طلع صفر

0 1٬326

 يوسف الشرفا سماورد

الطفل الذي حمل اللهب وكسر الفخار مازال خائفاً من الحدبة والنحس، لكن الخوف لم يمنعه من ممارسة الفرح البريء البعيد عن دهاليز التأويل وأساليب التحليل والتفكيك.

بقي الطفل في صورته كما هو. وبقي من يحاول التأويل كما هو ممعناً في تفسيراته.

(1)

طفل يحمل كوزاً فخارياً ويلقيه على عتبة الباب وتلمع عيناه فرحاً لرؤية الأجزاء وقد تناثرت متكسرة، وربما يقفز ابتهاجاً.

هذا الطفل، هل سيزداد الفرح اشعاعاً في عينيه حين يعلم أن ما فعله له وجه شبه بما كان يقوم به بعض أقوام عاشت قبل مئات السنين احتفالاً بموسم ما، كما فعل من عاش في العراق القديم بفخارهم الملون مثلاً، أو كما فعل فراعنة مصر بفخارهم الأحمر كمثل آخر؟! هل سترتفع قفزاته علواً حين يسمع أن اليونانيين فعلوا فعلته بأوانيهم الغالية الثمن بعد أن مارسوا رقصة (زوربا) التي ربما لن يتمكن لسانه الصغير من نطلقها بشكل سليم؟!!

 لست أدري!

 لكن الذي أعلمه يقيناً أنه فرحته ستصبح أفقاً مفتوحاً حين يلقي بالكوز أو (القدو) من أعلى نقطة في البيت وهي السطح مردداً:

“طلع صفر (حندوبتي) سالمة”

وأنا على يقين أكثر أن أفق فرحته المفتوح سيتسع ليكون (لانهائيا)، حين يصيب بفخاره رأس أحد المارة خصوصاً ممن تجمعه معهم عداوة طفولية، وسينقلب خوفه من الحدبة إلى قلق من تلقي العقاب.

(2)

هذا الطفل نفسه حين يخرج إلى أصحابه، ويبدأ هرولته حاملاً جريدة من نخل بعد أن أشعلوا فيها النار راكضين خلفه، وربما يباغتهم باستدارة مخادعة مخيفاً إياهم بلهب النار لينقلب اللاحق ملحوقاً، هل ستزداد جريدته التهاباً حين يسمع بأسماء لم تطرق سمعه وربما لن تطرق سمعه في القادم من أيامه أمثال أدونيس وتموز وعشتار؟!

 هل ستعني له مصطلحات كالخصب وموسم البذر، الذي يظن البعض أن لها معانً كبيرة، شيئاً قي لحظة كان نشاطه الذهني منصباً على القفزات فوق النار المطروحة على الأرض بعد أن تعبوا من حمل الجرائد المشتعلة، وهو يغني:

“طلع صفر واميمتي سالمة     سالمة

وعدوتي أمي في  القبر نايمة    نايمة

حرقناك يا صفر           يا بو المصايب والكدر “

وماذا ستعني هذه المصطلحات لغيره من الصغار الذين لم يزل لديهم قوة وقد أخذ كل منهم بجريدة واعتلاها كما الفارس فوق فرسه وأخذ يدور حول النار خبباً منشدين:

“إندور إندور على شيبة الملعون تفو …. تفو….

إندور إندور على شيبة الملعون تفو …. تفو….

واصفيروه صفر طلع من لحضار وإعتفر

واصفيروه صفر طلع من لحضار وإعتفر

حرقناك يا صفر على اطوير واحترق

حرقناك يا صفر على اطوير واحترق”

لست أدري!!

(3)

هذا الطفل لا يعرف من تحولات المواسم وتفاصيل الطقوس شيئاً. حين يعود من الخارج وقد اتسخت ملابسه بالرمل والدخان والرماد، سيكون صعباً عليه تفسير ما تقوم به أمه من تبخير البيت بعلك اللبان والحرمل  والشب والملح الخشن لطرد الشياطين كما تقول هي، أو لطرد النحس وجلب فأل الخير كما تقول عمته، غير أنهما اتفقتا على القول بعد المرور على كل زوايا البيت، وهو بالطبع خلفهما، يرى ويسمع:

“أطلع يا صفر اطلع إن كنت في غرفة حمودي  أطلع

أطلع يا صفر اطلع إن كنت في غرفة جسومي أطلع

أطلع يا صفر اطلع إن كنت في الصالة أطلع

أطلع يا صفر اطلع إن كنت في غرفة معصومة أطلع

 أطلع يا صفر اطلع إن كنت في المطبخ أطلع

أطلع يا صفر اطلع إن كنت في الحمام أطلع”

ستجول في باله المخاوف والهواجس وسيتأكد من أن أمه كررت عبارتها في الغرفة التي ينام فيها، وفي تلك الزوايا التي يبقى فيها لوحده خوفاً من أن يستفرد به الشيطان أو يلتصق النحس به على غفلة.

 

توديع شهر صفر في الخليج

إلى ما قبل ربع قرن مضى، اعتاد سكان منطقة الخليج، خصوصاً في مملكة البحرين وشرق المملكة العربية السعودية، على احياء مناسبة توديع شهر صفر واستقبال شهر ربيع الأول (حسب التقويم الهجري القمري) بالقيام ببعض الممارسات الشعبية بشكل جماعي وفردي ضمن طقس يؤدي أدواره بشكل أساسي النساء والأطفال ويتكرر بتفاصيله سنوياً ، تتضمن هذه الأعمال، التي يتخللها الأناشيد والأهازيج، بشكل رئيس على:

1. تنظيف البيت وغسله، وتبخير جميع أجزاءه حيث يدار بالمبخر على كل زواياه.

2. تكسير الفخار على باب البيت، وخصوصاً (القدو)، وهو أداة التدخين الشائعة في المنطقة مثلها مثل الأرجلية إلا أنها مصنوعة من الفخار.

3. إشعال النيران: يتم في صورتين: أولاهما حرق (الكنابر) وهي سعف النخيل حيث يحملها الأطفال وهي مشتعلة، والأخرى إشعال نار على الأرض في ساحات مفتوحة يقوم الأطفال صبية وبنات بالقفز فوقها أو الدوران حولها.

4. المحايلة: وهي لعبة حوارية تقوم على استدراج الآخرين أثناء الكلام كي يقول (من هو؟)، وذلك بالتحدث بصيغة الغائب عن شخص مجهول.

هذه المناسبة التي ربما أصبحت في طريقها إلى الاندثار كلياً لم تحظَ بالاهتمام من قبل المعنيين بدراسة التراث الشعبي. ولم يكتب عنها سوى النزر اليسير بشكل عشوائي متناثر ولا يرقى إلى مستوى التوثيق فضلاً عن الدراسة المنهجية المتتبعة لجذورها ودلالاتها وما كانت تعنيه للمجتمع وخصوصاً النسوة والأطفال.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.