الجبانة وحكايا الموت وما بعده

0 914

محمود الدسوقي – مصر-سماورد

الحر الشديد ومنديل الورق المبلولة في يدي، هي التي هيئت لي أن أستظل تحت شجرة دوم عتيقة تفصل بين عالمين من الأموات: جبانة الرومان التي تحوى مومياوات نوع درجة ثالثة، وبين عام الجبانة العربي، في صحراء شهدت كثيراً من إراقة دماء الصحابة والتابعين والعرب الفاتحين لتلك المنطقة، في بداية الفتح العربي لمصر. شربت جرعة ماء وراء مقام الشيخ الخطاف الذي كان يظهر للرومان على شكل فارس يقوم بخطف الأعناق.  ثم استمرت رحلتي. بداية من نهاية محولات مصنع ألمونيوم مدينة نجع حمادي، بمحافظة قنا جنوب مصر. تبدأ الجبانة التي تبلغ مساحتها 38 فداناً، تدفن فيها أكثر من 150 قرية. يأتون إليها محملين بالموتى عن طريق حمل النعش في جرارات زراعية، أو عربات نوع (كبوت). تلك الجبانة التي وصفها الباحثون الفرنسيون، في نهاية خمسينات القرن الماضي، بأنها إحدى عجائب العالم الحديث. في جبانة، تأخذ أشكال القبور فيها رسوم الإبل والزخارف التي تعبر عن عمر الميت، ومكانته الاجتماعية، وجنسه: ذكر أم أنثى. في هذه الجبانة، التي توجد بقرية (هو) – بكسر الهاء وتشديد الواو مع التسكين فى النطق- التي يعنى اسمها الفرعوني طيبة الصغرى، والتي كانت عند الرومان مدينة الحب والموسيقى، بينما اسمها يلتبس الآن عند الصعايدة بالصحراء الشاسعة.

“في هذه الجبانة فدان من الجنة. وهذا الفدان خفي عن الناس جميعاً. المحظوظون فقط هم من إذا تم رمى أجسادهم فيها تحولوا؛ دون أن يدروا؛ من أرباب جحيم إلى أرباب الفردوس الأعلى”، هذا ما نطق به أمامي حفار القبور؛ عبد الباقي احمد 58 عاما؛ والذي استرسل في كلامه معي: “الجبانة بحر وأسرار ومحرم علينا أن ننام فيها؛ لأن الجبل القابع خلف الصحراء قد يأخذنا. هذا ما حكاه أجدادنا لنا، عن أشخاص أخذتهم الصحراء ولم يعودا ثانية لأهاليهم”.

’’الاسم الشائع لمكان الأموات في الجبانة الدار، وهو الرمز الإسلامي الذي يجعل للحياة الآخرة داراً مثلما الحياة الدنيا داراً’’

وهذه الجبانة لها تاريخ محفوظ في عقول وقلوب الحفارين، من أجدادهم الأقدمين. عبد الباقي يوضح ذلك: “جدي الذي علمني كيف احفر القبور بأنواعها، وأزخرفها بالأشكال الفنية، كان يدفن في اليوم الواحد؛ في زمن الكوليرا التي اكتسحت الصعيد؛ أكثر من ثمانية قبور فى اليوم الواحد، لمدة شهر مع حفارين آخرين كانوا يحفرون مثل هذا العدد. أما أنا فلم يساعدني الحظ أن أحطم هذا الرقم؛ ولكن لا اكذب عليك، مهنتنا شاقة ومقدسة وتحتاج إلى قلب رحيم. أنا لي أكثر من 35 عاماً وأنا أبكى، خاصة حين أقوم بدفن شاب صغير وبكائي ليس مشاركة لأهالي الميت المصاب بقدر ما أنني دون أن أدري أبكي”.

ولكن ما هي تقاليد المهنة في هذه الجبانة؟، يجيب عبد الباري أن “تقاليد المهنة في هذه الجبانة، مختلف عن الجبانات التي تملأ مصر جميعاً. فحفار القبور، بجانب أن عليه إتقان حفر القبور والحفاظ على أسرار العالم الخفي الذي يشاهده داخل القبور حين يسلم الجسد للقبر، عليه أيضاً أن يكون فناناً يعرف كيف يمزج الألوان على القبور، ويشكلها بالشكل الذي يريده أهل المتوفى”.

في عالم الجبانة، تكون الرسومات غالبا بعد اليوم الثالث من دفن الميت. ورسومات القبور تختلف من ذكر لأنثى؛ وهى رسومات تحدد عمر الميت ومكانته الاجتماعية. فالقبور عامة يرمز لها برسم الجمل؛ فإذا كان الميت رجلا يرسم له جمل كامل بدون نقصان. أما المرأة، فالجمل الذي يرسم على قبرها يكون ناقصا أي بدون رأس. أما في القبور من نوع (القامة / الحجازي) فهو غالبا ما يكون للمرأة التي تعدت عمر الستين، وهو العمر الذي لايكون لها الحق أن يرسم لها القبر بالزخارف. أما الأنثى الشابة، والتي تدفن على نظام القبر الحجازي فيرسم لها أنواع تدل على أنوثتها (المشط، والمقص، والمرآة)؛ وهى الأشياء التي تختص بها الأنثى. أما الشاب الذكر، فيرسم على قبره أشياء تعبر عن حياته (مسبحة الصلاة، وإبريق الوضوء وشمسية، وعصا وهي رمز الأمل الذي افتقد الوصول إليه). أما الرجل العجوز، فلا يرسم له مثل المرأة العجوز؛ وان كان في بعض الأحيان يرمزون له برمز العصا فقط وهي تعبير عن الشيخوخة.

الرسومات في جبانة هو
الرسومات في جبانة هو

تنقسم القبور في جبانة (هوّ) إلى أنواع مختلفة. فهي مقسمة إلى قبور (فساقي)، وإلى قبور (النشور) والتي تسمى عند الصعايدة باسمين قبور(القامة) أو قبور (الحجازي) نسبة إلى أن عائلة تلك القبور أتت من القبائل الحجازية التي استوطنت الصعيد. في حين أن عالم الجبانة الاجتماعي يكون قبلياً أي لكل عائلة (دوراً) يدفنون فيه موتاهم. وتحوى الجبانة على أكثر من بئر تم حفرها في عهود الفتح العربي لمصر، وهي الآبار التي يجلب منها السابلون المياه لإقامة القبور، يبلغ عددها أربعة آبار. تقبع هذه الآبار خلف مقامات شيوخ استشهدوا في سبيل إعلاء راية الدين الاسلامى في ربوع هذه البلاد. ونلمح من أسماء الشيوخ ورموزهم الحربية مثل: الشيخ الخطاف، والشيخ الحارس اللذين استشهدا بفروسية شديدة.

الاسم الشائع لمكان الأموات في الجبانة الدار، وهو الرمز الإسلامي الذي يجعل للحياة الآخرة داراً مثلما الحياة الدنيا داراً. وفى نظام الدار، تتواجد  أنوع القبور (الفساقى) بكثرة، حيث يحمل الدار ستة أفراد فقط؛ أما القبور نوع (الحجازي)، فهي تحمل فردا واحدا فقط، بينما الدور الواحد لكل عائلة تحوى مابين أربعة أو ستة قبور ولها عالم مستقل.

أما السابلون الذين يساعدون حفاري القبور فتكون مهمتهم كما يصفها السابل (نايل محمد 43 عاماً): “بجانب جلب المياه من الآبار القديمة مساعدة الحفار؛ فالقبور بعد الانتهاء منها لا بد من خلطها جيداً بالرمل والطين وذلك منعا للقارضة (الدودة) التي تستطيع أن تهد القبر في فترة قصيرة. أما عالمنا داخل القبور فهو عالم خارج حدود العقل والمنطق وممنوعون من الحديث عنه؛ ولكن هناك أشياء دائما نأخذ حذرنا منها؛ خاصة في القبر نوع (الحجازي) فهو يحتوى رائحة الميت، ولا يتخلص منها بسهولة. لذلك نحن لا نرضخ لأهالي الميت، حيث نقوم بفتحه في فترة قصيرة لدفن احد آخر معه؛ نظراً لأن رائحة الأموات قادرة على قتل الأحياء. كذلك لابد من تنظيف القبور القديمة باحتراس، فعظام الموتى إذا انغرست في أيادينا تكون كفيلة بعمل إصابة خطيرة. هذا مع إيماننا بالإسرار، ففي هذه الجبانة كثير من الأولياء المقتربين من الفردوس الأعلى، وقليل من المقتربين من الجحيم، والحفارون والسابلون يعرفونهم فرداً فردا”.

قريباً من الجبانة، تستطيع الصلاة في مسجد الأمير ضرار الذي أسره الرومان، وتقرأ أشعاره الذي وجهها لأخته وهو في الأسر. بعد أن تفرغ من السجود والركوع، ربما تستطعم طعم ماء يذكرك بصليل السيوف والرماح التي كانت تتكسر أمام المعتقد؛ ولكن ربما يهل سؤال: “ترى هل سيضم جسدي، وأنا الغريب عن هذه البلدة والقرية، فدان الجنة فأصل إلى الفردوس الأعلى حتى لوكانت ذنوبي كثيرة”. مجموعة الأسئلة التي  تهل على خاطري يقتلها جمال الزخارف المنقوشة على القبور. الأسئلة، بجانب جماليات الزخرفة على القبور، هي التي جعلتني أتجه لأساتذة الفنون الجميلة ، الدكتور احمد السوداني أستاذ بكلية الفنون الجميلة جامعة جنوب الوادي قال لنا: “أغلب رسومات جبانة (هو) ترمز لرمز الجمل وذلك لمكانة ذلك الحيوان في الإسلام فهو الحيوان الذي نطق أمام الرسول المعظم بالشهادتين، كذلك يعتقد الصعايدة أن الجمل حيوان مسلم موحد يصلي على الرسول ويمدحه. كما أن رمز الجمل اقترن بالرجل الصبور، والمرأة غالباً تقول لزوجها يا بعلي، والجمل أيضاً يشارك في مراسم الزواج حاملا على ظهره العروس، والفنان الشعبي حين رسم المرأة بجمل غير كامل كان يرمز لنقصان المرأة أمام الرجل الذي يرسمه كاملاً. والفنان الشعبي في جبانة (هو) اختار الجمل نظراً لأن جبانة (هو) والتي شهدت كثيراً من الحروب كان الجمل والحصان من أهم الحيوانات التي حارب بها الرجل العربي، إضافة إلى هذا، فالجمل هنا يعتبر رمزاً لحياة إنسانية؛ فعلى يد الفنان الشعبي في الجبانة كان الجمل اقرب للإنسان، أقصد أن الجمل يشترك مع الإنسان في شدة الحياء، وعشقه للإخفاء في حياته الجنسية لذلك كان هو رمزاً للرجل”.

أما الفنان علاء أبو الحمد (دبلوما في الدراسات الفنية)، يرى أن الرموز الفنية في مقابر (هو) هي رموز تحمل موروثاً تاريخياً، فكل الرموز الموجودة على قبور الأنثى الشابة والذكر الشاب، هي إعادة لرموز وحياة الجبانات الفرعونية القديمة، حيث كان الفرعوني يأخذ ما يحتاجه معه لقبره. والفنان في الجبانة أخذ دون أن يدرى الموروث الفرعوني القديم نظراً لأن هذا المكان كان مقارباً للمدافن الفرعونية والتي استولى عليها الرومان.

أما عن إيمان العقلية الشعبية بان جبانة (هو) بها فدان من الجنة فهو إيمان يراه الفنان علاء أبو الحمد إيمانا باطلا، ويستدل على ذلك بأن “المرويات التاريخية للجبانات المصرية لم تعط لجبانة ميراث من الجنة إلا جبانة القرافة في مصر؛ حيث يذكر التاريخ أن المقوقس عظيم القبط أراد شراء الجبانة من  الصحابي عمرو بن العاص، فأرسل إلى عمر بن الخطاب الذي طلب أن يسأل المقوقس عن حاجته بمكان لا زرع فيه ولا ماء، وقد أجاب المقوقس أن القرافة بها غرس جنة كما تقول الكتب القديمة، فرد عمر بن الخطاب طالباً من عمرو بن العاص أن لا يبيعها، وأن يدفن فيها المؤمنين، أما أن يوجد بجبانة (هو) فدان من الجنة فلا يوجد دليل تاريخي يقطع بذلك؛ لكن لا أحد ينكر أنها تمثل إرثا تاريخيا يمزج مابين الدهشة والجمال الباقي”.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.