هذه المخلاطة الغجرية موجودة تقريبا في كل أماكن تواجد الغجر في بلغاريا، وفيها تقام أفراحهم وأحزانهم وحفلات الختان، حيث يغدو الفتى الصغير عند بلوغه أميرًا؛ يرتدي زيًّا يُوحي بذلك، وتقام له حفلات غنائية راقصة تحضر فيها راقصات الحي وضاربي الدفوف، ليكون بذلك عريسًا ينتظر عروسته الصغيرة.

في ماخلاطة سليفن

هي واحدة من معاقل الغجر في بلغاريا، فيها يجتمعون ويتقوقعون في عالمهم الخاص، كنت في ضيافتهم وقد أدهشني هذا الكرم والترحيب، لدرجة إنهم كانوا يتشاجرون في ما بينهم ليحظى واحدا منهم بتقديم واجب الضيافة، تلتقط عيني التفاصيل، وأنا أتنقل بين الأزقة والبيوت، كل شيء حولي يدعو للتفكير، هذه الحياة التي لم أكن أعرفها من قبل إلا من خلال وسائل الإعلام العوراء، وكتابات المترفين الذين لم يمسهم ألم الحياة وصدماتها المتكررة، الموسيقى الصاخبة التي تضج بالأحياء وتهز جدران المنازل الخشبية، الرقص على إيقاع الأيام المتسارعة كخطى غزالة، الوجوه التي تركت عليها الشمس آثارها السمراء. “أنت تشبهنا إلى حد كبير” تقول لي سيدة غجرية، ابتسمت وقلت لها “العرب أولاد عم الغجر!”. هذا الشعب الذي يحمل الملح والطين، “نحن أبناء الأرض يا سيدتي”، يتجمهرون حولي حاملين الجعة والطعام، تمر العربات محملة بالخردوات والحيوانات، عربات تجرها خيول منهكة، ويعتليها رجالٌ متعبون بسحنة شاحبة، يلقون التحية ويستغربون وجودي بينهم، أطيل مكثاً في أحضان الدهشة، ويكمل الغجر رحلتهم نحو الليل على صدى موسيقاهم وتحت ضوء القمر الذي غمر بنوره الساطع جمهوريتهم الصغيرة، لينبعثوا من جديد في عزلتهم الاختيارية وليواصلوا حلمهم الأبدي.

على مَشارفِ مدينة سليفن العتيقة، طربني حوافرُ الخيل وهي تتبختر بغنجٍ وزهوٍ، تعزف لحنًا شَجيّاً يلامس شغاف قلبي ويراقص الروح، أتبع الرنين المُنبعثُ من الخطى، ويتصاعد إيقاعها المتناغم كأغنيات الغجر التي ترددها الفتيات السمراوات تحت ضوء القمر في القرى البلغارية النائية، رائحة الحَطب المحترق والنبيذ الأحمر المعتّق وصهيل الخيول العائدة من ظهيرةٍ خاسرة! ذلك الضباب يعبر من خلال رئتي في ليلةٍ مكتظةٍ بالنجوم والمصابيح، من شرفات البيوت المبعثرة في (ماخلاطة). البيوت التي تشبه مخابئ المحاربين وخنادق الهاربين من بطش الحياة، ليس ثمة من يستوعب كل هذا الصخب، الموسيقى توقظ المدن النائمة، والضجيج عادةٌ ليلية يمارسها الغجر في عالمهم الخاص وعزلتهم الاختيارية، ينفرد الغجري بنفسه ليمارس عبثيته وفوضاه وجنونه! بعيدًا عن كل ما يعكر صفوه، يصنع الفرح على طريقته، ويحاول أن لا يضيّع من يده فرصة عناق الحياة، إنه يعيش هامشه بمحض إرادته وينفث سجائر (الفيكتوري) ويحتسي جعّة (الزاكوركا) المحلية بمزاجٍ عالٍ وهو يترقب كالنسر فريسته في الساعات القادمة، تجر الخيول عربات الغجر محمَلة بالقَش والسلع المستعلمة المهترئة، وتطوف في الصباحات المشمسة ويتطاير الدخان من مدائن الغجر، أعراسٌ يقيمها الخارجون عن الزمن رغم أنف الفقر وعنفوانه، تتراقصُ فيها النساء كالكواكب في المدارات أرقص مع الغجر رقصتهم الأثيرة حتى بزوغ الفجر بأجنحته اللازوردية فوق سهول رودوبي الأسطورية، عبق الأرض ورائحة العشب الطريّ والخبز الحار الملتهب في بيت النار، الحكايات التي يرويهما لي الفتى الأسمر (إيفان) والفتاة السمراء (ميغلينا)، واللظى يتطاير من عيونهم كما تتطاير شظايا النار التي آثرنا أن نشعلها لبث الدفء في إشراقة يومٍ جديد! كانت أحلام الهجرة إلى ألمانيا تراود كل سكان القرية وذلك لرغبتهم الجامحة في تغيير أوضاعهم المعيشية بالرغم من أنهم يميلون إلى الإنعزال والتأقلم في محيطهم إلا إنهم في غالبيتهم لا يترددون في قرار الهجرة إلى ألمانيا من أجل حياة أفضل!

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. سامي الطلاق يقول

    مقال ممتع وكاشف واستقصائي لحياة الغجر . مقال إنساني جدت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.