التّرجمة كتابة الظلّ

عن كتاب "المترجم كاتب الظل" لكارلوس باتيستا بترجمة د. محمد آيت العميم

0 507

نصر سامي – تونس

 

صدر كتاب “المترجم كاتب الظلّ” للمؤلّف كارلوس باتيستا، في ترجمة وتقديم د. محمد آيت العميم. بغلاف لمّاح معبّر يعتمد رسمتين متجاورتين تشبهان أيقونتين أو ورقتي بردي مزوّقتين بالخطوط الحروفية والهندسية في فضاء ملوّن بإسهاب للفنّان العراقي فائق العبودي. عن منشورات مركز الحمراء للثقافة والفكر، في طبعته الأولى لسنة 2020.

وكارلوس باتيستا مزيج فرنسيّ برتغالي، عاش حياته تحت ضغط الهجرات والثقافات المزدوجة، وتأثّر في مساره الفكري وفي جميع أعماله بازدواجية لغوية. دفعته لإعداد بحوث مختصّة حول أسئلة الترجمة بين اللغتين الفرنسية والبرتغالية، ثمّ أدّت به للاشتغال مترجما في دور نشر مهمّة، وساقه ذلك الاهتمام والتخصّص إلى أن يكون كاتب الظلّ لعديد الكتب الروائية والشعرية، لكاتب البرتغال الكبير أنطونيو لوبو آنطيس. وترجم للروائي خوسي رودريغيز دوس سانتوس. ولقد مثّلت ترجماته الكثيرة والمكثفة للتأمّل الترجمي إذا صحّت العبارة، إذ صار التفكير في الترجمة عدا كونه ممارسة مستحقّة مجالا للتفكير والتأسيس والمدارسة. ولقد أنشأ في كتابه مجلسا أدبيّا حول الترجمة ليثبت أنّها ليست فعلا نخبويّا ولا فعل قطيعة بل هي كتابة أخرى لها كلّ خصائص الكتابة الحقّة، لكن في الظلّ! أيّ سحر في هذا التعريف؟ وأيّ إبداع؟ كيف تأتّى له أن ينحت تعريفا ملفتا وخفيفا ومكثّفا في آن. الترجمة كتابة هكذا يقول لنا كارلوس باتيستا وهذا ليس جديدا، لكنّ الجديد هو تلك الإضافة المخاتلة الغريبة المخيّلة المربكة التّي تجعل من الكتابة فعلا ظاهرا بيّنا يخفي فعلا آخر في ظلاله لا يقلّ بيانا وظهورا. ليس المترجم بهذا المعنى ناقلا فقط، ليس هو بريئا ولا بعيدا ولا متبرّئا ممّا يحدث، بل هو في صميم العمل الأدبي. لا يخبرنا باتيستا بآلية اشتغال المترجم لديه، ولا يكلّف نفسه بتعريف المجالات التّي يسمّيها الظلّ، لكنّه يتركها غامضة موحية مولدة عميقة، ويفتح الكتاب لكلّ قول في الترجمة، ممّا يوحي لكلّ قارئ بأنّ المترجم هو ظلّ حقيقيّ، لكنّه ظلّ مضئ.

كتب كارلوس باتيستا الكتاب مرّتين، في الأولى جعله كتابا موسّعا، ثمّ عاد ونقّحه وهذّبه ورتّبه ترتيبا جديدا يفي بمقتضيات تطوّر تأمّلاته في الترجمة وزيادة خبراته فيها. وتغيّر العنوان من “مختصر المترجم” إلى “المترجم كاتب الظلّ”. وهو انتقال من مجرّد توصيف لفعل الترجمة بما هي جسر مرور من ثقافة إلى ثقافة، إلى تفكير في طبيعة ذلك الفعل وكينونته وأساسه، والكتابان تعبيران عن هذا التحوّل من رؤية تقليدية للترجمة إلى رؤية جديدة دينامية تدمج الذات المترجمة في فعل الكتابة باعتبارها فاعلة وليست منفعلة، لكن بطريقتها الخاصة. وهنا لا أستطيع مقاومة الفكرة التفكيكية التي تطرأ في فكري بمجرد سماع كلمة الظلال، وهي سميّها الصوتي الذّي يغايرها في المعنى، ففي الظلّ يضلّ الإنسان ويضيع وربّما يبتعد عن غايته، لكن حتّى وهو ضائع فإنّه يحيا حياة مختلفة. مثل هذه الأفكار ترتبط بالترجمة، ومنها الخيانة وهي رديف الضلال أيضا، وكلّ هذه التعابير تختفي في تلك الكلمة الصغيرة العميقة الناعمة المخيلة التي قرنها باتيستا بكلمة الكاتب وهي كلمة الظل.

كارلوس باتيستا

ولقد صاغ الكتاب في حلّته العربية د. محمد آيت العميم وهو باحث متمرّس بفعل الترجمة إذ أنجز قبل هذا الكتاب مدوّنة مهمّة أهّلته للتفكير العميق في فعل الترجمة. ولقد مثّلت ترجمته لهذا الكتاب بالتحديد أمرا مدهشا، ذلك أنّه باعتباره هو أيضا مترجم، فإنّه يقع تحت طائلة التعريف بكونه كاتب الظلّ لهذا الكتاب، ممّا يدفعني لسؤاله عن حدود كتابة المترجم لما يترجم، ولو في الظل. فمفهوم كاتب الظلّ فكرة برّاقة مدهشة لكنّها تفتقد للحدود. نعرف أنّه في الغابات الكبرى تنمو حيوات في الظلّ لا حدّ لثرائها، لا تظهر من بعيد، لكنّها حيّة وحقيقيّة. وكذلك الكتب فإنها تظهر كاتبها ولكنها تبخل على مترجمها لكن الحقيقة أنّ المترجم في الظلّ في القيعان الغائرة لكل نص يمارس تأثيراته ووجوده ورؤيته. تحتاج فكرة باتيستا حول الترجمة المزيد من التدقيق لعلّ د. العميم ينهض به مستقبلا فالترجمة حقل مغر بكلّ تأمّل وبكلّ تفكير. ولقد أعدّ د. العميم مقدّمة بسط فيها بيسر وعمق وشمولية محتوى الكتاب، واستطاع أن يهيئ مدخلا قرائيا مفيدا لكلّ من يروم القراءة. وفيها أسهب في إيراد بعض الأقوال حول الترجمة منها رأي بوشكين “المترجمون هم بريد التنوير”، ويستخلص خلاصات دقيقة نورد منها الشاهد التالي، يقول د. محمد آيت العميم: ” لولاهم (المترجمون) لتعطلت حركية التواصل والتبادل بين العشائر اللغوية، ولتوقفت عجلة التاريخ وصدأت.  ومن تم، فإن فعل الترجمة يكتسي مهابة وجلالا يضارع هبة اللغة. إذ اللغة وحدها لا تكفي. فتعددها يلبي حاجة كل قوم في التعبير عن أغراضهم. وطابع اللزوم يقصر كل لغة على عشيرة لغوية محدودة. لن تعرف اللغة انتشارا وفعالية إلا إذا تمت تعديتها في أنساق لغوية أخرى عبر الترجمة وإعادة الترجمة. فيتم إغناؤها وإحياؤها بقدر ما تستضيف لغات بعيدة، لتوسع من جغرافية معجمها وتركيبها ونسقها. هذا الذهاب إلى الآخر واستدعاؤه لضيافته هو الكفيل بالإبقاء على نبض اللغة وتجددها المستمر وضخ النسغ الحيوي في شرايينها”. وهي تأمّلات تتعلّق بتعقّد ظاهرة الترجمة وصلتها بالكون في صيرورته، إذ يجعل منها شرطا من شروط الحياة. كما يورد لجاك دريدا قولته المعروفة: “الترجمة مستحيلة وضرورية في الوقت نفسه”. ويلحقها بإحدى إلماعات الجاحظ قديما الدائرة في فلك استحالة الترجمة مضيفا رأيا لرومان جاكبسون المنتصر لاستحالة ترجمة الشعر أيضا، واضعا حدّا بين قولين متضادين هما الاستحالة التي يقول بها اهل التنظير والإمكان الذي يراه أهل الممارسة. ونقرأ للدكتور محمد آيت العميم هذا الرأي الطريف في الترجمة: ” ولأن البشر يتكلمون لغات مختلفة وجدت الترجمة. فقد عرض مشهد التعدد اللغوي في سياق الخطيئة كما ورد في القصة التوراتية، وأنها لعنة بددت الأقوام وبلبلت الألسن. فهم حسب القصة كانوا يتحدثون لغة واحدة، فسولت لهم أنفسهم أن يبنوا برجا ضخما وعاليا ليبلغوا به أسباب السماء، فعاقبهم الله، بأن هدم البرج، وتشتتوا وأصابت البلبلة ألسنتهم فلم يعودوا يستطيعون التواصل فيما بينهم، فضعفت شوكتهم، وذهب ريحهم. هذا المشهد العقابي انبثقت عنه ضرورة الترجمة، وإعادة رتق ثوب اللغة المخرق وإعادة خياطته. فهناك جرح بابلي لا يندمل إلا عبر خيط المترجم. ففي هذه الصيغة يصير التعدد عقابا والترجمة ترافعا لتخفيف العقوبة”. يروقني في هذه القولة المهمة الإيجاز والتكثيف وحسن التمثيل وإيراد ما سبق من تمثّلات لفعل المترجم. فالترجمة سليلة الخطيئة، وهي جرح بابلي قديم غائر موشوم في ذاكرة الحضارات، جرح لا يندمل إلا بواسطة خيط الخيّاط أو خيط الجرّاح. هناك في الحالين ألم عات ممضّ، وهناك دم، والنصّ المترجم يقف في المهبّ بروحين جارحين مجروحين: روح الكاتب وروح كاتب الظل.

وينقل د. محمد آيت العميم تعريفات أخرى، ننقل منها رأيه العميق التالي في علاقة القرآن بالترجمة، وها هو يتدبر آيتين تدبرا لطيفا. وهما: “وعلّم آدم الأسماء كلّها”، “ومن أياته خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم”. ويرى أنّ رؤية القرآن محكومة بالتعدّد الذّي كان في أصل الوضع، وهذه آية أخرى تحاكي آيات الله الأخرى المبثوثة في الكون ليتدبّرها العاقل. الاختلاف إذن جوهروأصل ثابت، وهو من نعم الله. وهنا يصبح المترجم ساحة ضيافة وإيناس لكلّ غريب ومقرّبا لكلّ بعيد وحبل نجاة لمن كانت لسانه قاصرا إلا عن لغة واحدة. وضمن هذه الرؤية يتخلّص د. محمد آيت العميم إلى أنّ المترجم “دليل في غابة القول”، ورفيق في مدارج الضلال، وهو “حبل آريان الضامن للخروج منهما”.

محمد آيت النعيم

إنّ ما يقوم به كارلوس باتيستا في كتابه، وما يكرّره يأضيف إليه د. محمد آيت العميم هو عمل لاحق على عمل المترجم. وهو فعل من جوهر الأعمال اللغوية الخلاقة الضرورية لتسييج عمل المترجم. وفعل التأمّل هذا ليس جديدا وفيه نظريات متعددة وطرائق كثيرة. يخبرنا بها في الشاهد التالي: ” شيشرون، والقديس جيروم صاحب الترجمة اللاتينية للإنجيل، والجاحظ، وفريديريك شلايرماخر، وفاليري لاربو، وولتر بنيامين، وجاك ديريدا، وجورج شتاينر، وأنطوان برمان، وجورج مونان، وهنري مشيونيك، وجون غوني لادميرال، وأمبرطو إيكو، وميشيل أورسيل، وآخرون”. ولم يكتف بالإحالة عليهم بل ألحق الأسماء في فقرة أخرى بعناوين مؤلفاتهم المرجعية في تأمّل فعل المترجم: “خلّف هؤلاء المنظرون مؤلفات مرجعية في حقل التأمل الترجمي، وجاءت عناوين كتبهم محيلة على البعد العلمي والجمالي والأخلاقي والفكري والفلسفي للترجمة. مثل “طرائق مختلفة للترجمة لشلايرماخر، و”مهمة المترجم” لبنيامين، و”استدعاء القديس جيروم” للاربو، “ما بعد بابل” لشتاينر، “محنة الغريب” و”مأوى البعيد” لبرمان، “المشاكل النظرية للترجمة” و”الجميلات الخائنات” لمونان، “شعرية الترجمة” لهنري مشيونيك، “الترجمة مبرهنات من أجل الترجمة”، “مصدري أو هدفي” لجون غوني لادميرال، “أبراج بابل” لجاك ديريدا، “الترجمة هي قول الشيء نفسه تقريبا” لامبراطو ايكو، و”دموع المترجم” لميشيل أورسيل، “في مديح الترجمة” لباربرا كاسان”. وليعذرني القرّاء لطول شواهد هذا العمل، ذلك أنّ عمل د. محمد آيت العميم ليس إلاّ حفرا في ماهية المترجم وعمله، تصدّى له بمعرفة مكتملة، وأحال على جميع مصادره، وعرضه عرض العارف المتخصّص ومهّد له بخير ما يمهّد به تشويقا وإغراء ودفعا لمزيد الاطّلاع.

وبعد هذا كلّه فالكتاب المترجم غابة أقوال، ليس في ذلك أيّة مبالغة. غابة تمتدّ على رواة على درجة كبيرة من التنوّع والاختلاف، لا يجمعهم شيء غير الحديث عن الترجمة. والأحاديث هنا مختصرات لا تتجاوز الجمل في أحيان كثيرة أو فقرات أو نوع من التذكّر أو الإلماعات الشذرية الشبيهة بالحكم والنوادر. يبدو ذلك مختلفا عن معتاد الكتب حول المواضيع الرصينة، لكنّ ذلك يبدو مناسبا لدرجة أنك لا تتخيّل أسلوبا غيره لمثل هذا الحديث. يتكلّم هنا في شأن الترجمة جميع النّاس، لا المختصّون فقط، تنكشف للقارئ العادي أسرار، وتنفكّ ألغاز، وتحصل للمتابع المتخصّص متعة مغموسة في سمّ الآلام. ويتوضّح لنا من العرض المقدّم لفعل الترجمة أنّ الكاتب ينتصر لأطروحة شديدة العمق وهي أنّ الترجمة شأن إنساني، وأنّ الخوض في خضمّها أمر متاح للجميع.

الغابة، حيث حملنا كارلوس باتيستا، فضاء للمتعدّد، وإصغاء للآخر، وإدراج له في الذّات، والغابة عند د. محمد آيت العميم كاتب الظلّ لهذا الكتاب، دهشة وتفكّر وضلال. والحصاد في هذا الكتاب حصادان: حصاد الضّوء الذّي بذره الكاتب الأصلي في ليل العالم، وحصاد الظلال الذي أنشأه المترجم.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.