الحكاية الخرافية

0 1٬155

سعاد خليل – خليل

كانت الحكايات الخرافية ترتبط دائمًا بالأساطير وحكايات البطولة، كما أنها اقتحمت عالم الشعر الرسمي وعالم القصص والملاحم والروايات، فأضفت عليها كلها حيوية في كل بقاع العالم. يمكننا أن نقول أنها أصبحت جزءًا من التراث، ولو بحثتنا يمكننا أن نعثر عليها عند البدائيين في عصرنا الحاضر، بل كانت بعض الشعوب تمتلك موهبة في خلق الحكاية الخرافية مثل الهنود والعرب، فكانوا يصيغوها في أكمل صورة فنية لها، من خلال خيالاتهم وإضفاء الروعة والتشويق عليها. عند بحثنا في خصائص هذه الشعوب، وطبائعها، وافكارها وتأملاتها، نستخلص أنها متأثرة كثيرًا بهذه الخرافات والحكايات.

إن الحكاية الخرافية ترجع بنا إلى عصور تسبق كل تاريخ مدون، كما أنها ترجع بنا إلى بدايات الفن الشعري، وإلى عالم آخر من الفكر والاعتقاد والحق والدين. بالطبع، لا يحق لنا أن نعمم على كل الحكايات الخرافية، ولكن ينطبق على البعض.

فيما نعرض ونتصفح بعض من الصفحات من كتاب الحكاية الخرافية لفدريش فون ديرلاين.

في الفصل الأول من الكتاب، حول البحث الجاد في الحكايات الخرافية، يمكننا أن نرجع إلى الوراء ما يقرب من قرن ونصف، حينما اهتم الاخوان جرم في تعليقهما على (حكايات الاطفال والبيوت)، وبالبحث عن أصل الحكايات الخرافية نفسها ومجموعاتها، فهي معروفة لدينا قبل هذا التاريخ بزمن طويل. وعلى الرغم من أن الحكايات الخرافية كوفحت بما فيه الكفاية، بوصفها حكايات العجائز، فإنها مع ذلك ظلت محتفظة بجودتها عبر الاف السنين.

يبدو أن الحكاية الخرافية عاشت عصر ازدهار في القرن السادس قبل ميلاد المسيح، في كل من بلاد الاغريق والهند. أما عصر الازدهار الثاني، وهو يعد بحق أروع عصور ازدهارها، فهو الذي عاشته الحكاية الخرافية في عصر الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر، وما تلا ذلك من القرون.  في ذلك الوقت، ظهرت المجموعات الكبيرة للحكايات الخرافية للشاعر الكشميري (سوماديوا)، كما تطورت في مصر مجموعة حكايات ألف ليلة وليلة حتى استقرت على الصورة التي هي عليها حاليًا. أما في الغرب، فإن مجموعات الأناشيد الدينية الكبيرة قد تضمنت الكثير من الحكايات الخرافية والاساطير والحكايات الشعبية، ونخص بالذكر منها الاناشيد الشهيرة التي ترجع إلى القرن الثالث عشر تحت عنوان أعمال الرومان (Gesta Romanorum) والأساطير المذهبة (Legenda Aurea)؛ وسرعان ما ظهرت إلى جانب هذه المجموعات التي ذاعت باللغة اللاتينية أعمال باللغات الشعبية. منذ بداية القرن الثالث عشر، أخذت تظهر في إيطاليا مجموعات عدة من القصص والحكايات الخرافية، كما احتوت مجموعة دي كاميرون (Decamerone) على مادة وفيرة من الحكايات الخرافية. ظل تأثير المجموعات الإيطالية الشهيرة قويا فيما بعد زمنًا طويلًا، بل إن (الأخوين جرم) تأثرا بها بعد كذلك، وبالأخص بالمجموعة (ثلاث عشر ليلة ممتعة) لاسترابا رولا الذي يكان يعيش في كارافيجو بالقرب من كريمانا، وظهرت هذه المجموعة بين عام 1554-1550 محتوية على عدد هائل من الحكايات الخرافية. كذلك تأثر الاخوان بمجموعة بنتاميروني التي احتوت على خمسين حكاية خرافية لشاعر نابولي جحيام باتستا بازيل المتوفى في العام 1634 م، وتتميز مجموعة بازيل بأنها كتبت باللغة العامية واحتوت على إضافات قليلة على النقيض من مجموعة سترابرولا، على أن لغتها كثيرًا ما تكون سوقية شاذة.

هذا بالنسبة لإيطاليا، حسب الكتاب، حيث يقول أن فرنسا أيضًا ظهرت فيها مجموعات الحكايات الخرافية الشهيرة وأسمها حكايات أمي لشارل بيرو (Charles Perrault)، وقد استمد بيرو حكاياته من الشعب، ولكنه اضفى عليها طابعًا فنيًا غنيًا بالرشاقة ورهافة الحس، وقد تركت حكايته هذه مرة أخرى أثرها في الشعب، بل إن عددًا هائلًا من الحكايات الخرافية الألمانية تأثر بمجموعة بيروونذكر من ذلك حكاية ذات الرداء الاحمر وحكاية الوردة الشائكة، وحكاية الذئب والنعاج السبع. ظلت الحكايات الخرافية تظهر على الدوام في فرنسا، تؤلفها السيدات بصفة خاصة. ضمت هذه الحكايات بعضها إلى بعض في مجموعة رائعة تكون في النهاية واحدًا وأربعين جزءًا أطلق عليها أسم (مجمع الجان). بالرغم من أن الكثير من هذه الحكايات مخترعة أو حكايات قديمة صيغت صياغة جديدة إلا أنها تحكى بطريقة شائقة مشبعة في الغالب بأسلوب فن (الروكوكو) أي المبالغة في التصوير لدرجة تركت أثرها في حكايات الشعب الخرافية الرائجة آنذاك.

في القرن الثامن عشر، عصر العقل والاستنارة، وإن كان كذلك عصر السحر والذوق المرهف، ولم تكن الحكاية الخرافية تتلاءم كليًا مع مزاج هذا العصر، بالرغم مما ظهر فيه من مجموعات كثيرة. كانوا يعتبرونها غير منطقية وإنما خيالية؛ غير غنية بالمغزى ولا يسودها نظام؛ وتبدو خيالًا لا شكل له ولا بنية. من هنا، كانت الحكاية الخرافية التي حكاها الصبية في مصانع الأعمال اليدوية وبالمثل حكايات الأمسيات في منازل القري، ذات بنية تختلف عن بنية الحكايات التي ظهرت في مجموعات هذا العصر، اذ لابد للحكاية الشعبية أن تصمد أمام  ذوق العصر فلا بد من أن تحتوي على  مغزى، ولا بد من أن يصبح اللامعقول فيها معقولًا، كما لابد أن ينتظم الخلط في شكل شائق منظم.

تمت العديد من البحوث حول الحكاية الخرافية، فقام الأستاذ موزويس، وهو أستاذ بجامعة فيمر، بجمع الحكايات الخرافية من الشعب، وحكاها ثانية بطريقة ساخرة متروية، ثم جعل ما فيها من عناصر خيالية وأمور خارقة للطبيعة تظهر بوصفها مجرد شيء عرضي، كما حاول بعد ذلك أن يضمنها مغزى بأن أضاف إليها مُثلًا أخلاقية يقتدى بها، تمامًا كما صنع بيرو من قبل. مع ذلك، يمكننا أن نقرا اليوم حكايات موزيوس ذلك لأن جوهرها صادق، كما أن الإنسان يحسّ بوضوح بما فيها من نغمة شعبية، إلى درجة أن الأسلوب الساخر والحكمة المقحمة لا يسيئان إليها إلا قليلًا.

غوته الشاعر العظيم كان يستخدم الحكاية الخرافية، فقلما يخرج بها عن حدودها، فكم أثبت في هذا المجال أنه وريث عصر الروكوكو، وأنه في نفسه أحد أتباع هيردر ومرهص بظهور الرومنتيكية. لقد استمع جوته إلى أمه وهي تحكي له كثيرًا من الحكايات الخرافية، مثل حكاية الحائك الذي تزوج الأميرة، وحكاية حدائق الجان التي تختال روعة، والتي سمح لطفل مفضل أن يراها مرة، مرة واحدة فحسب، ثم ضل طريقه بعد ذلك إليها، كما عرف حكاية الجبل الممغنط الذي يجتذب السفن إليه، كما يجتذب الحديد والمسامير، وحكاية الأميرة التي كانت تخدمها ايادٍ بلا شخوص.

كل هذه الحكايات تكون جزءًا من مادة الحكايات الخرافية القديمة وهي ما تزال تروي وتنتشر حتي اليوم، ولكن حينما رسم جوتة الحكاية الخرافية كان يتبع في أغلب الأحيان منهج عصره، أي منهج فيلاند من قبل، فقد حكي حكاية اماجيس الجديدة شعرًا، واخترع غير ذلك من الحكايات، وأطلق عليها اسم الحكايات الخرافية، ومثال ذلك حكاية ميلوزين الجديدة، وحكاية باريس الجديدة. هذه الحكايات تنبض فنًا ورقة، كما أنها تفيض بالسحر، وإن شاع فيها جو الحزن القاتم، لكنها بالتأكيد صور غنية بالفن، وتخلو من العبارات التقليدية، وتخلو أيضًا من الجو الطفولي.

لو بحثنا لماذا جوته استعمل الحكايات الخرافية، يقول مؤلف الكتاب إن جوته لم يكتب الحكايات الخرافية من اجل الحكاية ذاتها، وإنما لمغزى عميق تخفيه بين سطورها. في هذا، نجد غوتة أقرب إلى الرومنتيكية من القرن الثامن عشر، وأكثر ما يتضح هذا في حكايته الأفعى الخضراء وحكاية زهرة السوسن الجميلة ضمن مجموعة (ألوان في حكايات الترفيه عند المهاجرين الالمان) .

نعود إلى موزيس ومعاصروه في القرن الثامن عشر، حيث كانوا ينظرون إلى الحكاية الخرافية بوصفها عبثًا غير معقول، فإن جوته كان على العكس من ذلك تمامًا؛ إذ أن الحكاية الخرافية عنده هي بعينها الحكمة. وإذا كنا لا نعرف مصدر الحكمة فإن هذا لا يرجع إلى بلاهة في الحكاية الخرافية، وإنما يرجع إلى إحساسنا البليد، وهذا العمق بعينه الذي تتسم به الحكاية الخرافية، والذي لا يدرك بالعقل وإانما بالحدس فحسب، هو الذي أثر في العصر الرومنتيكي بأسره، كما أثر بطريق غير مباشر في شعر القرن التاسع عشر، بل إنه يبدو لنا أن الجزء الاكبر من الحكايات الخرافية الفنية ما يزال متأثرًا بهذا الوضع الجديد للحكاية الخرافية.

وقد نمّا نوفاليس فكرة جوته هذه عن الحكاية الخرافية، إذ كان يري أن الحكاية الخرافية تعد أسمى صورة للأدب بوجه عام. ويتمثل هذا في أدق صورة في حكاية البصيلة والدم الوردي، وهي إحدى حكايات (تعاليم سايس) وسايس هي مدينة مصرية  قديمة كانت تقع في الوجه القبلي. ولمّا كان العلم كله، ومتاعب الحياة بصورها المختلفة، تنتهي بنا كلها إلى حكمة طفولية وإلى إدراك سخف الحياة؛ ولمّا كانت الحكاية الخرافية تحكي عن هذا الحكم فإنها لذلك تعد أسمى صورة شعرية وأقدمها. من جهة اخرى، فإن هذا الرأي الذي ظهر في القرن الثامن عشر تغلبت عليه آراء أخرى كان لها أكبر الأثر، وأول من أمسك بخيط هذه الرأي، كما أمسك به في مجالات أخرى، هو (هردر) قال:

إن الحكايات الشعبية بأسرها، ومثلها مثل الحكايات الخرافية والأساطير، هي بكل تأكيد بقايا المعتقدات الشعبية، كما أنها بقايا تأملات الشعب الحسية، وبقايا قواه وخبراته، حينما كان الإنسان يحلم؛ لأنه لم يكن يعرف، كان يعتقد لأنه لم يكن يرى، وحينما كان يؤثر في مخيله بروح ساذجة غير منقسمة على نفسها، ومعنى هذا أن الحكاية الخرافية ليست بثرثرة عجائز لا منطق لها، ولا هي اختراع صرف وإنما هي ملك للشعب ونتاج قواه الشاعرية.

وقد تحول هيردر نفسه فيما بعد عن الحكاية الخرافية؛ ذلك لأن الحكاية الخرافية نثر، ولم يكن يجذبه في قوة آنذاك سوى الشعر الذي كان يرى فيه اللغة الأم للجنس البشري. بينما جوته الشاب كان الوريث الأول لهردر، فلقد أضفى على قصة فاوست، وهي بعد في صورتها القديمة الانفعالات التي تفيض بها الحكاية الخرافية من مرج وجنون غريب وحزن عميق بالغ يردد اصداء احساسات الشعب القديمة كلها، المظلمة والقاسية على السواء. نحن نشير هنا إلى ما اقتبسه جوته من فاوست القديم من حكايات خرافية، حكاية البرغوث الذي أصبح أميرًا، وحكاية ملك بلاد التولي ثم إلى هذه الاشعار التي استمدها من حكاية مخاند البوم.

إن الحكايات الخرافية تتفق جميعها  في كونها بقايا معتقدات تصل في تاريخها إلى أقدم العصور، وتتاح لها الفرصة للظهور من خلال تلك التأليفات التي  تصور مدركات غير حسية. هذه المعتقدات الأسطورية شبيهة بقطع صغيرة من أحجار متناثرة بين زهور تنبت في أرض خصبة لا يكتشفها إلا ذو بصر حاد. وقد فقد مغزى هذه المعتقدات منذ زمن بعيد، ولكننا ما نزال نحس أثرها، بل هي تكون بنية الحكاية الخرافية التي تهتم في الوقت نفسه بالمتعة الفكرية في تصوير الأمور الخارقة للعادة. تمتد هذه المعتقدات الأسطورية كلما رجعنا بالزمن إلى الوراء، بل إنها فيما يبدو كانت تكوّن المضمون الوحيد لأقدم صور التأليف الادبي، ونحن نرى كيف أن هذه التأليفات الادبية قد تكوّنت ارتجالًا من السمو عن الأشياء المادية، لكي تخلق حالة من الانسجام مع الواقع، وذلك حينما تهدف إلى تصوير قوى الطبيعة المروعة، المليئة بالأسرار. كما أنها لا تحيد عن تصور ما هو بعيد عن الإدراك، وكذلك الشيء البشع. هذه الآداب القديمة لا تكون أكثر مرونة إلا حينما يتناول موضوع مشاهداتها أحوالًا غير معقدة من حياة الرعاة والصيادين والمزارعين، وكذلك تصور أثر العادات الأصلية للشعوب.

الكتاب يوضح من خلال فصوله الثمانية طرق بحث الحكاية الخرافية، واصول الحكاية الخرافية، وشكل الحكاية الخرافية، والحكايات الخرافية عند الشعوب، وفيها بعض الحكايات في بابل ومصر وبلاد الاغريق وروما والهند والف ليلة، والحكاية الخرافية الأوروبية، والحكاية الخرافية الالمانية. حقيقة، هو كتاب لا يمكن اختزاله، ولكن ما سبق كان محاولة تلسيط الضوء على بعض النقاط الهامة فيه بما في ذلك تأثر بعض الشعراء بالحكاية الخرافية.

الكتاب وطباعته
الكتاب الطبعات
  •  الحكاية الخرافية: نشأتها، مناهج دراستها، فنيتها
  • تأليف فريدريش فون دير لاين
  • ترجمة الدكتورة نبيلة إبراهيم
  • مراجعة الدكتور عز الدين إسماعيل
  • دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1965، ضمن سلسلة الألف كتاب / بإشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي
  • دار القلم، بيروت، 1973.
  • دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، 1990
  • دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2018

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.