تحولات المقام في ديوان سفر البوعزيزي للشاعر نصر سامي

0 932

الدكتورة: علية بيبية جامعة تبسة –الجزائر

تعريف المقام:

إن التعريف اللغوي المتفق عليه في المعاجم اللغوية للفظة المقام هو الموضع ،فالمقام مأخوذ  من مادة (قوم)«وهو موضع القدمين والمقام والمقامة الموضع الذي تقيم فيه والمقامة الإقامة والمقامة المجلس والجماعة من الناس ، وأما المقام والمقام فقد يكون كل واحد منهما يعني الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام وقوله تعالى”لا مقام لكم” الأحزاب آ13  أي لا موضع لكم  وقوله تعالى”وحسنت مستقرا ومقاما” الفرقان آ 76 أي موضعا، وقيل المقام الكريم هو المنبر وقيل المنزلة الحسنة ،ويقال أقام بالمكان إقامة ومقاما أي لبث وأقام الشيء أدامه وذلك في قوله تعالى”ويقيمون الصلاة” البقرة آ3 »(1)

من خلال هذا التعريف المعجمي يتبين لنا أن المقام يتوزع على ثلاث أبعاد «الثبات المكاني والثبات الزماني ووضوح المنزلة»(2).

والملاحظ أن مصطلح المقام يتداخل بشكل مكثف مع مصطلح مقتضى الحال في الفكر البلاغي القديم وسياق الموقف في الفكر اللغوي الحديث.

أما مقتضى الحال فهو مصطلح يندرج تحت مصطلح المقام وقد استعمله البلاغيون لتعريف البلاغة وهو مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته.

وتعود البدايات الأولى لفكرة مقتضى الحال إلى بشر بن المعتمر حيث كانت هذه الفكرة محورا أساسيا في صحيفته حيث قال «والمعنى ليس بشرف بأن يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال» (3)

  ويدل سياق هذا النص على أن فكرة مقتضى الحال، إنما جاءت في إطار التنظير لبلاغة الخطابة، إذ أن كلام بشر موجه إلى ابراهيم بن جبلة الخطيب وهو يعلم الصبيان الخطابة، ويفهم من كلامه أن المقام الواجب مراعاته هو مقام  المخاطب من حيث طبقته الخاصة أو العامة، وأن هذه المراعاة تكون في المعاني التي تتناولها الخطبة، فلكل من الخاصة والعامة معان يخاطبون بها أو فيها، لذا ينبغي على المتكلم «أن يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما،  ولكل حالة من ذلك مقاما حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني وتقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات»(4).

   وفي حديث آخر عن مقتضى الحال يقول الخطيب القزويني: «مقتضى الحال مختلف فإن مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ومقام التقديم يباين مقام التأخير ومقام الذكر يباين مقام الحذف، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام»(5)

   يفهم من نص الخطيب أن حالات المتكلمين تختلف باختلاف ظروفهم الاجتماعية والنفسية وهو هنا يميز بين ثلاثة أنواع من المقامات والأحوال:

-أولهما ما يتصل بالمعنى أو بجزئيات المعنى على مستوى الجملة

-ثانيها ما يتصل بطبيعة الشخص المخاطب أو المخاطبين من خصائص وسمات نفسية ذاتية كالذكاء والغباء أو عرضية كالإنكار وخلو الذهن

-ثالثها ما ينشأ عن تفاعل المتكلم في الجملة من علاقات وآثار يخلفها السياق أو التركيب ولا تكون للكلم وهي مفردة(6)

ويقول السكاكي: «لا يخفى عليك أن مقامات الكلام متفاوتة فمقام التشكر يباين مقام الشكاية، ومقام التهنئة يباين مقام التعزية ومقام المدح يباين مقام الهزل وكذا مقام الكلام ابتداء يغاير مقام الكلام بناء على الاستخبار والإنكار ومقام البناء على السؤال يغاير مقام الثناء على الإنكار وكذا مقام الكلام مع الذكي يباين مقام الكلام مع الغبي ولكل من ذلك مقتضى غير مقتضى الآخر»(7).

   من خلال هذين النصين يتبين لنا أن مقتضى الحال يختص بصفة معينة للقول «فالعرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه كما أنها تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال، فالحاصل أن العموم إنما يغير بالاستعمال ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان»(8).

فالاستعمال هنا وضع اللفظ العام في السياق، ووجوه الاستعمال تضبطها معطيات الأحوال ويقول التهانوي في شأن الحال «والحال في اصطلاح أهل المعاني هو الأمر الداعي إلى المتكلم على وجه مخصوص أي الداعي إلى أن يعتبر مع الكلام الذي يؤدي به أصل المعنى خصوصية ما هي المسماة مقتضى الحال وعلى هذا النحو قولهم علم المعاني علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال»(9)

والملاحظ أن اهتمام أهل المعاني كان منصبا على أحوال المتكلم والمستمع، ذلك أن الألفاظ هي محور العملية التواصلية بينهما، فالكلام مرتبط بمقام استعماله ومراعاة مقتضى حاله.

سياق الموقف:

أما سياق الموقف فهو الإطار الخارجي الذي يحيط بالإنتاج الفعلي للكلام في المجتمع اللغوي، ويمثل سياق الموقف كل ما يقوله المشاركون في جملة الكلام وما يسلكونه، كما يشكل الخلفية الثقافية بما يتضمنه من سياقات خبرات المشاركين (10)

من خلال هذه التداخلات يتبين أن المقام عند القدماء يشترك مع سياق الموقف عند علماء اللغة المحدثين من حيث عناصر العملية التواصلية التي لا تكتمل إلا بعد أن تجسد المقولة في موقف معين أي بعد أن تخرج من خانة الوجود الوصفي إلى حيز الوجود الاستعمالي ومن ثم يتم تكوين سياقات بشكل دائم بواسطة النصوص التي يستخدمها المتحدثون والكتاب في مواقف معينة.

ومنطلقنا في دراسة ديوان شعر البوعزيزي هو تجسيد من خلال المقام الذي نقصد به «الوضعية الملموسة التي أجري فيها الخطاب وأنتج وهي وضعية تضم زمان القول ومكانه وهوية المتخاطبين، وكل ما يحتاج إلى معرفته لفهم القول وحسن تقديره»(11).

العنوان: مفتاح النص:

يمثل هذا الديوان رحلة استشرافية إلى الأفق جمعت تحت ظلال العنوان “سفر البوعزيزي” والعنوان هو نظام سيميائي تتضافر فيه مجموعة من العلامات وهو يمثل النص بأكمله وهو المفتاح الذي تلج به إلى عالم النص.

ويشكل العنوان «مرتكزا دلاليا يجب أن ينتبه عليه فعل التلقي بوصفه أعلى سلطة تلق ممكنة ولتميزه بأعلى اقتصاد لغوي ممكن ولاكتنازه بعلاقات إحالية مقصدية حرة إلى العالم وإلى النص وإلى المرسل»(12)، كما أن العنوان يشكل «نقطة مركزية أو لحظة تأسيس بكر يتم بها العبور إلى النص»(13)

والعنوان الذي اختاره الشاعر سامي نصر “سفر البوعزيزي “يعتبر مركز التأسيس لعالم يريد أن يسري به عن طريق مشاهد مختلفة، والعنوان في بنيته التركيبية هو جملة اسمية، والاسم لا يقترن بزمان، وإنما يدل على الثبوت والسفر هو بداية الرحلة نحو الذكرى، الحلم، القصيدة، الوجع، الرغبة.

وشخصية البوعزيزي الموظفة كواقع وقناع وستار هي كشف وجه آخر للمعاناة ورفيق للذات سفرها، كما تمثل كلمة “سفر” بالكسر ديوانا يصب فيه الشاعر كل الطموحات والآمال والآهات والانكسارات التي ولدت في رحم المجتمع.

والسفر من مادة “سفر”«وسفر البيت سفره كنسه وسفرت المرأة وجهها إذا كشفت النقاب عن وجهها، والسفر بالكسر الكتاب و قيل هو الكتاب الكبير»(14).

فالعنوان إذن يرتبط بدلالة سياقية تمثلت في الكشف عن الغموض والإبهام، السفر هنا هو التصريح بما كان وما لم يكن وما سيكون، السفر هنا يمثل كل أشكال البوح ونبذ المكبوت.

وقد جاء المقام هنا بأن العنوان مستلهم من شخصية وظفها الشاعر كرمز وطني ثوري حارب هذا المكبوت، ورفض الواقع المر، والبوعزيزي في هذا السياق هو قناع وهو في الوقت نفسه يمثل الكشف والتجلي ومحو كل أشكال الغياب من على وجه الأرض وعلى ذلك تظهر لنا مقامات عدة تصور حال المخاطب والرسالة وحال الزمان والمكان من خلال الوصول إلى الحقيقة وكشف النقاب عن المستور وهذه المقامات هي:

  • مقام الوصول إلى الحلم: حال المتكلم:

إذا تتبعنا كلمة حلم في معاجم اللغة نجدها دالة على ما يراه النائم من جهة وعلى إدراك سن البلوغ من جهة أخرى وعلى معان متعددة كثيرة يقتضيها التركيب والسياق، فالحلم «مصدر حلم والجمع أحلام والحلم ما يراه النائم في نومه، ونقول أضغاث أحلام أي ما كان ملتبسا مضطربا يصعب تأويله والحلم ما يبدو بعيدا عن الواقع وذهب أحلامه أدراج الرياح فشل في تحقيق شيء منها فكانت بلا طائل، وحلم اليقظة تأمل خيالي واسترسال في رؤى أثناء اليقظة»(15).

اما الحلم في التحليل النفسي «هو نشاط ذهني تفكيري يحدث استجابة لمنبه أو دافع ما وهو عبارة عن سلسلة من الصور أو الأفكار أو الانفعالات التي تمتثل لفعل المرء أثناء النوم، وقد وصف بعضهم الأحلام بأنها مسرحيات تحدث في الذهن وتور بعض الجوانب اللاشعورية من حياة النائم والدوافع أو المثيرات التي تثير الأحلام بعضها سيكولوجي مثل الرغبات العدوانية والتي تكبت في الوعي»(16).

كما يعرف أيضا بأنه «نشاط ذهني يحدث أثناء النوم ويرى فيه الإنسان وهو نائم صورا وأحداثا مختلفة ويقوم فيها بأفعال ونشاطات كثيرة قد يتذكر بعضها عند النهوض، وقد ينسى بعضها الآخر، والفرق بين الرؤيا والحلم أن للرؤى واقعا محسوسا بينما يبقى الحلم في دائرة الخيالات والصور التي يراها الإنسان في منامه»(17).

أما الحلم عند الشاعر هو طموح نحو تغيير الواقع ورسم البديل ويتجلى ذلك في مجموعة من القصائد التي نحاول أن نكشف الستار عنها حيث يمثل مشهد حال المخاطب الشاعر في صور واقع يريد به الوصول إلى عالم مثالي يقرره الشاعر، يريد أن يكسر القيود ويمتطي صهوة المستقبل ويصنع عالما مركزيا يحقق فيه وجوده وذاته الضائعة، وأولى قصائده في هذا السياق قصيدة “لدينا حلم” فعند قراءتنا لهذا العنوان يتبين لنا حال المخاطب بأنه يريد صنع حلمه ،ولكن هناك مسارات معقدة وطرق متشعبة للوصول، وقصيدة” لدينا حلم “هو عنوان اختاره الشاعر المخاطب ليترك للقارئ رسالة موضوعها الحلم ذاته ،هذا الحلم الذي ينكسر في ظل المأساة التي يعانيها الشاعر وكأن بهذا الحلم قد مزج بين حاله التي هو عليها وبين ما يبحث عنه.

وكما سبق وأن ذكرنا أن العنوان مفتاح النص وأول ما تطالعه في هذه القصيدة المدورة هو العنوان “لدينا حلم” وهو في بنيته تركيب إضافي متقدم متكون من ظرف المكان “لدى” التي يبحث من خلالها الشاعر عن المكان الأنسب للتعبير، يريد أن يصل إلى مركز الحلم، وهو بالنسبة إليه مجهول الهوية، فقد جاء على صيغة التنكير لا التعريف الأمر الذي يحيلنا إلى التساؤل هل يتحقق أم لا أو بصيغة أخرى أهو موجود في قاموس الواقع أم لا.

والمخاطب الشاعر يخاطب بنون الجماعة والحلم في العنوان هو طريق إلى الشك هل ستتحقق أماني الشاعر أم يبقى الحلم هو المأساة ذاتها وهو بذلك لا يدري أيتحقق أم لا لذلك فهو يرحل إلى عالم المجهول ليتوحد به.

ينتقل الشاعر بعدها لبيان حال هذا العالم الذي ينغمس فيه يقول:

“أمري كان لي في ما مضى والآن لا أدري”(18)

هذا هو المنطلق الذي انطلق منه، لقد انتقل من الزمن الماضي وكل الصيغ دالة على ذلك، فعل الكينونة وفعل المضي وكأن الماضي بالنسبة إليه هو الحلم ذاته.

ثم يسترسل الشاعر صوره المهزومة من رحم واقعه فيقول:

“والآن لا أدري أبي قلق من الطغيان أم هل أن بي ما يعجز الدنيا وذاكرة الزمان بحاله؟ (19).

فهذا المقطع يمثل قفزة من الماضي إلى اللحظة الآنية، فحاله الآن تجسد وقوفه ودورانه في دوامة من الضغوطات والمكبوتات، إنه يقف مصدوما تحف به القيود من كل حدب وصوب، يتربص به الطغيان الذي يحمل كل معاني القوة والقهر والذل وحتى الجهل، هذا المقطع يحيل إلى الاستعباد وكبت النفس هذا من جهة ومن جهة أخرى يحيل هذا المقطع إلى حال العجز الذي اعترى دنياه التي انمحت من الذاكرة وتلك الذاكرة هي الحلم الذي يريد أن يتحقق.

وتأخذنا القصيدة إلى مشهد يكاد يكون قرارا للتحقيق وعزما على التغيير ليعلن في مقطع آخر عن بصيص من الأمل، وكأن بهذه البداية المشرقة هي حسم واستراحة في الآن نفسه لتقرير مصيره، يقول في ذلك:

“أدري بأني لا أرى لكن ماء الرفض ينبع من خلال أصابعي ودم السؤال ينز من قلبي”(20).

إن المخاطب الشاعر يخلق في هذه الصورة حركة تدب فيها الحياة والروح من خلال عبارة “ماء الرفض” الماء هو رمز الصفاء والنقاء وهو بنقائه وصفائه يرفض كل ما يعكر هذا الصفاء وذلك النقاء، الماء يرفض الجفاف والقحل، يحي كل ماهو يابس وهزيل وحيث يوجد الماء توجد الحياة وبالتالي يوجد الحلم كله.

فالشاعر من خلال الأصابع التي قد تكون علامة على الرفض أو الإبداع بالقصيدة التي هي الرد اللاذع على الطغيان، الأصابع تمثل جزء من الكل ـتريد أن تصنع الحياة وتفجر كل بركان جامد، فهذه الدلالات تحمل أبعادا كثيرة بحكم أنها متجذرة في الذكريات وفي الحركات التي توقظ ذاكرة الحلم.

وتكشف تجربة الشاعر في البحث عن الحلم أبعادا أخرى يتصورها الشاعر ويتساءل عنها هذه التساؤلات لا تمثل سوى سراب وأوجاع وحروب يقول في ذلك “أمري كان لي والآن لا أدري أهذا الموت خاتمة المطاف، أهذي الحرب روح خطافة عمياء طافت حول قلب الأرض كي تعطي سلام الخطف في تطوافه”(21).

فهذا الوطن يحترق كما يحترق قلب الشاعر، الوطن بالنسبة إليه يمثل الحلم، هو النور الذي ينير الدروب، يخاطب ويعود إلى حضن الماضي لعله يجد متنفسا لحلمه إذ يقول:”فيما مضى كانت شمعتنا يدان وأذرع حبلى بأثمار المنى والنحل كان له رؤى، وكان ديوان الصبا في كل رفة طائر في الماضي الأرض كانت للجميع لنا لهم ولغيرنا من كائنات الأرض”(22)

وتقديم الجار والمجرور وطول المقاطع الصوتية تنم عن روح جعلت الماضي منقذا لها للوصول إلى الحلم، لقد وجد الشاعر في الماضي الأمن والسكينة والحياة والعودة إلى الوطن الأم والأرض المعطاءة كل ذلك من آماله، وهكذا هو حال الشعر المعاصر «إنه شعر تتعانق فيه المأساة مع حب الوطن لأن الشعر المعاصر دواء للاغتراب وهروب إلى حيث النجاة.

أما في قصيدة مسيح الليل فهي طريقة أخرى وتصوير آخر للحلم وهذه المرة بطريق الإيحاء حيث الصمت والسكينة حيث القلوب تكشف عن كربها وضيقها.

مسيح الليل هو عنوان أراده المخاطب ليصور أنسه في وحدته حيث تبحر الأنفاس في عالم الوحي والملكوت.

وهذه القصيدة تمثل نصا شعريا مفعما بالدلالات النفسية التي تصور حاله التي تتنوع من مقام إلى مقام،هذه القصيدة تمثل الليل بأكمله وما يتصف به من هدوء وسكينة وأمان من جهة ، وما يحمله من ظلمة ووحشة من جهة ثانية،والأهم من كل ذلك ما يحمله الرمز الديني الذي يتناص معه الشاعر ويختبئ الشاعر تحت ظلاله ،فهو دليل النبوءة والمناجاة وفي ظل المناجاة تتحقق البشرى،وهي الوصول إلى الحلم كما يصبوا إليه الشاعر وقد تحدث هذه الإرهاصات في قول الشاعر: “في برد العالم أحلم أني قطرة ضوء أسقطها حضنك في الأكوان وأني أترقرق في الظلماء بروقا ونثارة أنوار، أحلم أني فردوس يتفجر، قمر أخضر، فكر ترعرع في الظلماء وتكبر، احلم أني أتوغل في أعماق الكون وأنثر قمحي في أحضان التربة”(23).

فالمتأمل للفظة “برد” يجد معناها يدور في سياقات أربعة البرد خلاف الحر والسكون والثبوت والحركة ومقام الشاعر هنا يتراوح بين سكون وحركة معنى ذلك أنه بين متضادين فمن جهة يستغل ذلك السكون المتمثل في التأمل وانتظار لحظة البشرى، يبحث عن قطرة ضوء والقطرة علامة للحياة والحركة، كما يدل الضوء على التجلي والوضوح وهذا تحد للظلمة التي يتحداها الشاعر ليصل إلى المكشوف ويصل إلى لحظة الوعي.

وقد وظف الشاعر كل معاني البسط والرخاء بوصوله إلى المكان وهو الفردوس والفردوس هو البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين ومن معانيه أيضا الوادي الخصب.

وفي مقطع آخر يقول: “أحلم أني أتوغل في أعماق الكون وأنثر قمحي في أحضان التربة”(24)،  فالتوغل هو الولوج في العمق إلى داخل الشيء وكأن الشاعر يحتضن هذا الكون لأنه يريد ان يغير، وله شعلة يريد أن ينهض بها ويطهر هذا الكون من القيود، وهذا ما توحي به ألفاظ مثل أنوار، قمر فهي بداية للكشف والتجلي الواقعي والفكري،فالحلم في هذا المقام في برد العالم هو دفع المسار إلى الأمام.

ويستمر الحلم نحو الأفق البعيد حيث يقول: “وفي برد العالم أحلم أن قصيدي شمس حبلى بالكلمات، شمس نهايات قلبي، أحلم أني نهر قداسات يتدافع فيه الناس إلى غايات المطلق، أحلم أني زورق أفكار حمله الليل خطاياه وأطلقه نهر الكون الدافق”(25).

إن هذه الصور تكتسي بدلالتها النفسية الوجه الآخر لواقع يريد أن يتغير “في برد هذا العالم “تكون القصيدة هي المفصل في تلاقي الأحداث في السمو إلى المعالي، إلى حيث تخترق اللغة كل الحدود وتتحول بذلك القصيدة إلى إعادة بناء ذلك العالم الذي تحول إلى ذلك النهر الواسع الذي يفجر الطاقات الكامنة في نفوس البشر.

وخلاصة ما سبق أن الحلم الذي عاشه الشاعر هو الحلم الذي يمثل حال المخاطب الذي يريد حياة جديدة وعهدا جديدا يسلك من خلاله طريقين طريق العودة إلى الماضي الجميل وطريق السير إلى المستقبل البديل.

2-مقام الذكرى: الرسالة:

تمثل الرسالة أحد عناصر عملية الاتصال وهي المحتوى والموضوع المراد إيصاله إلى المتلقي، وتختلف نوعها من حيث الموضوع والرسالة هي «مادة التواصل مؤلفة من مضمون الأخبار المنقولة أي من الصور الفكرية المنقولة عن الواقع أو المرجع المادي، وهي متوالية من الإشارات تنتمي لقواعد تأليف مضبوطة يبعثها مرسل إلى مستقبل بواسطة قناة» (26)، وتتخذ الرسالة شروطا عدة حتى تحقق نجاحها وتؤثر في المتلقي ومن هذه الشروط:

1-تصميم الرسالة: وذلك حتى تجذب انتباه المنبه وذلك بمراعاة تلاؤم موضوع الرسالة مع حاجة المستقبل إلى الرسالة وتحقيق إشباع لدى المستقبل.

2-التلاؤم بين المستقبل ومضمون الرسالة حيث يجب أن تحمل رموزا ولغة يفهمها المستقبل مع مراعاة المعاني المتعددة التي قد تحملها لفظة واحدة، فالرموز تثير معان معينة عند المرسل ويجب التأكد من أنها المعاني نفسها عند الستقبل (27).

ومن بين القصائد التي اخترناها لتكون موضوع رسالة يرسلها الشاعر إلى المتلقي ويؤثر فيها، ويكون بذلك قد أداها له سواء أكانت وصية أو عبرة أو غيرها قصيدة “تذكرت البداية” التي يقول فيها:

أمد الكون في ألفي ويائي

وأبسطه وأحقنه دمائي

وأشربه بلا مزج

قراحا

شراب الضوء يشرب دون ماء

وأدعو أن يصار إلى قصيدي

فيشرب

أو يعلق في البهاء

أدير الكأس لا أدري لماذا؟

أدير الضوء أحسبه سمائي

نجومي فيه أحبابي

وقلبي

يضيء

يضيء حتى الامتلاء(28)

فالعنوان في بدايته هو لحظة استرجاع وتذكر، فالشاعر يؤكد ذلك بزمن الماضي ولكن الذكرى التي يذكرها ما هي إلا ملمح لبداية الرسالة، وهذه الرسالة هي وصية أو لنقل سفر خصوصا وأنه يمثل تذكارا متوحدا للبوعزيزي الذي انتقل من حال إلى حال.

تبدأ القصيدة بحركية مستمرة للفعل “أمد” وهو من العطاء وهذا العطاء بمثابة الرسالة التي يمليها الشاعر على مسامع المتلقي لينقله إلى ذلك العالم البديل، وكأن القارئ هنا هو من سيصنعه، وهذه الرسالة هي قرارات تحمل شحنات شعورية عاطفية تنم عن واقع بديل سيكون على يد الشاعر.

فقراءة هذا الكون وعبوره يستلزم من الشاعر الوقوف عند البداية وصولا إلى آخر المطاف “أمد الكون في ألفي ويائي” وإلى النهاية، وبين البداية والنهاية وقفات وفواصل كثيرة يجتازها في هذه الرسالة.

وتحمل كلمة أمد هنا معنيان العطاء والمداد، والأول أراه أقرب إلى رسالة الشاعر، ولو تأملنا التقفية الداخلية نجدها في بنيتها الصوتية غلبة صوت الهمزة وهي من الأصوات المجهورة الشديدة التي ينحبس الهواء عند النطق بها وذلك في كلمات مثل أمد، ضوء، أدعو، أدير وبالمقابل نجد في تركيبتها الصرفية مورفيما دالا على المتكلم وهو ما يشير إلى الملكية، وهذا يعني قوة روح الشاعر الذي يفرض نفسه من خلال هذا العطاء، فالقصيدة إذن تنبئ عن روح ذات همة واستعلاء تبحث عن الحرية وتأبى الخضوع والاستعباد.

أما في المقطع الموالي “أدير الكأس لا أدري لماذا؟”فقد اشتمل على جملة استفهامية يصر فيها الشاعر على مد يد العطاء ويصير القرار قراره، وارتباط الضوء بالماء يخرج الشاعر من عالم العسر إلى عالم اليسر، ومن مقام الكبت إلى مقام البوح، هذا البوح هو القصائد التي تقود ربوع العالم هو الرسالة التي تستمد من رحم تلك الذكرى التي بدأ منها مسيرته.

ويقول الشاعر في مقطعه الأخير:

تذكرت البداية يوم كنا

معا من قبل ميلاد الضياء

أسقي ريقها للفجر ماء

وتظمأ مرتين لغير ماء

ويرشوني ويمنحني غيوما

لأسعده وأمنحه شتائي(29)

فالشاعر يعود بنا إلى البداية وهو في لحظة استحضار الصور المفعمة بالحركة، الشاعر يحتضن الوطن مرة أخرى، والوطن هو الأرض، الشاعر والأرض توأمان لا يفترقان، يعيشان على أمل قبل الميلاد وبعد الميلاد، الشاعر ينتقل بنا في هذه الذكرى إلى جو روحاني يمتزج فيه الحب والطهر والقداسة، والشاعر ينغمس في هذه القضية، إنه يحركها بحركة الماء المتدفق الجاري، فالرسالة في الأخير هي أخذ وعطاء بين الجانب الداكن خلف الأفق، وبين الشتاء المفعم بالحياة.

ومن بين الرسائل التي تجعل للذكرى مرفئا تركن إليه وتحيلنا إلى الارتباط والانغماس فيها قصيدة “الجميلة لا تموت”، والرسالة في هذه القصيدة هي الأنا، هي الجميلة التي تفرض نفسها وكأن بها تكتب وصية تبين في دلالتها تغلغلها في أرض الحرية.

فالجميلة والحياة سيان والجميلة التي لا تموت توحي بذلك القمع لكل أنواع الذل والهوان وعشق للامتداد والتجذر في التاريخ. وقد بدأت القصيدة بجملة تقريرية ولسان حاله ضمير المتكلم “أنا” فلسان حالها يقول: أنا لم أمت فأنا الجميلة والجميلة لا تموت فهذا المقطع يشكل فكرة مركزية تعقبها نتيجة حتمية، فالنفي القاطع للموت يستلزم سببا وهو الجمال وهذا الجمال السامي لا يموت ولا يندثر، والجمال يمثل حقلا لكل الصفات الإيجابية، إنه لا يقتصر على الشكل فقط، وإنما يضم ذاتا ووطنا وأرضا ممتدة جذورها في أعماق التاريخ.

والجميلة تمثل امتدادا لكل ماهو طبيعي غير مصنع وتجسده تلك الأمطار التي تمثل نبض الحياة وتلك البيوت الآمنة الساكنة، وتلك الطيور التي تنشد الحرية، إن هذا الجمال هو تحد صارم ضد الهزيمة.

“إن الجميلة لم تمت ولكنها تصلي لأولئك الذين ماتوا من أجل الأرض تقول في ذلك”لم أمت قلبي يصلي دائما من أجل من ماتوا أو لم يتذكروا الأحباب، أما الأصدقاء فهاهم يحمون سكين الصداقة كي يروا أعماقنا حمراء مثل جراحنا”

فجملة لم تمت هي تجسيد قطعي وموقف صارم ومؤكد، كما توحي بجو مشحون من آثار حرب دمرت الفكر والعقل وليس الجراح فحسب.

وخلاصة القول إن القصيدة تفرض نفسها في البوح بالذكرى، وما الذكرى إلا تهافت نحو الماضي والتفات إلى المستقبل، الذكرى هي وصية القناع البوعزيزي الذي يثور من أجل الحرية.

3-مقام السمو والرغبة: دلالات المكان

إن هذا المقام يتعلق بالمكان الذي يرغب الشاعر من خلاله الوصول إلى مرفأ الأمان وبعث الحياة من جديد بعد السكون الذي اعتراها في ظل الأزمات الفكرية والنفسية.

والسمو «هو العلو والرفعة وصاحب السمو هو كل أمير وسما الطائر علا وارتفع في السماء» (30)، أما الرغبة فهي «الحاجة ورغب الشيء أراده وحرص عليه وطمع فيه»(31).

ومن بين القصائد التي تمثل المقام قصيدة “أقسم جسمي في جسوم كثيرة” وهذه القصيدة تتنوع بمجموعة من المشاهد والمقاطع التي تتولد وتتنامى لتشكل الرغبة التي يفجرها الشاعر في قصائده.

والشاعر بدأها بكلمة “المستحيل” التي تمثل عنوانا يفتح آفاقه لتوليد معان كثيرة والتركيز أكثر على الرغبة سيغيره حتما من حال إلى حال، فالشاعر يرغب ويسموا ويرتقي في عالم كله ضياع، يحاول أن يرسخ ذلك المستحيل الذي يترك أثره في كل مكان حتى يستولي على هذا الكون.

 والملاحظ في هذا المشهد أن رغبة الشاعر في التعبير كانت عن طريق أماكن اختارها الشاعر لتكون مرتعا لهذه الرغبة، وبالتالي يحقق هدفه الذي هو الوصول إلى السمو ويقتضي ذلك أن يتحول ويقول في هذا الشأن”أنا الذي علمته أن يستحيل”فالاستحالة هنا هي التغيير ذاته وأن يجول الشاعر كمصدر للثورة على جميع الأمكنة،وهو بذلك يحقق ذاته عن طريق الأنا ،وقطرة من دم الشاعر تبعث الحياة وتتمثل الإرهاصة الأولى للتحول في  قوله “أستصحب الغابات وسط غنائها”، والغابة تمثل المكان الذي ينطلق منه الشاعر للتغيير، وهو مكان يمثل تلك العلاقة العاطفية المترابطة في وجود الشاعر،بالرغم من أنها تمثل الوحشة والخوف ،ولكنها عند الشاعر تمثل الظلال التي يستظل بها وتمثل التحول، إنها تسير جنبا إلى جنب مع الشاعر، وهي المكان الذي يتحول إلى إبداع للشعراء، والغابة هي ذلك المكان الطبيعي الذي لا دخل للإنسان في وجوده كالجبال والبحار والأودية والسهول.

ويمثل” الكاف” مكانا آخر للتحول عندما يقول: امتد في الكاف التي في فكرتي ضوء”.

فالكاف الذي يمثل الظلمة يتحول إلى نور يتلألأ، الشاعر يقرن اسمه بالضوء والضوء نور، إذن فهو يمثل شعلة للتغيير وهذه أعلى مراتب السمو والرغبة.

وينتقل بنا الشاعر في مشهد آخر في جسوم هذه القصيدة إذ يقول:

ماذا أريد من الدنى؟

مجدا وبي قلق الدهور يقيم في أرجائي

أسري وأعرج لا أرى إلا صدى لهبي

يمهد بالرؤى صحرائي

هل كنت وحدي والعواصف في دمي

أستيقظ الأسلاف تحت ردائي

وأعيد تشكيل الحقيقة كلها(32)

يصور لنا هذا المشهد سؤال الشاعر عن حاله، إنه لا يريد أن يغير ولا يريد أن يصنع المستحيل وهو في حالة فزع وقلق، إنه يعيد تشكيل الحقيقة التي تقابل الواقع المر ليأتي بتلك الشعلة من الأمل وهذا في أغلب قصائده حيث يقول:

ما ممكن إلا ومني ماؤه

وغصونه الخضراء تحت سمائي

أبني بيوتا في الظلام وأنهرا

وأدق في جسد الهواء هوائي(33).

لاحظ معي أيها القارئ كيف يعيد الشاعر بناء المكان الصحراء ذات اللهيب تتحول إلى مساحات خضراء تعج بالحياة، فالكاف الذي كان مثلا للوحشة والخوف، يصير بيتا للسكينة والأمان والطمأنينة، البيت هو الجسد المادي المشحون بالروح وهو عالم الشاعر الأول والأخير.

وخلاصة القول إن الشاعر يصنع الإرادة من خلال تحقيق الرغبة والسمو وما دلالة المكان إلا منطقة عبور لتحقيق هذا الهدف الأسمى وهو تحقيق المستحيل.

ويمكن أن نستخلص من هذه الدراسة أن المقام هو الظروف المناسبة الملائمة للقول وهو ما يقابل سياق الموقف عند المحدثين، كما تمثل قصائد الشاعر التونسي سامي نصر في هذا الديوان تحديا للواقع، لذلك فقد تنوعت مقاماتها بين الحلم الذي يحوله الشاعر إلى واقع بديل وبين الرغبة التي يسموا بها إلى المعالي، وبين جماليات المكان التي يألفها ويريد أن يحولها أمكنة يسودها الأمن والأمان.

الهوامش والإحالات:

(1)ابن منظور:لسان العرب،دار صادر بيروت،ط1،1992 ،مادة (ق و م)

(2)محمد بن عباد:المقام في الأدب العربي،كلية الآداب ، صفاقس،ط1،2004 ص12

(3)جميل عبد المجيد البلاغة والاتصال،دار غريب القاهرة،ط1 ،2000 ص21

(4)الخطيب القزويني:شروح التلخيص،دار الكتب العلمية،دط ،دت، ص 155

(5)المرجع نفسه ص156

(6)ينظر ابراهيم محمد عبد الله خولي:مقتضى الحال بين البلاغة العربية والنقد الحديث،دار البصائر القاهرة،ط 1 ،2007 ،ص494

(7)السكاكي:مفتاح العلوم ،تح عبد الحميد هنداوي،دار الكتب العلمية،بيروت،ط1 ،2000 ص 256

(8)نجم الدين قادر كريم: نظرية السياق دراسة أصولية،دار الكتب العلمية بيروت،ط1 ،2006 ،ص 47

(9)التهانوي :كشاف اصطلاحات الفنون، ج1 ،ص 616

(10) محمد يونس علي :وصف اللغة العربية دلاليا،منشورات جامعة الفاتح ،ليبيا،دط،دت ص 102

(11)ينظر محمد بن عباد:المقام في الأدب العربي ص 28

(12)بسام فطوس:سيمياء العنوان،وزارة الثقافة،مصر ،دط ،دت ص39

(13)المرجع نفسه ص 39

(14) ابن منظور :لسان العرب ج 7 مادة س ف ر

(15)المرجع نفسه ج 5 مادة ح ل م

(16) منتديات تايمزWWW STARTIMES :COM

(17)سميح الزين:معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة،دار الكتب العلمية بيروت ط1ـ2005 ج2 ،ص213

(18)سامي نصر:سفر البوعزيزي ص 35

(19) المصدر نفسه ص 35

(20)المصدر نفسه ص 35

(21) المصدر نفسه ص35

(22) المصدر نفسه ص 36

(23)المصدر نفسه ص 36

(24)المصدر نفسه ص 65

(25) المصدر نفسه ص 65

(26)المصدر نفسه ص 65

(27)رايص نور الدين:نظرية التواصل في اللسانيات الحديثة،مطبعة سايس فاس،ط1 2007 ،ص308

(28)عبد العزيز خواجة: أنماط العلاقات الاجتماعية في النص القرآني،دار صفحات للدراسات والنشر،ط1 ،2007 ص 106 -107

(29) سامي نصر :سفر البوعزيزي ص 17

(30) ابن منظور :لسان العرب مادة (سما)

(31) المرجع نفسه مادة (ر غ ب)

(32) سامي نصر :سفر البوعزيزي ص27

(33) المصدر نفسه ص 27

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.