الأدب والفنون علاقة ابداع

0 7٬994

سعاد خليل – ليبيا

عندما نقول الأدب، في إطاره الإبداعي، نعتبره أحد الفنون الجميلة الخمسة: كالرسم، والنحت، والرقص، والموسيقي، وهو مثلها جميعا صناعة فنية يعبر بها التعبير المؤثر الجميل، عن نوايا النفس البشرية في كل ما تضطرب به، من اشتات وخواطر الفكر والوجدان، ولا يختلف عنها في شيء، من حيث الغاية التأثيرية التي يسعي اليها كل فن جميل. بمعني أن الأدب يعتبر فن جميل يتميز بمادة التعبير التي هي الفاظ اللغة، فيما هي الاشكال للنحت والزخارف، والحركة للرقص، والأنغام للموسيقي، والألوان والخطوط للرسم، ولا داعي هنا إلى ذكر الخصائص، التي تضع فن الأدب في رأس الفنون الجميلة.

ما نقصده بفن الأدب هو أنه تعبير جمالي بالكلمات عن معاناة صاحبه التي تجسد أحاسيسه بلغة تتصف بصفات فنية إيحائية، في مفرداتها وتراكيبها ومضامينها المعنوية وأشكالها البنائية الإبداعية.

عن هذا الموضوع، نأخذ قراءة مبسطة في كتاب الفن والأدب للدكتور ميشال عاصي يقول: إذا كان الفن يستلزم لبنائه الجمالي، حقائق ذاتية رؤيوية لا حقائق موضوعية، فقد وجب أن نستثني من دائرة الفنون الجميلة، كل ما هو منطبق على حقائق الوجود الموضوعي مماثل لها، فلا يبقى للفن هكذا من محتوى، سوى الحقائق الذاتية، أما الحقائق الموضوعية فهي محتوى العمل الفكري والعلمي لا العمل الفني. وعلى هذا التمييز بين ما هو محتوى ذاتي نفسي، وبين ما هو محتوى موضوعي عقلي، يقوم الفارق بين الفن والعلم. ولما كان الإنسان المبدع أحد إثنين. الأول ينبج ابداعه من احتكاكه بالعالم الخارجي ومعاناته لتجربة الوجود الأول عقل غالب يتأثر بالمظاهر الكونية، فيتحرى حقائقها في الأسباب والنتائج وفي علاقاتها بعضا ببعض، ثم ينبري معبرا عما اتضح له منها منعكسا في امكاناته وقواه المفكرة العالقة، فيحيل هكذا حقائق الوجود الموضوعي المستترة إلى صياغة فكرية تعبيرية، ذات محتوى حقائقي موضوعي، انكشف له بعد أن عقله، فإن موقفه هذا هو موقف المفكر العالم ويحتوي عمله هو محتوي العمل العلمي. أما الآخر فإنه إنسان كالأول، يتأثر بظاهر الوجود حوله، لكنه ذات تصهر الوجود في عالمها، فتحيل حقائق الأشياء الموضوعية حقائق ذاتية، وهو إذ يعيدها إلى الخارج في صياغة تعبيرية جلية، لا يعيدها على حقيقتها الأصلية كما في الواقع الموضوعي، وإنما يعيدها بعد دخولها إلى هيكله النفسي، كما تريدها ذاته أن تكون، كأنما هو يخلقها من جديد، عالما موضوعيا بحقائق ذاتية فرضها فرضا عليه.

هذا هو موقف الفنان من الأشياء وفي تعبيره عنها. عمله هو محتوى العمل الفني الاصيل.

إن المسألة في فن الأدب الذي نحن بصدده هنا تقتضي أن نعتمده لتوضيح التشابك الحاصل بين العمل الأدبي الفني، والعمل الأدبي الفكري والعلمي بوسيلة اللغة. وهو تشابك يدفع بمن يغفل عنه إلى مفاهيم خاطئة في النظر إلى أنواع الفن الأدبي، وتقويمها التقويم الحق. فلطالما اختلفت الآراء، وما تزال، حول فنية الأعمال الأدبية بالنثر ولطالما اضطربت النظرة في ميزان التقييم الفني إلى أثر أدبي، ويترجح محتواه بين رؤيا الفن وحقائق الفكر والعلم بين مناخ الحقائق الذاتية ومناخ الحقائق الموضوعية، كالمؤلفات التي تعالج الموضوعات التاريخية مثلا، ولطالما تساءل المتسائلون هل يعتبر فلان أديبا فنانا، أم نعتبره أديبا مفكرا؟ وكثيرون ذهبوا، من هذا الخطأ، إلى قصر الفن الجميل في الأدب، على الشعر وحده دون النثر، وكثيرون، في المقابل لا يتنازلون عن فنية الأعمال النثرية مهما تكن.

يقول الدكتور ميشيل عاصي في كتابه لماذا يضرب المقياس الفني هكذا في الأدب وحده، من دون سائر الفنون الجميلة الأخرى؟ وكيف السبيل إلى الخروج منه؟ وما هو أخيرا محك الفنية الجمالية في الأدب؟

كان مجال الالتباس أو التشابك، بين أعمال الفن الأدبي وأعمال الفكر عامة، أن الأديب الفنان والأديب المفكر يتخذ كلاهما، في الفن الأدبي والتفكير العلمي، وسيلة تعبيرية واحدة: اللغة.

إن مادة التعبير الفني البارزة في الموسيقي هي الأنغام، لا يشاركها في وسيلتها هذه أي عمل آخر من أعمال الإنسان الإبداعية. وهنا أما أن تكون الأنغام جميلة فهي إذ ذاك فن موسيقي، وأما أن لا تكون، فهي حينئذ دندنة لا يؤبه لها. كذلك أعمال الرقص والرسم والنحت فهي إما أن تكون فنونا جميلة أو لا تكون شيئا من ذلك. قد تكون أعمالا انتفاعية معيشية، ولكنها ليست في كل حال أعمالا عقلانية رفيعة. أما المسألة مع الأدب فمختلفة تماما. ذلك أن الأدب حين تتكاثف فيه وتحتشد فنية الشكل والمضمون، فقد ينقلب عملا انتفاعيا معيشيا، حديثا بين الناس عابرا لا تبقى له حتى ميزة التسمية الأدبية، وإن تكن وسيلته ألفاظ اللغة التي هي نفسها وسيلة الأدب، وقد ينقلب عملا فكريا علميا أو فلسفيا، من نوعية الأعمال العقلانية الرفيعة، بما تحمله حينئذ ألفاظ اللغة من حقائق للحياة والوجود. وهكذا، يتضح لنا أن الفنون الجميلة باستثناء الأدب تتراوح بتكاثف فنيتها شكلا ومحتوي، بين المستوي النفعي الأدنى، وذروة الإبداع الفني؛ بمعني أنها تتدرج ارتفاعا من الحدود الفنية الدنيا، إلى الحدود الفنية القصوى والممكنة.

أما في الأدب، فالمسالة تختلف عنها في سائر الفنون، لان مادة الأدب اللفظية تحتمل ازدواجا في شكلها ومضمونها معا، فالألفاظ ذات مضمون معنوي، كما هو مفهوم. وهذا المضمون المعنوي، قد يكون مضمونا جماليا تطغي عليه حقائق الذات، خيالا وشعورا، إذا أريد به المضمون الجمالي المحض؛ وقد يكون مضمونا فكريا وعلميا بحتا، تطغى عليه الحقائق الموضوعية إذا اريد له أن يكون فكرا وعلما. وقد يأتي المضمون المعنوي في اللفظ، مزيجا من الحقائق الذاتية ومن حقائق موضوعية، شيئا من هذا وشيئا من ذاك، فلا هو هذا فقط ولا هو ذاك فقط.

هذا جزء بسيط من قراءة الكتاب الذي يعرف علاقة الأدب بالفنون، وهل الأدب نوع من الفنون.

يتضح وجود علاقة قديمة تربط بين الأدب وبقية الفنون كالشعر والنثر والموسيقي والمسرح وغيرها، فالأدب والموسيقي على سبيل المثال تربطهما علاقة وثيقة تتراءى في الإيقاع الذي يقوم عليه كل من الشعر والموسيقى، وخاصة في العصور القديمة؛ فكان الوزن الموسيقي عنصرا أساسيا في الشعر الكلاسيكي وهو يعتبر من صميم الموسيقي، إضافة إلى القصائد التي كانت تلحن وتغني. هذا ترك تأثيرا قويا في الشعر حيث أصبحت الموسيقى تصاحبه، على سبيل المثال، كالموشحات الأندلسية التي كانت من سمات عمود الشعر العربي من أجل تطويعها كي تلائم الموسيقي والغناء. أيضا، هناك تواصل بين الأدب والموسيقي من خلال الاعمال المسرحية للتعبير عن بعض المواقف الدرامية. الشعر أيضا رغم أنه يعتبر اعتماده كليا على القراءة بدلا من الاستماع لا يستطيع أن يستغني عن عنصر الإيقاع الذي نجده يصاحب الشاعر في إلقائه للقصيدة.

الأدب ايضا له علاقة بالنحت. ذلك ما يتراءى في تناول الشعراء والكتاب لتماثيل بالوصف، كما تتراءى في تناول نحاتين لنماذج مأخوذة من نصوص أدبية، وخاصة في الآداب الاوروبية التي تعني بالنحت أكثر من غيرها من الآداب العلمية؛ لكونها قامت على بعث الثقافة الإغريقية التي تحفل بهذا الفن أكثر من غيرها.

الرسوم أيضا كانت ملهمة للشعراء، وكان الشعر ملهما للرسامين ويكفي أن نعطي مثالا بآلاف الرسوم التي وضعت للتعبير عن قصائد معينة، وخاصة تلك الرسوم الداخلية المصاحبة لبعض الدواوين الشعرية على نحو ما يطالعنا في ديوان رنا جعفر ياسين، الموسوم بـ(المدهون بما لا نعرف) وديوان محمد بنيس الموسوم بـ(كتاب الحب) وغيرهم من الدواوين. وهنا نكتشف أيضا الروايات التي تستعين دور النشر بالرسامين لوضع الرسوم الداخلية لتلك الروايات المستوحاة من واقعها وشخوصها، بل أن بعض النصوص الأدبية الكلاسيكية بدورها لا تخلو من مثل هذه الرسوم. أضيف أن هناك مئات اللوحات الزيتية التي أُستلهمت من نصوص أدبية.

نعود إلى بعض السطور في هذا الكتاب القيم حيث يتناول الشعر والنثر والصفة الفنية للأدب. يقول الدكتور ميشال: إن الدارسين التقليديين الذين يقصرون الفن الجميل على الشعر وحده دون النثر، كما نعلم أن الشعر هو الفن الوحيد الذي عرفه العربي بين الفنون الأدبية الرفيعة. أما النثر فلا يرتفع إلى مصاف الفنون الجميلة إلا على نحو قليل، حين يكون نثرا شعريا أو شعرا منثورا. فمن حيث الصفة الجمالية للأدب لعل الأصوب ترك الكلام عنها من زاوية القول بشعر ونثر لنجابه المسالة من زاوية أخرى، لا تتقيد بالشكل فقط بل تتناول الشكل والمضمون معا، إستنادا إلى نوعية المضمون الفني والمضمون الفكري والعلمي، كفيل إن يوصلنا لا إلى حل حاسم لمشكلة الجمالية الأدبية فحسب، بل إلى مفهوم كامل لما يسمي بالشعر والنثر ما دامت العادة قد درجت على تقسيم الأدب إلى شعر ونثر وهكذا نجد أن الأدب لكي يعتبر فنا جميلا ينبغي ان يتوافر له المضمون والشكل الفنيان، سواء جاء في قالب الشعر أم في قالب النثر.

إن الجمالية في العمل الأدبي ليست مسألة شعر ونثر؛ إنما مسألة الرؤيا الفنية المجسدة بأسلوب تشكيلي إيحائي يجلو رؤية المحتوى وفنية المضمون، وبقدر ما تتكاثف هذه الفنية محتوى وشكلا في عمل أدبي يقترب العمل بهذا القدر من دائرة الفنون الجميلة ليتوجها عند اكتماله.

يعتبر الشعر والنثر من المنتجات الإبداعية، وكذلك الفكرة وغيرها تؤلف نوعية الأدب، الذي حتمت عليه وسيلة اللغة المشتركة، أن يتجه الوجهة العقلية بالإضافة إلى وجهته الفنية الجمالية، بسبب من التقاء النشاط الفني على وسيلة لأدائه اللفظي مع النشاط الفكري، وهكذا تتسع دائرة الأدب لتشمل نوعيتين من آثاره: فنية جمالية، وعقلية فكرية.

من هنا، أقول إن الأدب لا ينفصل عن الفنون بكافة أشكالها وأنواعها؛ فالأدب المسرحي هو أوج النشاط العملي الابداعي في الأدب، وذلك لأنه عمل قصصي يتمثل على منصة أو على الركح كأنها دائرة الدنيا الاجتماعية النابضة. فلا وسيط بينك وبين الحادثة وأبطالها، ولا تتناولهم بالسرد أو بالوصف، وإنما هم هناك على مرمي السمع والبصر، شخوص تحركهم حادثة معينة فيحبون ويبغضون ويشقون ويسعدون وتشاهدهم بمختلف المشاعر الإنسانية، وعليه نقول إن المسرح نشاطان فنيان لا نشاط واحد، الأول أدبي فني، مهمته خلق التعبير الكلامي المناسب. وهذا من مهام الأديب الفنان. أما الثاني فنشاط فني تمثيلي، يتولاه نفر المخرجين والممثلين الذين تقع على عاتقهم مسالة تجسيد الشخصيات وخلق أجوائها، وليس النشاطان منفصلين بعضا عن بعض، فالثاني متمم للأول ومبني عليه. والأول مرتبط بمراعاة الإمكانات التمثيلية ومقيد بها. ولكنهما عملان فنيان لكل أصوله على حدة.

هناك أيضا علاقة بين الأدب والسينما، فهذه تعتبر من الفنون التعبيرية السمعية البصرية المركبة التي تجمع بين الصورة والحركة والكلمة، وهي فن سردي يتخذ الصورة المتحركة والصوت أداة التعبير، خلافا للفنون الأخرى التي تعتمد على الكتل والأحجام والألوان، أو الأصوات والألفاظ أو الحركات كما هو الامر بالنسبة إلى النحت. إن العلاقة بين الأدب والسينما هي في التواصل والتأثير المتبادل بينهما، وهذا ما قاله الدكتور جهاد نعيسة في بحثه الموسوم بالرواية والسرود السمعية والرواية والسينما، ويمكننا أن نوازن لا أن نقارن بين الرواية والسينما؛ فكل من هذين الفنين يقومان على السرد التخيلي؛ كل منهما يتخذ من الإنسان مدارا أو محورا لهما، وكل منهما يرتبط بالواقع ارتباطا قويا حسب طبيعة التخيل ومداه ومرجعياته، أيضا كلاهما يحتفي بالبعد التاريخ للسرد. إن السرد الروائي القصصي يعتمد على اللغة المكتوبة، بينما السينما تعتمد على اللغة السمعية والبصرية التي تخضع لبناء حركية. كذلك، إن زمن الوصف يطول في الرواية، ويقصر في السينما. إن الإبداع السينمائي، خلافا للإبداع الروائي، لا يمكن أن يتم إلا من خلال الممثلين والمصورين والمخرج. من جهة أخرى، يوجد تفاوت كبير في قدرة كل من الرواية والسينما على الاستبطان. إن السينما تعني بنقل الصورة الظاهرية عادة ولا تستطيع ان تغوص في أعماق النفس لبشرية سيكولوجيا أو فكريا بينما الرواية التي تستطيع ذلك بفاعلية متناهية. لقد استطاعت السينما أن تقدم الرواية واطروحاتها بطريقة ناجحة وذلك لتحويل السرد إلى شكل درامي من خلال السيناريو.

وهنا أريد توضيح أن العلاقة بين الأدب والفنون كافة هي علاقة وطيدة يستلهم الثاني من الأول، وكذلك يفعل الأول، والامثلة كثيرة على ذلك.

أستند إعداد هذه المادة على:

كتاب الفن والأدب للدكتور ميشال عاصي، مؤسسة نوفل – بيروت، 1980.

العلاقة بين الأدب والفنون الأخرى للدكتور الرشيد بوشعير، كتاب الرافد – الشارقة، شهر فبراير 2013.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.