الجنازة الثانية لابن رشد

0 391

محمد سعيد احجيوج  – المغرب

استيقظ ابن رشد على لمسة حانية على كتفه، فغمر الضوء عينيه كثيفا شديد البياض إلى أن رمش بضع مرات ليخفف تأثير اشعاعه. نظر إلى اليد الحانية على كتفه، فتتبع ذراعها حتى وصل إلى الوجه المبتسم لمحيي الدين بن عربي.

جاهد ابن رشد نفسه ليعتدل جالسا، وتتبع إشارة ابن عربي الذي تحركت سبابته إلى أذنه، ثم أشار بها إلى نافذة الغرفة، فالتفت أبو الوليد تجاه النافذة وأصاخ السمع. لم يسمع شيئا فأغمض عينيه وشحذ سمعه، فبدأت عظام أذنيه تهتز بأصوات كأنها آلاف الأقدام تدك الأرض سعيا حثيثا ومعها زئير آلاف الحناجر.

اقشعر بدن ابن رشد وقام متكئا على الشيخ الأكبر حتى وصلا إلى النافذة فارتكز عليها بذراعيه وأرسل نظره بعيدا نحو الأفق حيث تنتهي حدود قرية إلِّيهُسَّانا وتبدأ أسوار قرطبة. اقشعر بدنه مجددا وشعر أبو الوليد برجفة باردة سرت من منبت عنقه نزولا حتى أسفل ظهره، ولم يملك أن يمنع عينيه من التلألؤ دمعا أمام جحافل الفرنجة الذين يدكون أسوار قرطبة.

قرطبة كما يتذكرها دائما؛ الفيحاء بحدائقها، العذبة بمياه نافوراتها، المريحة بمعازف طيورها، والمستنيرة بمخطوطات مكتباتها. تلك قرطبة التي يتذكرها، أما الآن فأمام ناظريه سقطت عنها أسوار الحياء، وداستها أقدام النجاسة، وعلت فيها نيران الحرائق.

لا، لم يفعل الفرنجة ذلك. يجفف أبو الوليد عينيه ويمسد لحيته المبتلة. بل فعلها أهلها قبل ذلك، ولولا ذلك ما كان الفرنجة ليجدوا إليها سبيلا.

ربت ابن عربي على ظهر ابن رشد موافقا، كأنه يدرك تماما ما يدور في رأسه.

رغم يقينه أنه في برزخ الأحلام الآن، سكنت الحسرة نفس ابن رشد، وعادت عيناه تلمعان دمعا، على مصير قرطبة التي كانت طيلة سنوات أحب بقاع الأرض إلى قلبه. كانت كذلك قبل أن يُخرَج منها ذلك اليوم مقهورا دامع العينين مسود الوجه والكفين برماد أوراق أودع فيها، طيلة سنوات، نتاج عقله.

أخرجته يومذاك، من قيلولة العصر، دقات عنيفة كادت تقتلع باب الدار، فنهض أبو الوليد متغلبا على تعب الشيخوخة واعتمد على عصاه خارجا من غرفته، وقبل أن يصل إلى منتصف السلم نزولا إلى الطابق الأرضي كان ابنه عبد الله قد فتح الباب الذي اندفع عبره رجال من الشرطة داسوا حرمة البيت وتقدم قائدهم، مع اثنين منهم يصعدون السلم، صائحًا: “أبا الوليد محمد بن أحمد بن رشد. لدينا أمر من خليفتنا المنصور بأخذك من فورك وحالك إلى المسجد الكبير، حيث ستنعقد، بعد صلاة العصر، جلسة محاكمتك بتهمة الزندقة والالحاد.”

عض ابن رشد شفته حتى شعر بالصدأ يتجاوز لسانه إلى حلقه، واخترق سمعه صوت النسوة من الحجرات يندبن فالتفت وهدر طالبا منهن الصمت ثم عاد بوجهه، نحو قائد الشرطة، محاولا كل الجهد لمنع ملامحه من الانقباض وجاهد حتى لا ترمش عيناه.

“هلَّ أمهلتني لألبس ما يليق بمقام الخليفة والقضاة؟”

“الأمر من الخليفة أن نحضرك من فورك وحالك.”

أصر القائد وأشار إلى الشرطيين فأخذ كل منهما بذراع وجرا أبا الوليد، حاسر الرأس بلباس النوم، متعثرا متهالكا، وتبعهم ابنه عبد الله في أزقة قرطبة التي امتلأت بعامة الناس الذين لم يحاولوا اخفاء التشفي ولا كتم السباب القاذف، حتى وصلوا إلى صحن المسجد الكبير، فمنع الحراس القوم من الدخول وسمحوا لابن رشد أن يُدخل معه ابنه وما كادوا يفعلون.

أُدخل ابن رشد المسجد ورأى، أول ما رأى، الخليفة أبا يوسف يعقوب المنصور يعتدل في جلسته، ولم تخفَ على عينيه الحادتين، رغم تعب العمر، تلك الرجفة السريعة التي انقبض لها الجفن الأيسر للخليفة.

رفع أبو الوليد رأسه وتجاهل عمدا النظر إلى صف الفقهاء يسار الخليفة، وصف القضاة على يمينه، وسلط نظراته مباشرة إلى عيني أبي يوسف وبقي يحدق فيهما حتى اضطر الخليفة لإبعاد عينيه.

“أُبلغنا أن الخليفة جاء من مراكش الأثيرة إلى قرطبة العزيزة خصيصا لأجل محاكمتنا،” توقف ابن رشد وسلط نظراته في اتجاه صف فقهاء الأندلس، ثم عاد لمواجهة الخليفة، “بتهمة شنف بها الفقهاء أسماع الخليفة وقالوا عنا زورا كلاما ألصقوا به الزندقة والالحاد بنا.”

انتفض أقرب الفقهاء إلى الخليفة مجلسا وأكبرهم سنا وأطولهم لحية، وصرخ: “ويحك أيها المتهافت الزنديق. تأدب في مجلس الخليفة.”

تبسم ابن رشد وأشار الخليفة إلى الفقيه أن يجلس، ثم التفت نحو ابن رشد وبدا كأنه سيقول كلاما ما ثم أحجم، وأشار إلى القاضي على يمينه، فأخذ هذا من حجره مخطوطا فتحه وقام واقفا، موجها التحية والدعاء بطول العمر للخليفة، ثم توجه إلى الحضور الجلوس في المسجد، هاربا من عيني ابن رشد، وبدأ يقرأ ما خُط له في المخطوط الذي أُمر أن يقرأه.

“قد كان في سالف الدهر قوم، خاضوا في بحور الأوهام، فخلَّدوا في العالم صحفا، ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها، ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا، فكانوا أضر على أمة الإسلام من النصارى الضالين واليهود المغضوب عليهم، فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة من الأوغاد حذركم من السموم الزعاف السارية في الأبدان—”

أدرك ابن رشد أن الخليفة هذه المرة سلم نفسه تماما لفقهاء السوء ونزل إلى أمرهم، وأحس أن نهايته قد حانت، فغامت عيناه وسك سمعه عن سيل الأكاذيب التي يتلوها القاضي، حتى وصل في الختام إلى النطق بالحكم المسطر له، فاتسعت عيني ابن رشد وانفرجت شفتاه من الانذهال، فطفق يدير رأسه إلى القوم الجلوس يميز منهم وجوها لأصدقاء فضلاء عقلاء وتلاميذ له نجباء، فلم يجد من أحد منهم تصريحا ولا همسا يستهجنون الحكم الذي تواصل صداه يتردد في أذنيه.

“بهذا قد حكمنا، أن تحرق كتب أبي الوليد محمد بن أحمد، الشهير بـ ابن رشد، كل ما كتبه في المنطق والفلسفة وما جاور ذلك. وينقل حكمنا هذا ويتلى في كل أرجاء البلاد، ومن عُثر لديه على كتاب من كتب هذا الفاسق الزنديق الملحد الكافر، إلا ما كتبه في الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة، فجزاؤه النار، والله يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحب الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، ويرزق مولانا يعقوب النصر على الأعداء وطول العمر وخير البلاد.”

تجلّد ابن رشد إلا أن ركبيته خانتاه فسقط عليهما، وشرع في الاستغفار والحوقلة مغمض العينين حتى شعر بذراعي عبد الله تنهضانه، فرفع رأسه ليرى المسجد قد فرغ، وحين خرجا إلى صحن المسجد شاهدا  جمعًا من عامة الناس يكومون الكتب التي أمضى ابن رشد عمره يسود صفحاتها، ورأى القاضي الذي تلى الحكم الموكول إليه يشير إلى أحد رجال الشرطة فيسكب زيتا على الكتب ويرمي إليها شعلة فتعلو النار الجائعة، ويقشعر بدن أبي الوليد ويحاول الجري إلى كومة النار لإنقاذ ما يمكن انقاذه لكن عبد الله أمسكه به بقوة وحضنه مواسيا، قبل أن يتأبط ذراعه ويسحبه برفق.

تبع ابن رشد ولده والشعلة البرتقالية منطبعة على مقلتيه الدامعتين. ابتعدا قليلا، ثم توقف واستدار فرأى أحد الفقهاء يمسك كتابا له يلقم به النار ورقة بعد ورقة والزبد يتطاير من شدقيه.

تواصل هياج الفقهاء والعامة من الناس المحتفلين بالنار الجائعة للكتب، في حين أطبق ابن رشد جفنيه وتبع ابنه. إنه خطأه إذ لم يستعد لهذا اليوم. فمنذ عامين تصاعدت المضايقات عليه بعد أن كانت خفية لأعوام قبلهما، وكان عليه أن يدرك أن تلك البداية لا مفر لها إلا أن تقود إلى هذه النهاية.

تلك البداية كانت في حلقة الدرس، في الجامع الكبير لقرطبة.

عندما تجمع الطلبة حول ابن رشد بعد صلاة العصر في موعدهم اليومي لدرس الفلسفة والمنطق. رأى ابن رشد أن حضور اليوم أكثف من المعتاد، وفهم أن الحديث خلال جلسة أمس ذلك اليوم قد انتشرت فاجتذبت الآخرين، حيث توقف وقفة سريعة للرد على تهافت الغزالي، وبخاصة العبارة المنقولة عنه “من تمنطق فقد تزندق”. قبل أن يعود للحديث عن “الحقيقة المزدوجة” متحدثا عن كون الحقيقة واحدة كون أن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. إلا أن الطريق إلى الحقيقة تختلف حسب طباع الناس، وعقولهم، وطرق التصديق. فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية. الحقيقة مزدوجة الأوجه، فهناك الحقيقة المنطقية وهي عمل العقل المحض، وهناك الحقيقة الدينية التي… علت الهمهمات آنذاك في الحلقة، وبدا أن شغبا يحركه مدسوسون سينطلق، ففضل أن يوقف حصة اليوم، والوقت كان قد تأخر على أي حال، ووعد بإكمال الحديث في اليوم التالي.

بعد أن حمد الله وشكر أنعمه، أكد ابن رشد أنه سيكمل حديث الأمس شارحا موضوع الحقيقة المزدوجة غير أن وافدا جديدا لحلقة الدرس رفع يده مقاطعا وقال دون أن ينتظر إذن المعلم، “سمعنا أنك تلغي قول الله تعالى (الرجال قوامون على النساء) وتساوي بيننا والنساء. ما سمعنا بهذا القول من قبل فهل تريد أن تولي علينا نساءنا؟”

ظهر الامتعاض على وجه ابن رشد، وشعر أن حلقة اليوم لن تمر على خير أبدا. “لا أملك أن أكذب قولا جاء في التنزيل الحكيم ولا أن أحرم حلالا أو أحلل حراما،” قال المعلم. “لا تدعنا حالنا الاجتماعية نبصر كل ما يوجد من إمكانيات في المرأة، ويظهر أنهن لم يُخلقن لغير الولادة وإرضاع الأولاد، وقد قضت هذه الحال من العبودية فيهن على قدرة القيام بجلائل الأعمال فصارت حياتهن كما حياة النبات.” تنهد ابن رشد وأكد متابعا، “إنما قلت إن النساء تختلف عن الرجال درجة لا طبيعة، وهن أهل لكل ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة، ولكن على درجة غير درجتهم. بل هن يفقن الرجال أحيانا. يدل مثال ما في بعض بلاد أفريقيا من استعداد النساء الكبير للحرب، كما لا يُعد من الخوارق إمكان انتهائهن إلى الحكومة الجمهورية. وأما بقاء النساء في كفالة الأزواج فهو بؤس سيأتي على مدننا، فعدد النساء ضعف عدد الرجال وهن لا يستطعن كسب الحاجي بعملهن.”

لم يتمالك السائل نفسه فقفز صارخا، يتخطى رقاب الجالسين، ليمسك بتلابيب ابن رشد ويجره خارجا به من حلقة الدرس، وهو يكرر كالمجنون: “أصمت أيها الكافر الزنديق. لعنة الله عليك وعلى أمثالك. هل تريد أن تولي علينا امرأة؟”

ارتفعت همهمة بعض الطلبة في حين ارتفعت ضحكات الكثيرين، لكن لم ير ابن رشد أحدا من طلبته المخلصين على مداومة الحضور يحرك ساكنا، واستمر ذلك الطالب في جره حتى باب المسجد ثم رفعه ودفعه، فتعثر ابن رشد وسقط على الدرجات المطلة على صحن المسجد.

الشعور بالقهر غطى على آلام سقطة الجسد المنهك بتعب الشيخوخة. سيحصل ابن رشد بعد أيام على اعتذار مقتضب من والي قرطبة وسيحكم على ذلك المعتدي بالسجن أسبوعا. لكن ذلك القهر سيبقى في قلب ابن رشد إلى الأبد، وسيتذكره دائما كلما تذكر حزنه الأول يوم توفي الخليفة.

كان ابن رشد في مراكش، الطبيب الأشهر في بلاط الخليفة أبي يعقوب يوسف، وكان حزنه شديدا على وفاته، وكان قهره أكبر حين رأى ولي العهد، أبا يوسف يعقوب المنصور الذي صار خليفة على بلاد المغرب والأندلس، يبدأ عهد حكمه بنقيض ما بدأ به أبوه، فنادى على أمين المكتبة وأمره أن يخرج كل كتب الفلسفة ويرميها إلى النار.

وقف الخليفة يومذاك منتشٍ أمام لهب النار التي تأكل مخطوطات سعى أبوه لجمعها من كل الأقطار، ومخطوطات طلب بنفسه بكتابتها أو ترجمتها أو شرحها. لم يملك ابن رشد إلا أن ينسحب من خدمة البلاط ويعود إلى قرطبة يواصل تدريسه وكتابته، قبل أن يتحول كره الخليفة الجديد لكتب الفلسفة إلى كره كل المشتغلين بالفلسفة فيمنع تدريسها في عموم البلاد ويحرق كل كتبها.

استدار الخليفة إلى وزيره، بعد أن أكلت النار ورق الكتب ثم روحها، منتشيا بكلمات المديح التي تتدفق من فم الوزير عن إيمان الخليفة وورعه ونبذه لكتب الكفر. وحين اطمأن الوزير للخليفة اقترب منه وهمس له: “لم يبق الآن إلا أن يأمر مولاي المنصور بالله بمنع رأس الكفر أبي الوليد محمد من تدريس الفلسفة وإيقافه عن إفساد عقول شباب الأندلس.”

“ابن رشد؟”

“نعم مولاي أعزكم الله.”

“دعك من ابن رشد.” حرك الخليفة يده رافضا. “إنه عقل رزين ونطاسي متمكن وصديق عزيز لأبينا المرحوم بفضل الله.” ثم أشار لوزيره بأن يغادر.

مرت الأشهر سريعا على الخليفة الفتي، ثم جاءه يوما وزيره يستأذن لإدخال وفد فقهاء الأندلس.

“ما الذي أتى بهم؟”

تظاهر الوزير بالتردد، فصرخ فيه الخليفة.

“أفصح.”

“مولاي. يقولون بأنهم جاؤوكم يلتمسون تفضلكم بإنقاذ الأندلس من زندقة ابن رشد وكفره.”

قام الخليفة غاضبا، شد قبضتيه وزفر بصوت مسموع، ثم عاد للجلوس متأففا.

“دعكم من ابن رشد. اصرف الفقهاء، فلا رغبة لدي لسماعهم.”

“كما يأمر مولاي. لكن، لو يسمح لي مولانا المنصور أن أعرض عليه، قبل صرفهم، كلاما خطه ابن رشد عن أسلوبكم في الحكم.”

حرك الخليفة يده ممتعضا.

“ماذا لديك؟”

أخرج الوزير من كمه صفحات فتحها وسلمها للخليفة، الذي بدأ يقرأ منها بسرعة وبصوت يعلو حينا ويخفت حينا آخرا، ثم كور الورقات ورماها بامتداد ذراعه، وعاد للجلوس على عرشه، واضعا رأسه على يده المضمومة المتكئة على مسند العرش، ولم تخفَ عليه الابتسامة التي ارتسمت واختفت سريعا على محيا الوزير، لكنه قرر تجاهلها وبقي وقتا طويلا يدير الأفكار في رأسه، قبل أن يشير في النهاية للوزير أن يدخل وفد الفقهاء.

أدرك الخليفة أن ابن رشد بعد أن تجاوز الاشتغال بالفلسفة والمنطق إلى السياسة سيسبب له صداعا مزمنا لو وصلت كتبه للعامة من القوم، وتبعه الشباب في أقواله. لكنه يعرف أيضا أن ما كتبه ابن رشد كلام عام يصعب الامساك به وإدانة أبي الوليد به دون لفت نظر العامة وإثارة سخطهم على الخليفة؛ فهم وإن كانوا يكرهون الفلسفة والمشتغلين بها إلا أنهم يجنحون للاحتفاء بكل من يأتي بقول في السياسة ينقد السلطان.

“السلام على مولانا يعقوب المنصور.”

أخرجته تحية الفقهاء وانحناؤهم الطويل من سيل أفكاره المتدفقة، فرد تحيتهم بخفوت، وهزأ رأسه نحو أكبرهم سنًا.

“ما خطبكم أيها الموفدون؟”

تقدم أعمرهم وانحنى مجددا للخليفة، حتى كادت جبهته تلمس السجاد الفاخر، وانتظر حتى أمره الخليفة بالاعتدال.

“مولاي أعزكم الله. إن فقهاء الأندلس وعلماءها لفخورون بمولانا السلطان، الخليفة المنصور على أعداء الله، وبغيرته على دين الله. إننا قد تلقينا بانشراح فضل مولانا بقطع عطايا والده، المشمول بعفو الله، للفلاسفة والمشتغلين بالمنطق، وهذا بفضل الله أسهم في دحر أولئك الزنادقة الذين يتخفون تحت البديع من العبارة والمستشكل من الكلام ليضلوا عباد الله عن آيات الله.”

اتكأ الخليفة على جنبه الأيسر ومال برأسه إلى الوراء، فالتقط الوزير الإشارة وأشار للفقيه أن يختصر.

“مولاي أكرمكم الله. إن مراكش ونواحيها الأقرب إليكم قد تخلصت من كثرة المشائين المتهافتين بالتطاول على الخالق والخلق؛ إلا أننا في الأندلس الزاهرة بورع حكمكم وعدل سلطانكم ما زال يلهج فيها بعض الملحدين بكلام يفسد عقول أبنائنا، ويشغل العامة من ناسنا عن صحيح ديننا ومعتقدنا، وعلى رأس ذينكم الزنادقة ابن رشد الذي ما طفح يخلط النابل بالحابل ويزعزع إيمان كل رجل.”

اعتدل الخليفة في جلسته، وسعى لإثارة الفقهاء لعصر ما لديهم.

“عهدنا بابن رشد؛ وهو قاضي قضاة والدنا المنعم في جنان الله، أنه فقيه حكيم ونطاسي متمكن وفلكي موهوب؛ لم تشغله الفلسفة عن خدمة أسرتنا، ولم تطغ به نحو حدود الزندقة.”

اندفع فقيه من الخلف، وارتفع صوته فجأة.

“إنه يصفكم يا مولانا بملك البربر.”

أسدل الصمت كثيف ستائره، واستدار كبير الفقهاء محمر العينين نحو الفقيه الذي سبق لسانه عقله، ثم عاد وانحنى للخليفة.

“نرجو العفو مولانا على حماس زميلنا الذي ما نطق بما نطق، وما هو إلا الحق، إلا غيرة منه على عظيم خصال خليفة الله في بلادنا الزاهرة.”

أشار الخليف للفقيه أن يتقدم، فتقدم وانحنى حتى كاد يركع.

“ما دليلك على قولك؟”

“مولاي. لقد خط ذلك الزنديق بخط يده في كتابه الموسوم بالحيوان وصفا للزرافة التي في قصركم، العامر بأنعم الله، وقال بأنه رأى الزرافة عند ملك البربر.”

عاد الخليفة بظهره إلى الوراء، وأسند خده على كفه مفكرا. هو يتذكر أنه قرأ ما كتبه ابن رشد في كتابه الحيوان، وقد كان هذا في زمن خلافة والده، وما قاله ابن رشد لا يشذ عن طريقة الاخبار عن الملوك الرائجة آنذاك. يدرك الخليفة أنه ما كان ليهتم يوما بمعاتبة أبي الوليد عن مثل هذا القول، لكنه كبى وتمادى بما قال في حديثه عن السياسة ولا مفر من الأخذ بكل ما ينفع للجم لسانه وكبح يده.

طال سهو الخليفة في تدفق أفكاره، فتقدم كبير الفقهاء خطوة أخرى.

“مولاي عفاكم الله. لا شك لنا في كرم عفو خليفتنا، ولو أن ابن رشد اكتفى بالتطاول عليكم فلا شك أن عفوكم عنه سيكون أسرع من غضبكم عليه. لكنه، أي مولانا الحامل لأمانة الله، قد تطاول على ذات الله وأشرك، وما أشرك وتزندق إلا لاشتغاله بالمنطق والفلسفة، وقد خط بخط يده، ولدينا ذلك المخطوط يا مولاي، فقال بأن الزُهرة إلاه من الآلهة. فهل بعد هذا الشرك من عفو؟”

تبسم الخليفة خفية، وشبك أصابع يديه تحت ذقنه. لقد وجد الآن ما يكفل له إسكات ابن رشد وردعه عن أن يتمادى في الحديث عن المدينة الفاضلة وانتقاد حكمه.

“موعدنا في قرطبة بعد ستة أشهر، عسى الله أن يلهمنا عدل الأحكام على الجانح عن عقيدة التوحيد.”

أشار الخليفة للفقهاء أن يغادروا، فانحنوا مجددا، وتقهقروا مغادرين بملامح يطفح منها السرور.

رأى الخليفة الحزن الفادح المرتسم على وجه ابن رشد بعد سماع حكم حرق كتبه ونفيه خارج قرطبة. لم يكن سعيدا جدا لما قرره، لكنه بعد أن فكر وتدبر، ثم فكر وقدر، لم يجد أمامه حلا غير أن يسلم أذنيه لكلام الفقهاء، وما كان له ليدرك آنذاك حجم الخطأ الذي ارتكب.

نقل له جواسيسه تلك الليلة مدى الاحباط الذي طغى على ابن رشد وعائلته والجند يدفعونهم نحو منفاهم إلى قرية اليهود خارج قرطبة. كما نقلوا له عربدة الفقهاء المحتفلين تلك الليلة، بالتخلص من ابن رشد، بين كؤوس عصير العنب المعتق ورقص الحسان من الجواري.

مرت الأيام ونسي الخليفة، أو لعله تناسى وتجاهل، وقد احتاج ست سنوات قبل أن يعي حجم الخطأ الذي ارتكب.

اليوم هرب الفقهاء ومعهم ما كدسوه من الذهب، ولم يبق في قرطبة التي كانت عامرة بالحياة إلا رجال مسكونون باليأس بعد أن سلموا أنفسهم من قبل للمرح واللهو. وها هو أبو يوسف يعقوب المنصور يرى نفسه، مقطوعا عن العودة إلى مراكش محاصرا في حديقة قصره، اليابسة أغصانها والمصفرة أوراقها، وحيدا يترقب مجانق الفرنجة تدك أسوار المدينة.

خطى الخليفة نحو النافورة التي بدأت مياهها تفوح بالعطن، ورأى في مائها العكر انعكاسا ضبابيا لوجهه، ثم بدأت المياه تصفو ورأى عبرها ابن رشد يفتح عينيه من نومه ليجد بجانبه ابن عربي يربت على كتفه.

فتح ابن رشد عينيه، فوجد بجانبه سلطان العارفين يبتسم له، ويغمغم بصوت بالكاد سمعه: “الحُكم نتيجة الحكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حكم له، ومن لا معرفة له لا علم له.” ثم عاد أبو الوليد يغمض عينيه، فأطبق عليه الظلام وأحس بنفسه محمولا على النعش عائدا من مراكش إلى قرطبة يرافقه ابن عربي في جنازته الثانية.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.