مرويات اللايقين: هشاشة الذاكرة وأوهام التذكر

0 269

محمد سعيد احجيوج – المغرب

 

ما الذاكرة وما التذكر؟ تأتي افتتاحية رواية “ساعي البريد لا يعرف العنوان” (2022) لتعصف بالفكرة الشائعة حول صلابة الذاكرة وموثوقيتها، وهي ضمنيا تهيئ القارئ لتحديات الرواية فيما يخص زعزعة اليقينيات، من جهة، ومن جهة أخرى لا موثوقية الراوية، خلود، التي تعترف منذ البداية أنها تكذب. كيف يمكن للقارئ أن يخطو في عالم الرواية وهو مبني، داخليا، بأكمله على الأكاذيب؟ كيف عساه يتجنب الفخاخ المبثوثة في ثنايا السرد ويفرق بين الصدق والكذب؟

الحقيقة، ربما، لا يحتاج القارئ أن يفصل بينهما، فالكذبة نفسها حقيقة من نوع آخر. هما معا نتاج العقل ذاته: (الذاكرة وهم. نحن بارعون جدًا في اختلاق الذكريات. استرجاعُ الذكريات خلقٌ لها، تزييفٌ لها. كل ما نسترجعه محض وهم. أكاذيب. غير أنها رغم ذلك، ذكرياتٌ فريدة. ما يتذكره/يخلقه الشخص الفلاني ليس، بحذافيره، ما يتذكره/يخلقه الشخص العلَّاني، حتى لو كانا يستعرضان ما يُفترَض أنه ذكرى مشتركةٌ بينهما. كل واحدٍ يخلق الذكرى، الذكريات، الخاصة به. كلٌّ منا يبصم خَلقه ببصمته الفريدة. هو وحده. وهي لذلك، بفُرادتها، تصير صادقةً تمامًا. فُرادتُها ليست اعتباطية. تلك العشوائية في خلق الذكريات محكومةٌ بمنطق ما وبـ، لنقل، حقائق ما. […] ما أقوله كذبٌ صِرفٌ لأنه لا يملك في ذاته ما يكفي لتكذيبه، لكن لأني أنا من أقوله، ولا أحد غيري يملك أن يقوله بالصيغة هذه، فإنه يملك صفة الصدقيَّة. إنه مِلكي، خاصٌّ بي. إنه إنتاجٌ ذاتيٌّ محض.)

كذلك هو الراوي عَمران، البطل في “أحجية إدمون عمران المالح” (2020)، يستيقظ ليجد نفسه في مكان غريب ممسوح الذاكرة. صارت ذاكرته بيضاء كما هو بياض الغرفة التي وجد نفسه فيها، وكما هو بياض الورق الذي جلس قبالته ليجرب استعادة ذاكرته من خلال التداعي الحر للأفكار.

الفراغ هو ما أحس به عَمران حين استيقظ ووجد نفسه في مكان غريب لا يتذكر شيئا، تكتنفه مشاعر العزلة والوحدة، بل المنفى، لدرجة أن يفكر أنه ليس شخصية حقيقية، بل شخصية ابتكرها كاتب ما على صفحات رواية لم تكتمل. لكن تفكيره أنه شخصية روائية (مخلوق) يتساوى عنده مع احتمال أنه يكون كاتبا روائيا (خالقا): “ماذا لو أنّني كاتب أيضًا؟ يمكنني أن أكون، أنا أيضًا، أنا ذاتي، كاتبًا، ويمكنني أن أخلق ما أشاء من العوالم. ربّما يكون ذلك حلًّا لأتذكّر من أنا وما أفعل في هذه الغرفة الغريبة. الكتابة قد تكون حلًّا، لا لأن أتذكّر وحسب، بل ولأن أخلق نفسي من جديد.”

اتخذ عَمران قرار الكتابة، لا لأن يتذكر وحسب، بل ليعيد تشكيل ذكرياته، ليخلق نفسه من جديد. منح نفسه صلاحية كتابة سردية جديدة، وبالتالي تاريخا مختلفا ومستقبلا جديدا. آنذاك سكنته رغبة محمومة بالكتابة، كأنها أمله الوحيد لأن يحيا، ويفلت من الفناء: “عليّ الاستسلام للرغبة المحمومة التي تدفع أصابعي لخطّ هذه الفقرات والإسراع قبل أن يصل التلف إلى باقي خلايا ذاكرتي، وإلّا سيكون الفناء مصيري. التداعي الحرّ. نعم، هكذا يسمّي فرويد الأمر. التداعي الحرّ للأفكار. نعم، أحتاج إلى أن أترك نفسي على سجيّتها وأحرّر أصابع يدي من سلطة وعيي حتى تخطّ على الصفحات كلّ ما يمكن أن تخطّه، مهما كان تافهًا، [… سأعرف آنذاك] من أنا.”

نجح التداعي الحر في سكب الذكريات على الورق، غير أن مسألة موثوقيتها تبقى على محك. في منتصف الرواية تقريبا سيتوقف عَمران أمام ما كتبه ليجده غير متناسق مع بعضه ومتعارض مع مشاهد أخرى مختلفة تذكرها لاحقا: “لا أعرف من هي إيمان تلك التي قلت أنّني أحببتها. إنّها قصّة خيالية تمامًا، لعلّها ذكرى شخص آخر.”

إنها قصة خيالية تماما، يقول، لعلها قصة شخص آخر. ليست هذه المرة الوحيدة التي تختلط فيها الذكريات لديه. يقول في موضع آخر: “مهلًا، مهلًا. هذا اعتراف أوسكار ماتزيراث ولا شأن لي به. هل صارت ذاكرتي تخدعني إلى درجة أنّ ذكريات الآخرين صارت ذكرياتي؟”

ليست ذكريات الآخرين وحسب، بل هي ذكريات شخصيات خيالية من عالم الروايات. أوسكار ماتزيرات هو بطل رواية طبل الصفيح، لجونتر جراس، والتداخل لا يتوقف هنا. في لحظة ما يتأكد لدينا أن ما يسرده عمران على أنه ذكرياته هو، يتداخل ويتشابك مع أحداث خيالية وحكايات فانتازية هي قادمة لا شك من عوالم روائية، روايات ربما كتبها عمران نفسه قبل أن يصيب دماغه التلف الذي أصابه.

لذلك ما عاد يملك أن يثق بالذاكرة، وأعلن استسلامه، لا يمكن الاعتماد على الذاكرة البتة: “لا يمكننا الاعتماد على الذاكرة لتذكّر الحقيقة. إنّها مخادعة مليئة بالأوهام ولا يمكن الاعتماد عليها دائمًا. أو ربّما لا يمكن الاعتماد عليها البتّة. ما نحسب أنّنا نتذكّره هو في الحقيقة ما نعتقد أنّنا نتذكّره. نغيّر في التفاصيل ونحذف الحقائق وننسى الوجوه ونبعد إلى الأبد أحداثًا كاملة. الأسوأ أنّنا بارعون في تذكّر أحداث لم تقع أصلًا، والإشكالية ليست أنّنا ننسى، بل إنّنا لا نعرف أنّنا ننسى. ليست الإشكالية أنّنا نحرّف الحقائق، بل إنّنا نسجّلها في الذاكرة ابتداءً بشكل محرّف.”

الأمر نفسه نجده في رواية “متاهة الأوهام” (2023)، بل بعض المقاطع المقتبسة أعلاه من “أحجية إدمون عمران المالح”، ومقاطع أخرى من رواية “ليل طنجة” (2022) حاضرة كما هي في الرواية الجديدة، كأنها تريد تجميع قطع الأحجية المبثوثة في الروايات السابقة لها، لكن ليس بنية تقديم حل أو حلول للقارئ، بل لتعيد تشكيل المتاهة ومنحها القوة لا لتبتلع القارئ وحسب، بل الكاتب نفسه. تعود شخصيات الروايات الأخرى لتكتشف بعض التفاصيل الجديدة من ذكرياتها المفقودة، لكن ليس بالقدر الكافي لإخراجها من تيهها في برزخ الحكايات.

تجد إحدى شخصيات “متاهة الأوهام” نفسها في مأزق: “لكن كيف يمكنني الجزم بأيّ شيء مع هذه الذاكرة التعسة؟” وقال آخر: “طبعًا إنها سلطة الذاكرة التي تمارس هوايتها بالحضور أو الغياب كيفما تشاء.” بل يصير الأمر مخيفا حين يشير العميد شكري، وهو شخصية مشتركة بين “متاهة الأوهام” و”ساعي البريد لا يعرف العنوان” إلى إمكانيات التلاعب القصدي بالذاكرة وزرع ذكريات زائفة، لأغراض أمنية/استخباراتية: ” الذاكرة أمرٌ غامض صديقي والدماغ مليء بالأسرار، والكهرباء، يا صديقي، سحرٌ صافٍ. بضع نبضات وفق برنامج زمني معيّن وتركيبة كيميائية، نعم تجريبية لكن فعّالة، و… هوب. اختفى كلّ شيء، أو انبثق عالم جديد من الذكريات من العدم.” زرع الذكريات هو نوع آخر من فقد الذاكرة وتأكيد على مدى هشاشة الذاكرة وانعدام صدقيتها. وهو ما يؤكده الكاتب بوضوح: “بل حتى الذاكرة نفسها لا يمكننا الركون إليها وإلى صدقيتها.”

تحضر الذاكرة أيضا، بالأحرى غياب الذاكرة، في رواية الكاتب الأولى؛ “كافكا في طنجة” (2019). البطل خلال انمساخه تحول إلى كائنين واحد نهاري وآخر ليلي. لا يعرف النهاري شيئا عما يفعل الكائن الليلي، كما لم يكن دكتور جيكل يعرف شيئا عما يفعله مستر هايد: “ستمر على جواد باقي الأيام بالوتيرة نفسها. يستيقظ صباحا فيجد نفسه لا يتذكر شيئا إلا ما يفعله خلال ساعات الصباح الأولى. أما ما يفعله بعد ذلك فيختفي من ذاكرته تماما. وكان غالبا ما يستيقظ متعبا مرهقا كأنه قضى الليلة وهو يقوم بأعمال شاقة. أحيانا كان يستيقظ بملابس كاملة لا يتذكر أنه لبسها وأحيانا يجد على يديه أو وجهه أو قدميه علامات وآثار لا يمكن أن يحصل عليها إلا لو كان قد غادر البيت، وهو واثق تماما من أنه لم يكن يغادر حتى غرفة نومه ذاتها.”

بقدر ما يتخفف جواد بفضل فقدان الذاكرة؛ “رغم كل الغموض الذي يغلفه صار يحس بحرية أكبر. التحرر من مسؤولية العائلة جعله يحس أحيانا بالخفة…” إلا أنه سرعان ما يندم، لأن مرضه، تحوله ونسيانه المتواصل، منعه من القيام بمسؤولياته تجاه عائلته؛ “إلا إنه كان يشعر بالندم حين يرى حزن والدته وتعبها متنقلة من فقيه دجال إلى آخر، وحين يرى أخته تعود من عملها بعد أن منعها والدهما من متابعة دراستها.”

غياب التذكر عند جواد يصير مرادفا لفقدان الهوية، “كان يشعر دائما بالخواء. كأن جزءًا مهما منه اختفى.” وما الهوية إلا مجموع ذكرياتنا؟ ما عاد جواد قادرا على القيام بمسؤولياته تجاه عائلته، وبفقده لدوره الوظيفي في أسرته فقد نفسه. ما عاد جواد يعرف نفسه، ليس لأنه انمسخ جسديا وحسب، بل لأنه صار متعذرا عليه أن يتذكر تفاصيل ما يقوم به ليلا.

الأمر نفسه مع عَمران. افتقاده للذكريات هو فقده لهويته، لكينونته. على العكس، نرى خلود لم تفقد ذاكرتها، بل فقدت ثقتها في ذاكرتها. ربما هذا شكل آخر من أشكال فقدان الذاكرة، أن تتذكر كل شيء لكنك لا تثق فيما تتذكر وتعتبر الذاكرة كلها مبنية على تخيلات.

لكن بالنظر إلى طبيعة الجريمة في رواية “ساعي البريد لا يعرف العنوان” دعنا لا نغفل عن احتمال أن خلود تتلاعب بمن يفترض أنها تعترف له، وهي لا شك تبدو مستمتعة بذلك. قولها في نهاية الفقرة الأولى أن كل ما سيأتي ذكره هو أكاذيب، وتبدأ الفقرة الثانية بالجملة نفسها، ينقلنا رأسا إلى مفارقة كريت. إذا كانت صادقة سيكون قولها إن كل ما سيأتي أكاذيب كذبة أيضا مما سينفي الافتراض نفسه ويدخلنا في دائرة لا خروج منها.

لدينا قراءة أخرى مختلفة، يعززها الخلط الذي يعتور خطاب خلود لمن تعترف له، إذا تخاطبه حينا سيدي الطبيب وأحيانا سيدي المفتش. ماذا يعني هذا الخلط والارتباك، خاصة مع لجوؤها إلى التشطيب على بعض الكلمات التي تسطرها في اعترافها، سوى أنها مضطربة نفسيا، يدخل في كلامها شيء من الهلوسة؟ النقطة الجوهرية في هذه القراءة يعززها سرد خلود لحكاية إيزل، ومدى التشابك والتشابه في بعض عناصرها وحكايتها هي نفسها، بل الاختفاء التام لجثة إيزل، مما يحملنا على الاعتقاد أنهما شخصية واحدة، خاصة وأن الاسم إيزل يعني في التركية معنى الخلود: “سأل إيزل يومًا عن معناه فقالت إنه يعني الخلود.”

إذا كانت خلود، راوية “ساعي البريد لا يعرف العنوان”، صرحت أنها لا تثق في ذاكرتها بالمطلق، دون أن تعيش بالضرورة تجربة فقدان الذاكرة، فإن عدنان، معادلها الذكوري في الرواية نفسها، عاش التجربة في حدها الأقصى: “ثم ما حدث بعد ذلك لا يختلف عما تعوَّدنا عليه في الروايات وفي السينما. يفتح عينيه لا يعرف أين هو ولا من هو. فقدانٌ تامٌّ للذاكرة. ليست الذاكرة المعرفية، بل الذاكرة الشخصية. يتذكر كل المعارف والمهارات التي اكتسب، لكن لا شيء من خبراته الذاتية المتعلقة بمشاعره إلا شذراتٌ من طفولته. لا يعرف اسمه. لا يتذكر الحادثة.”

ما الحل؟ الحل مرة أخرى في الكتابة. اقترح عليها الطبيب المعالج أن تأخذ عدنان إلى متخصص في الطب النفسي له خبرة واسعة بأمور الذاكرة، فكان العلاج الذي اقترحه الطبيب النفسي هو ممارسة الكتابة، كنوع من علاج تجريبي يمكن أن يساعد عدنان على استرجاع ما اختفى من ذاكرته، تماما كما فعل عمران باعتماده التداعي الحر للأفكار. هل نجح الأمر مع عدنان؟ نعم ولا: “لكنه لم يتذكر، بل كتب رواية. روايةً غريبةً تجمع أزمنةً متعددةً وحكاياتٍ من عالم الجاسوسية والتاريخ ومشاهد من حكايتي الشخصية التي أخبرتُه بها، وقصة رومانسية… ثم اختفى عدنان. عدتُ ذات يوم ولم أجده. ترك مخطوط روايته كاملةً على المكتب، مع كلمةٍ واحدة: شكرًا. ولم أره بعد ذلك.”

الرواية التي ترك عدنان مخطوطها قبل أن يختفي عنوانها “ساعي البريد لا يعرف العنوان”. هل هي نفسها الرواية التي نقرأ؟

مرة أخرى تفرض الكتابة نفسها حلا للتذكر، لاستعادة الذاكرة، غير أن الكتابة لا تقدم أي حل موثوق، قدر ما تعزز اللايقين، وهو الأمر ذاته نجده في رواية “ليل طنجة” حيث تقود الكتابة الراوي إلى إعادة خلق الحيوات دون أن يمنحنا أي دليل صدقية ما يبوح به، بل شيئا فشيئا على امتداد سرد الرواية، المكتنز بالهلوسات، يتأكد لدينا استحالة تصديقه والثقة به.

ما تفعله الكتابة هو إعادة إنتاج الحقيقة، تخلق الذكريات وتبتكر سرديات جديدة ومرويات ليست هي ما حدث، وليست بالضرورة ما يفترض أن يحدث. هي مرويات ترتكز على عدم اليقين، ربما بغرض بناء عوالم بديلة، أو على الأرجح غرضها تقويض اليقينيات التي تكبلنا إلى الماضي ولا تسمح لنا أن نتقدم نحو الأمام. نرى هذا بوضوح جوابا من الكاتب محمد سعيد احجيوج في حوار على صفحات الأخبار البيروتية (عدد يوم 6 تموز 2022)، يقول: “ما أنطلق منه، من خلال الكتابة وعبرها، هو توجيه النظر إلى استحالة التقدم إلى الأمام ونحن مثقلون بالمقدسات والحقائق التي لا يمكن تكذيبها. ما أريد قوله هو أن لا حقيقة مطلقة يجب التسليم بها فقط لأنها موروثة. من منطلق ديني محض؛ الكفار في الإسلام خلال مهد الدعوة كانوا يقولون: هذا ما وجدنا عليه آباءنا. وهذا ما صرنا نقوله نحن أيضا على امتداد سنوات تخلفنا. لا أحاول زعزعة أي قناعة، بل كل القناعات، تفكيكها وإعادة التفكير فيها من الصفر. تصفيتها وغربلتها. لا حقيقة مقدسة، ويجب التفكير في كل الموروث وكل ما نعيشه.”

من قال، مثلا، إن الكاتب لا يمكنه أن يكتب نقدا أو تحليلا لعمله الروائي؟ كاتب هذا المقال هو نفسه مؤلف الروايات المعروضة في المقال، وهو هنا، كما في رواياته، يطمح إلى زعزعة القناعات الموروثة، ويؤكد أنه لا حقيقة مقدسة، ولا حقيقة مطلقة، قبل عرضها على الاختبار.

 

<strong>محمد سعيد احجيوج</strong>

روائي من المغرب. صدر له روايات: كافكا في طنجة (2019)، أحجية إدمون عمران المالح (2020) التي وصلت القائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني، ليل طنجة (2022) التي حصل مخطوطها على جائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، ساعي البريد لا يعرف العنوان (2022)، وأخيرا متاهة الأوهام (2023).

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.