بذور الخديعة في تربة السّرد!

0 635

نصر سامي – تونس

 يروي المؤرخ العربي الإسحاقي هذه الواقعة عن رجال ثقات: أنه كان بالقاهرة رجل ذو ثروات، وكان مبسوط اليد متحرراً فأضاعها جميعاً عدا بيت أبيه. واضطر إلى العمل لكسب قوت يومه، فأُرهِـقَ حتى فاجأه النوم ذات ليلة تحت تينة بحديقته، فرأى في المنام رجلاً مبتلاً يخرج من فمه قطعة نقود من ذهب، ويقول له: “ثروتك في فارس بأصفهان، فاذهب وابحث عنها”. استيقظ الرجل عند الفجر الموالي، وشرع في السفر الطويل، فواجه أخطار الصحاري، والسفن، والقراصنة، وعبدة الأوثان، والأنهار، والسباع، والرجال. ووصل إلى أصفهان أخيراً، لكن الليل داهمه عند سورها فاضطجع للنوم في باحة مسجد. وكانت بجوار المسجد دار، فشاءت حكمة الله أن تعبر المسجد عصابة لصوص وتدخل الدار. واستيقظ القوم النائمون بفعل جلبة اللصوص، واستغاثوا، وصرخ الجيران أيضاً إلى أن اتجه ضابط عسس تلك المنطقة هو رجاله إلى المكان، ففر اللصوص بجلودهم عبر السطح. أمر الضابط بتفتيش المسجد فعثر فيه على الرجل القادم من القاهرة، فأشبع ضرباً بهراوات الخيزران حتى كاد أن يهلك. بعد يومين، استعاد الرجل وعيه بالسجن، فاستدعاه الضابط وقال له: “من أنت ومن أي أرض جئت؟”. أعلن الآخر: “إنني من مدينة القاهرة الشهيرة، واسمي محمد المغربي”. سأله الضابط: “ماذا أتى بك إلى فارس؟”. فاختار الآخر جانب الصراحة وقال له: “أمرني رجل في المنام أن آتي إلى أصفهان، لأن بها ثروتي. أنا الآن في أصفهان وأرى أن الثروة التي وعدني بها قد تكون الضرب الذي أشبعتني إياه”. لم يتمالك الضابط نفسه، إزاء هذا الكلام، من الضحك حتى برزت أضراس رشده، ثم ختم قائلاً: “أيها الرجل الأخرق السريع التصديق، لقد حلمت ثلاث مرات بدار في مدينة القاهرة، في قاعها حديقة، وفي الحديقة ساعة شمسية، ووراء الساعة الشمسية تينة، ووراء التينة عين ماء، وتحت عين الماء كنز. بيد أني لم أصدّق هذه الأكذوبة. أما أنت، يا نسل نكاح الغفلة والشيطان لا ريب، فخرجت تائهاً من مدينة إلى مدينة، لا يدفعك إلا إيمانك بحلمك. لا أريد أن أراك بعد الآن في أصفهان. خذ هذه النقود وامض”. أخذ الرجل النقود، وعاد إلى وطنه. ومن تحت عين ماء حديقته أخرج الكنز الدفين. هكذا، باركه الله، وأجزاه، وأثنى عليه. إن الله كريم، لا تدركه الأبصار.

ألف ليلة وليلة، الليلة 351.

        حوّاء وشهرزاد والجازية الهلالية والجميلات النّائمات، مجرّد نساء مخدوعات في تاريخ كتبه الرّجال. تاريخ الخداع هذا لم يكتب بعد، وأحسب أنه من بين المواضيع الأهمّ التي يتوجّب على أحد أن يكتبه. تاريخ الألم كذلك، وتاريخ الخوف، وتاريخ الفشل. هناك مشاريع حاولت ذلك، لكنّها تكلّمت عن آلام مقطوعة عن قيعانها وجذورها، بلغة مقطوعة عن منابتها، وعن تراثاتها. كتب البعض عن الألم بذاكرة قصيرة، وبعلبة أدوات قديمة. ومثل تلك الكتابات كثيرة عن الخديعة أيضاً. نجد دائماً من يتكلمون عن ألم مقطوع عن جذوره، ألم غير موصول بمنابته، ألم بذاكرة ذبابة. هذه المشاريع لا أعلم من اهتمّ بها غير فوكو في حفرياته عن الجنون. أمّا تاريخ الخداع فلم يكتب بعد. اهتمّ الروائيون بالخسارات، ما كان منها شخصيّاً، وما كان عاماً شاملاً، ومنهم أومبرتو إيكو الذّي يدور جميع أدبه حول النّقص الكامن في الذّات البشرية. يقول: “ما من أدب حقيقيّ إلا ويدور حول الخاسرين”. والخداع سواء كان للغير أو للنفس، ما يزال كغيره من المواضيع المشابهة، بعيدا عن الدّرس الفلسفي.

شكلت الخديعة قوام السّرود الكبرى. فحكايات ألف ليلة وليلة مثلاً كلها خداعات صغيرة مضحكة شديدة المكر واللطف في آن، بها تتشكّل عوالم مدهشة، ويستقيم في الأذهان وعي مناقض للخداع، أخلاقوي، يدين كلّ ما هو قائم على الخديعة. لكنّ الخديعة هي من يصنع الجميل في الليالي. وفي الدّيكامرون نفس الشيء: المخادعات المتتالية والآلام والإساءات والمكر هو من يصنع الجميل، لكن الأخلاقوي والهادف يتدخّل بوعي، وبغير وعي، ليقول لنا إنّ الخديعة فعل مرذول، وإنّ ما هو أخلاقيّ هو الأفضل. والحقيقة أن وراء الخديعة فاعل كبير هو الشّيطان بمسمياته المتعدّدة، ووراء الشيطان يتخفّى الإله نفسه بمسمياته كلّها. ويطرح تعمّقنا في الخديعة تعمّقا آخر في ما وراءها. ذلك أنّ الشرّ فعل مواز للخير، يتناميان ويكبران معاً، مثل وجهين لعملة واحدة. أبطال الروايات شرّهم ساحر جميل، ومخادعاتهم ظريفة. يعرف سانشو بانثا أنّ سيّده الدّون مجرّد مخادع كبير، لكنّه يحبّ خداعه له، في الخداع يجد مكانته. تصنع هذه الخديعة عالماً كاملاً. يصبح سانشو والدّون رفيقا خداع متبادل، وبواسطتهما يتشكل نصّ يكتب الحقيقة: حقيقة البشر الذّين يطاردون الوهم. نتذكّر هنا جلجامش الذّي يصارع الكون، ويعرف أنه يخادع نفسه، لأنّه مجبول على الموت، مثله مثل أنكيدو. في نهاية الملحمة العبث هو الذّي ينتصر. جلجامش مجرّد بشري، لا يقدر على الخلود، لا لنفسه، ولا للبشري أنكيدو. الأفعى والرّحلات السّبع وساقية الحان والعشبة كلّها تلوينات لا حاجة لها، ولا يمكنها تغيير الحقيقة. الكون نفسه مبنيّ على الخداع، خداع الآخرين وخداع النّفس للاستمرار. الشّيطان فقط، لأنه خالد، يعرف كيف يؤلف خديعة خالدة. خديعة خالدة خير من خمسين حقيقة. تصبح الخدع والألاعيب، في طريق المعرفة، مجرّد أسباب. أليس العلم قائما على الافتراضات؟ والحياة نفسها ألسنا نبادلها أعمارنا بالرّماد؟ نعرف أنّا فانون، لكنّنا نعلي من شأن الافتراضات، نقول لأنفسنا: ما يموت ليس غير العرضيّ والهامشيّ، أمّا الجوهر، فحقّ لا يموت. نعرف أنّها كذبة صريحة، هكتور في نهاية الأمر مات، حقيقته هي موته. وتكثر في الميثولوجيا تلك الخدع المغوية، وتستمرّ في السّرد بأنواعه، وتتواصل في الفلسفة، ومن قبلها في الأديان. تصبح الخدائع فعلاً واعياً ودرباً لإنتاج الجميل والمخيّل.

في روايته ذائعة الصّيت الخيميائي التّي استلهمها باولو كويلهو من قصّة قصيرة لبورخيس، الذّي  اقتبسها بدوره من حكاية عرضيّة من الليلة 351، من كتاب ألف ليلة وليلة، اشتغل على ما هو  إنساني، وعمد مثل بورخيس إلى خدعة وجود كنز في مكان ما، وإن حافظ بورخيس تقريبا على الإطار السّردي نفسه الوارد في الليالي، فإنّ كويلهو جعل للحلم رحلة، وحقنها بسيناريوهات مثيرة، وشحنها بطاقة تأمّلية قفزت بها من مجرّد قصّ خرافيّ ممتع ملذّ إلى نصّ يستنطق روح الكون، ويبحث عن خلاصات تتعلّق بماهية الحقيقة وطبيعة الذّات البشرية، وانقدنا نحن معه في الخديعة رغم معرفتنا أنّه ما من كنز حقيقيّ، وأنّ للإنسان سرّ شخصيّ يحصّله فقط بالسّعي. وما يسمّيه كويلهو الأسطورة الشّخصية هو، في حقيقة الأمر، خدعة صغيرة للتهوين من شأن الفشل. هناك في الرواية، ذلّ وانكسارات عاتية وحظّ عائر وحبّ، وهناك أيضاً خطّ يخترق ما هو واقعي؛ خيط شفّاف يتراوح بين الرّمزيّ والصّوفي، يدرجه الكاتب ببراعة في لبوس تأمّلي وصفيّ، ويستثمر جميع ما تختزنه ذاكرة القارئ الأوروبيّ من متصوّرات حول الشّرق. “هناك حقيقة كبيرة في هذا العالم” تقول إحدى الشخصيات لسنتياغو: “أياً كنت، ومهما كان ما تفعله، فإنك عندما تريد شيئاً بإخلاص، تولد هذه الرغبة في روح العالم. تلك هي رسالتك على الأرض”. عبارات مصاغة بعناية، تعيد إنتاج خطابات التنصير التّي اجتاحت أغلب روايات باولو كويلهو.

هناك فيما هو حقيقي وصادق وجوهري خداع يصنع الجميل والمخيّل. نجد ذلك أيضا في رواية الشيخ والبحر، نعرف كلّنا أنّ مآل التّجربة هو الخسران، ولكنّ إرنست هيمنغواي يحملنا معه في رحلة سردية مدوّخة لنعود بهيكل عظمي لحوت يقطره مركب صغير متهالك نحو السّاحل في مغامرة توهم بالنصر، حيث لا نصر أبداً، بل هو الانسحاق والعدم. في المسخ أيضاً لكافكا، نرى الحقيقة، حقيقة الكائن، بعيداً عن الشكل المعروف، نراه في حقيقته، مسخاً، ولكن حتّى مع كافكا فإنّ هناك خديعة، تتزيّا بزيّ الغرائبيّة المكشوفة. فالممسوخ ليس غير بشريّ ممسوخ! والمسخ ليس شيئاً في أصل طبعه، بل هو أمر أراده له الروائي ليحقّر خلاله من شأن الذّات البشرية، ويكشف القيعان السّوداء لعالم يدّعي العقلانية والحرية وحقوق الإنسان والعلم. هناك في المسخ نزعة اغترابية فجائعيّة في مذاق مرثية. لو تمّ المسخ حقيقة، لصار وعي البطل وعي صرصار حقيقيّ، ولما تفطّن إليه العالم، أمّا وقد تحوّل، وحافظ على إحساسه الدفين بالحقارة، فإنّ الخديعة تظلّ وسيلة منتجة للجميل، وتبقى إحدى أكثر الوسائل التّي تخترق السّرود الكبرى.

هناك تراجم خاطئة، أو ناقصة، أو غير مكتملة، أو مخادعة، أو خائنة كما يقال، ولكنّها وجدت، واشتغلت في الثقافة العربيّة، وانتجت مجالاتها التصوّريّة، وأحدثت في العقل العربيّ مجالات للتّطوير، ودعت إلى التّحديث، من أهمّ هذه الترجمات تلك التّي قام بها أدونيس. تتشكّل في ظلّ خديعة التّرجمة ما يشبه الحقيقة الجديدة التّي هي ليست الحقيقة التّي للنصّ في أصل وضعه، وليست هي التّي للنصّ المهاجر إلى لغة أخرى. وينبري الذّهن القارئ إلى ابتناء خيارات جديدة خصّبتها الخدائع والخيانات، وتصبح لها سطوتها، ولها تأثيراتها، ولها جمالياتها، ولا تكتفي بالوجود، بل تشرع في العمل كآلة حصاد جديدة في حقل الشّوفان!

هنالك مخادعون كثر، وأغلبهم من أصدقائنا الكتّاب، ومن أصدقائنا الرّواة، ومن أصدقائنا أبطال السّرود، وما من لغة تخلو في أصل جوهرها من خدائع تستحقّ أن تدرس، وتحلّل، وينظر إليها بعيداً عن الأخلاق. أمّا الخاسرون، فهم القرّاء، وخسارتهم تتمثّل في وعيهم المتأخّر أنّه ما من حقيقة إلاّ وهي في جوهرها خيانة الخيانات.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.