تشظي الذات في رواية ” سماء صالحة للرقص” لناصر قواسمي

0 814

لمياء القفصي – تونس

“الرواية الجيدة هي تكثيف شامل للروح الإنساني، أي للقيمة، بما هي لُباب الوجود أو نسغه الداخلي؛ بل بما هي نداء يحضُّ الإنسان على أن يجعل لحياته معنًى”*، وها أنت تلبي النداء طواعية دون تردد أو إكراه؛ لتعلو إلى أعلى مستويات الفهم والإدراك للذات والحياة في عمل فني بديع، جمع بين جاذبية الأدب الروائي وأركيولوجيا الفكر الفلسفي. يغوص عميقًا في خلجات النفس البشرية وفي بحث الإنسان عن معنى للذات، التي “هي الوعي والإدراك الحسي الذي يتكون من البحث للأسباب الأولى لوجود الأشياء” كما يرى سقراط، ومعنى للحياة المتثمل في “تحقيق أعلى شكل من أشكال المعرفة” عند أفلاطون.

 ولأن الفكر غير كامل وغير نهائي، والمعرفة غير محدودة، قد يكون السبيل إليها الشك كما يرى ديكارت باعتبار “الشك طريق إلى اليقين”. وقفت حائرة عند “نافذة صغيرة” يراودني الشك الديكارتي. ما جنس هذا الكتاب؟ أي طابع فلسفي أعطاه الكاتب لعمله؟ شكّ شرّع الباب وفتحه على مصراعيه لريح عصفت بذهني. فمن طبائع الريح على حد قول القواسمي “تدفع الباب بكل صلف… تدخل هوجاء لإثارة الفوضى في تفاصيل المكان والإعلان عن وصولها (ص (6

  والقواسمي، كما الريح، يعلن سطوته على ذهنك، ويثير خلايا فكرك منذ ولوج العتبة الأولى في الرواية ليأجج بداخلك بركانًا من الأسئلة لا تخمد نيرانه. حمم تفجر كل ما فيك من حيرة وتخبّط بين البدائل المتاحة في الاختيارات.

 بداية غير محددة المعالم؛ غير أنها مدهشة من عتبة إلى أخرى. تمتد الدهشة وتتجلى رؤيا اليقين عن رواية أشبه بريح في فتوّتها تحملك كأوراق الخريف متخففًا من كل ثقل. بخفة الهواء تدور في فضاء بعيدًا عن الأرض ترسم خطاك وفقا لجاذبية المعاني، وعمقها الدلالي “في سماء صالحة للرقص “

 عمل روائي جمع بين جمالية الأسلوب وعمق المعنى ليصبح النص السردي مسرحًا لصور بديعة من الشّعر الصافي الممزوج بتفلسف حيّ؛ وعلّ ذلك نابع من طبيعة الإبداع الشعري لدى القواسمي، وقدرته على تكييف اللفظة مع ما يتطلبه السياق الخطابي، وتحويلها إلى إشارات وتعابير انزياحية فيها من التوسع والمجاز والرمزية ما يحقق الإثارة لدى المتلقي، ويدفعه إلى التحاور مع النص السردي من أجل استنطاقه، وتفجير معانيه.

بسرد سلس، لا يثقله إلا ثقل العمل فكرة وقصة، حاك القواسمي حبكة سردية حديثة حركتها مربكة عمد فيها إلى اختزال الأفكار وإلى صياغة السرد بضمير المخاطب “أنت” الذي أُطلق عليه (ضمير النقمة والسخرية والاحتجاج). في أنماط مختلفة: نمط التوجيه، النمط الايهامي، وما سماه ريتشاردسون النمط المثالي، الذي يبدو فيه الراوي كما لو أنه ضمير البطل كقوله في الرواية “ها هي” إيلينيا في الفراش الأبيض الطويل مصابة بتهتك في العمود الفقري …… وستحتاج لمن يلازمها طوال الوقت….. هل ستهرب كأيِّ جبان وتتخلى عن حبٍّ كان يرافقك في وحدتك ويسعى لطمأنتك كل حين ومنحك جناحين عظيمين للطيران؟” (ص 10)

 وهي صيغة تعد من أحدث الأشكال السردية عهدا كما يرى عبد الملك مرتاض ” فكأن هذا الشكل السردي المجيد في اصطناع ضمير المخاطب هو أكمل الأشكال السردية وأحدثها”** بعد التخلص الكلي من المفهوم التقليدي للشخصية، ذات الأبعاد السيكولوجية كما يرى ميشال بيتورّ “أن توظيف ضمير المخاطب في الرواية هو تخليص للسرد من ذاتية الــ (أنا) توظيف ضمير “أنت” في الرواية لم يكن بمثابة خروج عن الصيغتين السرديتين الأساس، بقدر ما كان تقنية استعمله القواسمي لاستثارة مشاعر القارئ، والتأثير فيه بل توريطه فكريًا في إحدى جبهات العمل السردي لينتج عن ذلك تفاعل وتفعيل الأحداث في النّص باعتبار المتلقي طرفًا مشاركًا في إنتاج النص مهمّته في الحدث اللغوي فهم الرسالة المضمنة بين ثنايا الرواية، وفكِّ رموزها وتفسيرها حسب دوره المحدد عند رومان جاكبسون في نظرية التواصل اللغوي. التواصل وفق هذه النظرية مكون من ست عناصر وكل عنصر يرتبط بوظيفة من وظائف اللغة لتكون الوظيفة الافهامية من نصيب القارئ في “سماء صالحة للرقص”

ليس الكتاب رواية تقليدية كلاسيكية، بل نوعًا من السرد التأملي الروائي الذي يهز وعي القارئ بأسئلة عميقة مقلقة. ما الذي يدفعنا لارتكاب الهرب؟ لماذا يجيء هكذا بغتة؟ فيحملنا من عالم إلى عالم آخر دون أن يمنحنا فرصة التعبير أو التفكير عن مكوناتنا الداخلية؟ أين يحملنا خفافا؟ فهل هي الغريزة التي تدفعنا للهرب؟ ما جدوى العقل في مثل هذه الحالة؟ وما دوره في تلك العملية القائمة في حد ذاتها على مبدأ الإرباك والقلق (ص9_ 10). أسئلة متعلقة بالوجود بمحمولات فلسفية لا يلعب فيها القارئ دور المتفرج بل دور الفاعل يُدعى لإعادة النظر في المُسَلمات، وفتح أبواب الاحتمالات على مصارعيها، ورصد المآلات، وإعادة التفكير في الطريقة التي ننظر بها للهرب، للركض، للحياة، للموت، للصراع داخل أسوار الذات وخارجها. ذات تبحث عن خلاصها عن مخرج أو مدخل مغاير في الهرب” ذاك الكائن الهلامي العبثي” كما سماه القواسمي “باعتباره وسيلة نجاة لإيجاد أرض مغايرة تقيم عليها” “لندخر وقتا صالحا للعيش بسلام …. لنبتكر ظروفا أقل قسوة من المتاح ……هو محاولة للبحث عن معنى جديد لمعنانا …. عن الضروري والحتمي للنجاة من فخ الموت” (ص 11)

فالهرب ليس إلا الخروج من دائرة الواقع وخلق عالم مواز نقوم بتأثيثه وفق رغباتنا واحتياجاتنا. هو محاولة بحث عن معنى جديد للذات بحث عن معنى للحياة ينتهي بالوصول إلى نتيجتين: إما أن الحياة بلا معنى و”الغد المزعوم خرافة لن نصلها أبدا”، أو أنها تحتوي على هدف وضعته قوة عليا “لأن كل شيء من حولنا يركض رغم أن لا أحد يدري سر الركض البغيض. الجميع مقتنع ومسلم بأمر الركض ووجوبه” (ص12)

 بلا وعي “نركض باتجاه الغد المزعوم بكامل الذعر والفزع ….. ماذا لو أن هذا الغد كان خرافة لن نصلها. أبدا؟ ماذا لو أن ركضنا في اللانهائي والأبدي كان محض هراء بلا معنى ولا جدوى؟” (ص 13)

 يقر القواسمي هنا كما الفيلسوف شوبنهاور أن الوجود الإنساني فوضوي وبلا معنى، وأن الغد مفهوم غيبي لا يدخل ضمن مفاهيم الواقع أو الوعي الآني. والركض باتجاه الغد هدف مهما سعينا خلفه وعظّمناه وجعلناه محورًا لحياتنا، يبقى مثل دحرجة حجر على سفح جبل، وربما يكون هنالك معنى جوهري للحياة لكن نحنُ كبشر لن ندرك ذلك أبداً، لذلك يجب أن نخلق معنى لأنفسنا، ويتضاعف هذا الطرق الوجودي في ماهية الذات البشرية بين الحرية، والحتمية، وخضوع الإنسان لعدة اكراهات نفسية، واجتماعية و وقوعه في مطب ” الوعي الشقي “حسب هابرماس ذلك التباين الأنطولوجي بين ما تؤمن به الذات من أفكار ومعتقدات وما تفرضه إكراهات الواقع؛ فشخصية “علي الدبس” المهاجر السوري هي رمز الذات العربية المهاجرة قسرًا من الشرق إلى الغرب بحثًا عن وطن بديل؛ ذات تنشد فرارًا وتَرقُب في الغيب دربًا يقلها خارج ضراوات الزمن؛ ذات تعكس مكابدات الفرد وعذاباته، حين تدفع به الحياة لمواجهة غير متكافئة مع قوى داخلية وخارجية. هي رمز الذات الإنسانية المشتتة بين غربة الروح وغربة المكان؛ الدّالة بقوة على حالة التّمزق والانطواء والحيرة والاغتراب حالة “اللاقدرة” عند هيجل بمعنى أن الإنسان عاجز عن تحقيق ذاته. يتجلى ذلك أيما جلاء في خطابه مع ايلينا في قطار يقله إلى ميلانو “أنا يا عزيزتي مجرد عابر سبيل أجول بين المدن أبحث عن ذات لذاتي وأحاول أن أتبين أمري الذي ما كان يبين” (ص30)

تحويل وجهة القطار ليقلنا من رحلة مكانية إلى رحلة اغتراب الذات في العالم، رحلة استجلاء لمفهوم الإنسان على ضوء مسيرة الذات في اكتشاف ذاتها باحثة عن موقعها الانطولوجي، وفي وعيها لوجود الآخر كمحدد لهويتها كما دعى إليه بول ريكور التفكير في الآخر بوصفه عين الذات في كتابه “الذات عينها كآخر” (Soi meme comme un autre)، في قوله ” الآخر ليس ما يقابل الـ (هو) بل ما يكوّن معناها الحميمي” ليلقي علينا القواسمي عبء التفكير في سؤال الهوية من أنا وكيف يجب أن أكون.

 خلق من رمزية القطار رحلة تراجيدية تجعل من الذات هائمة تنشد العودة “كائن يبحث عن شأن لشأنه”. كائن حياته سلسلة من الفجوات تتوه في ثناياها تصوراته، وتخبو في أعماقها أحلامه لترتطم بواقع مغاير يتمخض عنه شعور بصعوبة تحقيق المبتغى والمراد؛ فيتولد لديه نوع من الاستلاب، والاغتراب، وعدم الألفة مع الأشياء، لتتحول علاقتة مع الواقع إلى فجوة غير مواتية للتجسير وهوة غير قابلة للردم.

علي الدبس ذات تعيش فراغًا من الوجود ذات متشظية بين القديم المتأصل فيه والجديد الدخيل المرفوض؛ كغراب أسود شاذ بين طيور واضحة البياض، يعيش ضجرًا فاجرًا يقتل فيه الوقت نفسه في انتظار الآخر، ما دفعه إلى الفرار بحثًا عن أقدار أقل وطأة، عن ضوء شحيح يساوم على حلم في النزع الأخير الحب.

بالحب حاول أن يصنع من الرماد جذور حياة جديدة لإيلينا التي تواطأت مع القدر بالبحث عن نجاة ممكنة ما يسمى” الموت الرحيم”. به وضعت نقطة النهاية للألم للمصير للحياة وللحب ليتجرع علي الدبس مرارة الفقد والغياب لحبيبتين: ايلينا الشابة الإيطالية التي ساعدته في بداية حياته في ميلانو، وسوريا الحبيبة التي لا يزيد البعد عنها إلا تورطًا في حبها ورغبة في العودة إليها؛ ليكون الغياب سمة من سمات الحضور، حضورًا للوطن بكل حمولته الثقافية عبر الذاكرة حين تعود إلى حيث الألفة، وزوايا المدينة، بصورتها وهيئتها ورائحتها، لخلق حالة من التناقض بين الوطن والغربة، بين الدفء والبرودة، بين “هنا” و”هناك” في رحلة الذات الوجودية. ذات حائرة، قلقة، مرعوبة تبحث عن نجاة لاستعادة إنسانيتها.

 سماء صالحة للرقص نافذة شرعها القواسمي على الفرد العربي بكل تشظياته واغترابه، وعلى الداخل الإنساني في إطار البحث عن الهوية القلقة، عن كينونة الذات وسيرورتها في عالم هش، ينتابه القلق والخوف على المستقبل المجهول والمصائر في كل الاتجاهات نافذة لتهوئة كياننا المنذور للركض.

 

 

* يوسف سامي اليوسف: مقال في الرواية، دار كنعان، دمشق 2002

**عبد الملك مرتاض: تحليل الخطاب السردي، ديوان المطبوعات الجامعية، 1995،

صدرت رواية ناصر قواسمي “سماء صالحة للرقص “عن دار يوتيوبيا للنشر والتوزيع، 2020

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.