التطرف.. استحالة لإنسانية ممكنة

0 326

إيمان بلعسري – المغرب

الموت حدث ميتافيزيقي يقطع الصلة مع الوجود نحو العدم، هو نهاية للخيارات ونقطة انتهاء لكل المشاريع اليومية؛ يقول جاك دريدا: “كل إنسان يموت يحمل رحيله توقيعًا للعالم باسمه”، في هذه الحالة الموت/العدم حالة وشيكة من اختلاق معنى وانطباع غير مسبوق.

في سؤال لم الموت؟ تسائل الفلسفة هذا المفهوم كتجسد يحاكي الواقع اليوم أكثر من الأمس. أيام الحرب العالمية الأولى والثانية، ربما حرب الثلاتين عامًا حتى، كان الموت ذا رمزية قومية تؤسس لإرث مؤسساتي يبني على المدى البعيد تاريخًا ومستقبلًا آخر. على أيامنا، الأمر يختلف قطعًا؛ فالموت لم يعد رمزًا للتأسيس بقدر ما صار علامة للإنحطاط، وممارسة عنف بعدي له، ينسف بحياة أناس آخرين مدنيين بلغة المجتمع الحديث؛ لا لشيء سوى أنهم ليسوا من نفس قومية القاتل والمقتول في آن واحد أي ” الإرهابي”.

قيل الكثير عن الإرهاب وعن ظروف؛ ولادته السياسية والإجتماعية، مرورًا بملابساته الإعتقادية مع فتاوى لابن تيمية، أو أفكار المودودي حول مبادئ الحاكمية والبراء، أو الوقود الأيديولوجي الذي نتج بعد رحيل حسن البنا على يد “سيد قطب” بمصر، باسترجاع فكرة الجاهلية الأولى والجاهلية المعاصرة من رصيف المودودي. في حين يرجح العديد الإرهاب لـ”روبيرس بيير” بعد الثورة الفرنسية سنة 1789م، على إثر القيام بهجمات مسلحة، بعد أحداث سجن الباستليمي ومواجهة الجيوش بالشوارع عنفًا، بينما يذهب البعض بعيدًا وينسبه لجماعة “السيكاري” اليهودية ضد الحكم الروماني. ما يمكن أن يقال بعد تناثر الجدالات الثقافية والتاريخية هو أن الإرهاب ليس له لا وطن ولا لغة ولا دين؛ هو بكل بساطة وثيق الصلة بتقديس عقيدة ما، حد نفي ماسواها وما يبتعد عنها فكرة واعتقادًا سواء كانت دينية أو سياسية أو أيدولوجية، ما يجعل المساس بها من بعيد أو قريب، بقصد أو من دون قصد، منطقة محرمة تفتح أبواب الجحيم على مصراعية.

فالترهيب هو التخويف والترعيب، من أجل تحقيق شمولية معينة لمفهوم ما. كانت حنة آرندت من الأوائل الذين قالو أن القرن العشرين هو قرن الشموليات أو الأنظمة التوليتارية، بعد صعود الظاهرة النازية بألمانيا والفاشية بإيطاليا والستالينية بالإتحاد السوفياتي سابقًا، حيث الشرعية السياسية والنظامية لممارسة القانون أو العنف المشروع حسب تسمية ماكس فيبر تكون بناءً على العرق أو الدين أو اللغة، هو بالكاد غلو في تحقيق كينونة شعب ما، أو قومية ما، وانفصال على تحقيق تكامل بين البرانية والجوانية.

فيما بعد انتقل مفهوم العنف من المشروع إلى اللامشروع؛ هو عنف مضاد من خلال ميلشيات/جماعات متطرفة/ تنظيمات مسلحة تجد شرعيتها في نصوص وفتاوى، وتعيد تدويرها مرة أخرى حسب الإتجاهات التي ستسلكها نشاطاتها الإرهابية مع حذف الأحكام الموردة أصلًا لبتر المعنى الخالص الأول. صار العدو الجديد مجهولًا، لا مكان ولا زمان للخوض في حرب معه، فقط يكفي أن تحذر الدول والمؤسسات أمنيًا ولوجستيكيًا؛ إعلان الجهاد رُفِع أول مرة في وجه الإستعمار، لصده والتنكيل به بغية الإستقلال، ليتحول شيئًا فشيئًا إلى عنف داخلي صامت بعد تحرر بلدان الجنوب بغرض الوصول لسدة الحكم، وبناء كيانات معتقدية راديكالية محضة في القوننة والتشريع.

يقول فتحي المسكيني أن السبب في اندلاع موجة الجماعات الإرهابية، تكمن في مخلفات الهوية التي تركتها الحقبة الكلنيالية، حيث الآخر المختلف عني عقيدة ولغة ولونًا وعرقًا هو عدو ويجب محاربته لأنني ضحيته؛ سابقًا تحت تهديد البندقية وضحيته الآن عن طريق التهميش والإقصاء، بهذا المعنى حسبه يصبح الفرد كائنًا هوويًا لا خيار له إلا ما أطره بشكل ماضوي، وجعله حبيس فكرة العداء للأنا التي ليست أناه، ما يمكن تسميته  بشكل آخر المفعول الرجعي لـ “العنف المؤسس”، بمعنى أن بوتقة المفاهيم والمناسبات والعادات والتقاليد تتم عبر سلسلة من المشانقات بين الأنا المختلفة والأنا المماثلة أي الشعوب المتحاربة؛ ما يجعل ذكرى الإنتصار بالنسبة لجماعة ما هو نفسه تاريخ للإنتكاسة بالنسبة للجانب المقابل. في هذه الحالة، يصبح الآخر هو جحيم سارتري يمنع أي حراك نحو الأمام في زمن المستقبل بفعل المأساة التي تخلق نوعًا من الهشاشة حسب تعبير بول ريكور؛ وبالتالي يحدث اغتيال للحرية الشخصية الحميمة الجماعية، وتصعب مأمورية التلاقح اللغوي والثقافي لتكبح بذلك جماح أي حوار محتمل، فحتى وإن صار فالحذر والمكيافيلية تحيطه وفق مبدأ “رابح خاسر”/”خاسر رابح”.

في مرحلة من المراحل التاريخية، مع بداية الألفية الثانية، أعلن ما سمي بالجهاد العالمي كجواب على غزو العراق من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما كان الجهاد مبينًا على سلفية محلية داخلية، ثم حركية تم خيطية/شبكية، حيث صار عدو المتطرف الأول هو ذلك الخصم البعيد المعولم، فتم الترويج للجماعات الإرهابية بصيغة معولمة أيضًا؛ بداية ونهاية العالم صار قرية صغيرة. هذه الفكرة اشتدت لحاظها أكثر فيما بعد ثورات الربيع العربي، التي فتحت باب الريح للعناصر المتطرفة على أبوابه السبعة، فالسلطات أنداك تم إسقاطها بشرعية التغيير المرغوب شعبويًا، لتجمع من جديد الجماعات المتطرفة شتاتها بشكل غير مسبوق على ممارسة العنف والتنكيل بباقي القوميات داخل مناطق التوتر بالذبح والإغتصاب، وممارسة جرائم الحرب مما عكس العقلية الإنتقامية لذهنية متطرفة  كُبحت جماحها طويلًا بفعل جملة من الإعتبارات الأمنية، حينما كانت هي محصورة في انتظار فرصة لتفجير ما أخفته لعقود طويلة بفعل الخوف الذي استشعرته.

هيمنة الإرهاب في العالم لم تكن بفعل أي اعتبار مادي أو موضوعي محدد، بقدر ما كانت نتيجة لأدلجة الدين وانفجار فكرة عنصرة التسامح؛ حيث يتم فتح النقاش على أساس مسبق وقطعي أن كلا الطرفين يمتلك حقيقة مطلقة، بينما الطرف الآخر لا يملك إلا وهمًا وتراهات، حالة هستيرية من اللامعنى واللاحوار وسوء الفهم أحيت جذور العنف وسفك الدماء وفق تخيير ممارسة الشر.

تقول حنة آرندت في نظريتها “تفاهة الشر”، أن مفهوم “الشر” تجسُّد وظيفي لشخصية نكرة، لا تقوم على تحقيق العنف بغاية فردية حرة، بل بفعل رغبة مدفوعة بتفصيل يرتبط بأمر الأغيار أو “الغير” بصيغة المفرد، هذا الآخر قد يكون جماعة وقد يكون نظامًا، نفس الشيء، بالنسبة لعناصر الجماعات المتطرفة التي تستهدف الشباب اللذين يقدمون على العمليات الإنتحارية التفجيرية من عمر العشرين أو أقل نحو الأربعين على أقسى حد؛ سر وقع الإختيار على هذه الفئة يكمن في أن  غالبيتها في حقيقة الأمر لا تبحث عن الطريق نحو الذات، بل تغوص وتتوه أثناء تفتيشها عن الكينونة  في الكيان  المقابل للأنا، إذ سرعان ما تنحرف حتى هذه الرحلة لتصوب نصابها على وهم الهجرة نحو الله، وتهجير ضحايا المدينة الديستوبية في تقيدرهم للإنقاذ.  قبل  هذه الحالة، يتولى الجانب المقابل للذات مسؤولية الإختيار، سواء أكان الغاية أو الوسيلة، بناءً على هذا المعطى الخيطي يشتعل التأثير وتنطلق الإستكانة المضادة للمجتمعات والأوضاع السائدة؛ فيصير القتل وظيفة وليس لحظة وجودية محضة كما يظنها أصحابها، يقول المسكيني أن الفقر في المجمتعات العربية يخلق فجوة ثلاتية الأبعاد تنفتح على: الكرامة، الشغل، التنمية؛ في هذه الحالة تصبح الثورة أو أي نشاط للتغيير سواء بشكل سلمي او عنيف معركة “هويوية” يفقد على إثرها المثقف وضعيته داخل المجتمعات ويصبح مجرد “مثقف إشاعة” من دون عضويته التي منحها له غرامشي؛ بالتالي يسهل تسرب فكرة التطرف بفعل إعادة تفعيل فكرة بيع صكوك الغفران من خلال المطاحنة بالقوة للإعتراف بشرعية السلوك المتطرف/الوحشي؛ فالعنف حين يبدأ يكون منحاه مجهولًا كما يردد أدونيس.

الذعر والقلق لن يخلقا إلا فراغًا وجوديًا يمنع تجربة مباشرة مع الحياة، فتُخلق هرمية العبد والسيد وفق ما يمليه قانون الأسماك بين مؤمن وكافر. كان للفلسفة لقاء مع عنف الإقصاء وشرعنة العبودية، ولكن بشكل آخر من خلال عنصر “اللوغوس” اليوناني أي العقل اليوناني الذي إعتبر كل لغة وإنسان وثقافة خارج إطاره هي بربرية، بربرة الإختلاف هذه مفهوم جعل الإنسان محصورًا في نطاق واحد فقط دون تواشج مع محيط غيره؛ مما جعل ممارسة العبودية وأسواق النخاسة تجارة معمول بها لعصور طويلة؛ نفس الشيء بالنسبة لفكرة التكفير المتطرفة التي ربطت السياسة والحياة الخاصة والعامة بالإيمان والكفر، وكل عنف على سبيل التكفير والتحريم هو شرعي بفعل النهي عن المنكر والأمر بالمعروف (مواجهة أعلى العليين وأسفل السافلين) بشكل أوضح؛ التطرف بُني  أساسًا على تفكير فرد مؤمن بدلًا عن الجميع لأنه الأصلح والأجدر بالتسيير وممارسة السياسة؛ لذلك وجبت طاعته دون مواراة. رويدًا رويدًا، أصبحت الأفكار الدعوية  تهرب عن منحاها الإصلاحي الأخلاقي نحو الهيمنة إبان توسع رقعتها وتحصيل ثمارها المجتمعية في القبيلة والمدينة والريف على شاكلة “العرف الجاري به العمل”  كأسلوب للعيش  بل وكحقيقة ليس بعدها ولا قبلها أيما حقيقة أخرى تستحق الموت والحياة لتزيليها واقعًا مهما كلف الأمر.

لعل الخلاص من فكرة عداء الحياة، وممارسة مهنة الموت بالأحزمة الناسفة، يفرض مسبقًا القطع مع ثرات الإنسان الضحية السياسي الماضوي، وبنيوية المفهمة حول التضحية؛ إبطال هذين العنصرين يقف على تقبل المصير كخطوة أولى، حسب نيتشه، تم اتخاد موقف في الحياة الشخصية بناء على الأنا المؤسسة على الديكارتي الكلاسيكي الذي يفكر ويشك ويقرر لتكون الحياة ذات معنى، وليس مجرد تأبيد للموت من أجل الموت فقط.

يقول الكميائي ” لافوازييه“: “لا شيء يموت لاشيء يفنى كل شيء يتحول” ، بالفعل فالوجود الإنساني شرطًا هو مبرر بدراماتيكية “النهاية”، لذلك الخوف والترهيب من شكلية هذه النهاية تجعل العقل في قصور والحكمة في مهمة مستحيلة تيمنًا بسعيد ناشيد. في الثقافة البوذية، الخوف يصدره الجهل والخلاص منه يكمن في المعرفة. حتى السؤال الأكثر جدية في كل وقت: “لما الفلسفة؟”، كثيرًا ما تكون أولى الأجوبة عليه ولو عرضًا من أجل الفهم (الحكمة)؛ إن الوظيفة الأولى لمحبة الحكمة philosophia   هي العزاء للنجاة من الموت خوفًا وغضبًا وتذمرًا وتعاسة وانحطاطًا.

إن الإنقطاع التاريخي عن فكرة العزاء، وعن الوظيفة العزائية للفلسفة هو الذي حسم المعركة لصالح الخلاص، ولتفجير المجسمات الكيماوية غيظًا اليوم؛ بدعوى الخلاص والتخليص الجمعي من التجاوزات الأخلاقية والمنكرات والفواحش، بلغة من يختارون الموت كحل لما يرونه معضلة من أعظم ما يكون، هاجس الحفاظ على البقاء بصيغة غيابية تغييبية تطبعها مسائلة الماضي للحاضر؛ هو تحيين رجعي لمفهوم “الضحية الدائمة” ما سسمح بمتدد رمزية عنف مضاد على شاكلة ابتزاز تقافي، فنصبح في سيرورة متواترة  لمفهوم “ضحايا الضحايا” من دون انقطاع، حيث المؤمن ضحية الكافر، والكافر ضحية المؤمن، وهكذا دواليك سلسلة من الحلقات اللامتانهية لعنصر الشر المتأصل حسب ديكارت.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.