هولوكوست الأمريكيين الأصليين .. أكبر إبادة بشرية عرفها التاريخ

0 796

إدريس بوسكين – الجزائر

“الأوروبيون سرطان في التاريخ الإنساني”. هكذا وصفت المثقفة الأمريكية المعروفة سوزان سونتاغ “العرق” الأوروبي أو “البيض”، وهي تحصي جرائمه وإباداته العرقية والثقافية الوحشية التي ارتكبها في كل مكان من هذا العالم، والتي لا تكفي مجلدات لتدوينها.

لعل من أبشع هذه الإبادات، وأكثرها إيلاماً للضمير الإنساني العالمي، هي هولوكوست السكان الأصليين للأمريكيتين، أو “الهنود الحمر” كما سماهم الأوروبيون تحقيراً، والذين يعتبرون إلى اليوم ضحايا أكبر وأبشع وأطول إبادة عرقية وثقافية عرفها التاريخ. لا عجب أن كريستوف كولومبس -الذين سماه الأوروبيون “أكبر مستكشف”- هو بالنسبة للأمريكيين الأصليين مجرد “مجرم حشرة”. 

الإبادة العرقية
الإبادة العرقية

تاريخياً، وقبل احتلال الأوروبيين في 1492 للأمريكيتين، أو ما سموه بـ “العالم الجديد” -بعد أن تملكوه ونسبوه لأنفسهم- كان السكان الأصليون يعيشون في سلام وازدهار منذ عشرات آلاف السنين، ضمن شعوب مختلفة متفاوتة حضارياً وثقافياً؛ فالأمم التي عاشت في المكسيك لم تشبه كثيراً تلك التي عاشت في الولايات المتحدة أو الأرجنتين وهكذا. أنتجت هذه الشعوب ثلاثاً من أهم وأرقى حضارات العالم القديم هي: الإنكا والأزتك والمايا، والتي اشتهرت بالزراعة والصناعة والصيد والعمران، والطب التقليدي والفلك والرياضيات، والفنون والأساطير والروحانيات، وكذا مكارم الأخلاق كتكريم المرأة وكبار السن وعدم الاعتداء على الآخر. غير أن الأوروبيين لم يخربوا فقط هذه الحضارات وينهبوها، وإنما أيضاً أفنوا سكانها عن بكرة أبيهم؛ إذ تقول بعض الدراسات أنهم أبادوا 90% من سكان الأمريكيتين، على مدار أكثر من 300 سنة من التقتيل المستمر، والتجويع، ونشر الأمراض والأوبئة التي جلبوها معهم من أوروبا، والتي يعدها كثيرون أولى الحروب الجرثومية في التاريخ.

يقول المؤرخ والأكاديمي الأمريكي من جامعة هاواي ديفد إدوارد ستنارد، في هذا الصدد، أن تعداد ضحايا الإبادة في الأمريكيتين بلغ 145 مليون قتيلاً؛ منهم 18 مليوناً في الولايات المتحدة وكندا فقط، وهو ما جعله يؤكد على أنها الإبادة الأكثر بشاعة على مر التاريخ الإنساني. في هذا الإطار، يذهب وارد تشرتشل، أستاذ الدراسات الإثنية بجامعة كولورادو، إلى وصف ما جرى بالإبادة الكبرى، والأكثر استمرارية في التاريخ العالمي؛ باعتبار أن أعداد السكان الأصليين بالولايات المتحدة انخفضت من 12 مليونا في عام 1500 إلى أقل من 237 ألف عام 1900. أما الباحث والكاتب كيكباترك سيل فيؤكد أن الأوروبيين اعتمدوا سياسة تصفية للسكان الأصليين على مدار أربعة قرون.

وفي مقابل إبادة هؤلاء وتذبيحهم، وحرقهم أحياء، والاستيلاء على أراضيهم الشاسعة وممتلكاتهم، وتدمير ثقافاتهم ومظاهر حضاراتهم، وتشويه تاريخهم في كل مكان، كانت “الحثالة الاجتماعية” من ساكنة أوروبا تهاجر إلى هذه المناطق المحتلة بالملايين لاستيطانها، وقد جاء في “الموسوعة البريطانية” أنه فقط في الفترة 1820-1920 هاجر 55 مليون أوروبي إلى كل بقاع العالم وخصوصاً إلى الأمريكيتين.

الولايات المتحدة .. المثال الأبرز لـ “بربرية” الأوروبيين   

يبلغ حالياً عدد السكان الأصليين في الولايات المتحدة – بمن فيهم سكان ألاسكا الأصليين- حوالي الخمسة ملايين نسمة، أو ربما أكثر، من أصل أكثر من 300 مليون الإجمالي لسكان الولايات المتحدة، وقد حصل بعضهم على الجنسية الأمريكية منذ العام 1831، إلا أن قانون الجنسية للسكان الأصليين لعام 1924 هو الذي منح الجنسية للجميع، ولم يأت هذا القانون المتأخر والعنصري إلا بعد إبادة الآلاف منهم.

يعيش حاليا حوالي 41% من هؤلاء في الغرب الأمريكي، حيث يتواجدون خصوصاً بكاليفورنيا (أكثر من 700 ألف)، ثم بأوكلاهوما بالجنوب الأوسط (حوالي 500 ألف)، فأريزونا بالجنوب الغربي (أكثر من 350 ألف)، فتكساس بالجنوب (أكثر بقليل من 300 ألف) وفقا لإحصائيات أمريكية. يتوزعون، أيضاً، حسب “التجمعات القبلية” التي ينتمون إليها؛ ففي الولايات المتحدة القارية فإن قبيلة “الشيروكي” مثلا هي أكبرها بـ 819 ألف شخص وفقا لنفس الإحصائيات.                                                                       

تعتبر الفترة من 1814 إلى 1858 أبرز المحطات التاريخية الشاهدة على همجية الأوروبيين ضد السكان الأصليين؛ إذ شهدت تهجيراً قسرياً لعشرات الآلاف منهم من أراضيهم الأصلية شرق الميسيسيبي (شرق وجنوب شرق الولايات المتحدة) -والتي هي حالياً ولايات جورجيا وكارولينا الجنوبية وكارولينا الشمالية وتينيسي وتكساس وألباما- إلى غرب الميسيسيبي (الغرب الأمريكي وخصوصا ولاية أوكلاهوما في بادئ الأمر)، وقد كانت فترة رئاسة أندرو جاكسون التي بدأت في 1829 الأكثر دموية وبربرية؛ فهو الذي أقر قانوناً عام 1830 تم بموجبه تهجير وإبادة آلاف منهم، في العملية التاريخية التي سميت بـ “طريق الدموع”.

استعباد ونهب للأراضي

عدا عمليات الإبادة والتقتيل الهمجية التي لم يميز فيها الأوروبيون بين النساء والشيوخ والأطفال، عانى السكان الأصليون أيضاً من استعباد هؤلاء لهم منذ الأيام الأولى للاحتلال. قام الأوروبيون حينها بأسر الآلاف منهم، وبيعهم كعبيد في مختلف أسواق أوروبا (الرافضون للاستعباد كانت تسلخ رؤوسهم وهي عملية القتل المفضلة لدى الأوروبيين آنذاك). لم يسلم أطفالهم يوماً من هذا الاستعباد؛ ففي كاليفورنيا مثلا تم تشريع استعبادهم في إطار قانون صدر في 1850، وتم تمديده عام 1860. بموجب هذا القانون، كان هؤلاء الأطفال لا يؤخذون فقط عنوة من طرف الأوروبيين المستوطنين ويستعبدون، وإنما أيضاً يختطفون ويباعون في مناطق أخرى داخل وخارج الولاية.                

في ذلك الوقت، كان القمع الثقافي للسكان الأصليين يسير بوتيرة كبيرة خصوصاً مع تأسيس مدارس داخلية لهم نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث جمع بالقوة أكثر من 100 ألف من أطفال السكان الأصليين في مدارس مسيحية خاصة؛ قصد تمسيحهم بالقوة وتعليمهم وتربيتهم وفق المعايير والقيم البروتستانتية الأنجلو-ساكسونية، وسلخهم عن كل ما يربطهم بثقافتهم الأصلية. وقد استمرت هذه السياسة طوال القرن العشرين، وبلغت ذروتها في السبعينيات، لدرجة أنها صارت مثالاً تَحتَذي به كندا المجاورة في قمعها لسكانها الأصليين.

وعلى المستوى الفيدرالي، كانت الحكومة الأمريكية قد أصدرت في 1887 قانوناً ألزم “القبائل الهندية” -كما تسميهم- بتقسيم أراضيهم الجماعية في المحميات، وبيعها للأفراد “الهنود” أولاً، قبل أن توسع العملية فيما بعد لغير “الهنود”؛ ما جعل ثلثي أراضي المحميات في أيدي المستوطنين “البيض”، وكان الرافضون للبيع من السكان الأصليين يمنعون من الحصول على الجنسية.                     

اضطهاد واحتقار إلى اليوم 

في الخمسينيات من القرن العشرين، قام الكونغرس الأمريكي بإبطال العلاقة التي كانت تجمع السلطات الفيدرالية بـ “القبائل”، واتبع سياسة “التماثل” لأجل إدماجهم الكلي في المجتمع الأمريكي بثقافته البروتستانتية الأنجلو-ساكسونية. في هذا الإطار، أبطل الاعتراف بأكثر من 100 “قبيلة هندية” من خلال إلغاء “الوضع القبلي” (حكم القبائل لنفسها)، وإيقاف المساعدات التي كان يقدمها لها؛ ما أدى فيما بعد إلى أزمات اقتصادية عانت منها العديد من هذه “القبائل”، وأيضاً لخسارة مساحات شاسعة من أراضيها. وقد تجلى هذا جلياً في قانون صدر في 1953 ألزم القبائل المتواجدة بكاليفورنيا ومينيسوتا ونبراسكا وأوريغون ووسكنسن على اتباع سلطة القضاء والقوانين الجنائية لهذه الولايات (باستثناء ولاية ألاسكا التي لم تصبح ولاية إلا مع نهاية الخمسينيات وهي الفترة التي عرفت فيها هذه الإجراءات انحساراً كبيراً).

في الستينيات، ونتيجة لمقاومة السكان الأصليين، ونشاطهم في الكونغرس والمحاكم الفيدرالية ضد هذه الإجراءات اللاإنسانية؛ عدلت الحكومة الفدرالية عن سياساتها العنصرية، واضطرت من جديد للموافقة على سياسة حكم السكان الأصليين لأنفسهم.  هكذا، جاءت مرحلة حكم “القبائل” لنفسها منذ 1968، ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ إلا في 1975 مع صدور قانون آخر في هذا الإطار وهي مرحلة مستمرة إلى اليوم إذ يقر الدستور الأمريكي ظاهرياً بأن “القبائل الهندية” هي بمثابة “حكومات ذات سيادة”.

لقد تجلت أساساً الموافقة الفيدرالية على حكم السكان الأصليين لأنفسهم في عدة قوانين حول: الحقوق المدنية، والعدالة، وحق التكلم باللغة الأصلية؛ جعلت الحكومة الفيدرالية مع مرور الوقت تعامل “القبائل” تماماً كما تعامل الولايات، وضمنت قانوناً الكثير من الحقوق التي مازالت رغم ذلك بعيدة جداً عما كان ومازال يرجوه هؤلاء، خصوصاً وأن الواقع اليوم يقول بأنهم من أكثر المجتمعات الأمريكية تهميشاً وإقصاءً: اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً.

يعيش السكان الأصليون اليوم في عزلة، وتهميش، وقمع ثقافي كبير (عبر أكثر من 300 “محمية”)، حيث يمنعون من ارتداء لباسهم التقليدي، وممارسة تقاليدهم، وتكلم لغاتهم الأصلية، وأيضاً اغتصاب ما تبقى من أراضيهم؛ وفق قوانين ظالمة تسمح بسرقتها والاستيلاء عليها لصالح الشركات الصناعية الكبرى. كما يعتبرون من أكثر الفئات المحرومة اقتصادياً في الولايات المتحدة إلى جانب بني جلدتهم سكان ألاسكا الأصليين، وسكان هاواي الأصليين، وأيضاً سكان جزر المحيط الهادي. وقد جاء في دراسات الصحة العقلية الوطنية الأمريكية، واللجنة الأمريكية للحقوق المدنية، أن الأمريكيين الأصليين من أكبر الفئات معاناة من الوضع الصحي السيئ وإدمان الكحول والكآبة والانتحار في البلاد.

تشويه ثقافي ممنهج

لقد كان لهوليود دور كبير جداً في تشويه صورة السكان الأصليين في الولايات المتحدة والعالم؛ حيث وصمتهم منذ بداياتها بصور نمطية محقرة كأناس بدائيين وهمج، وبربر وقتلة، وغير متحضرين مقارنة إياهم دائما بـ “البيض” الأنجلو-ساكسون “الشرفاء!!!” و”المتحضرين!!!” ولعل من أشهر هذه الأفلام “جرونمو” (1962) وآخر الموهيكان” (1992) و”الطيب والشرس والقبيح” (1966) وبالتأكيد “أبوكاليبتو” (2006)، وكل هذه الأعمال شرعنت احتلال القارة الأمريكية.

وتؤكد الكاتبة والسينمائية الأمريكية بيفرلي سينغر (المنحدرة من السكان الأصليين) على أن صورة “الهنود” في الولايات المتحدة قد تكررت كـ “همج” و”غير متحضرين” منذ الأفلام الأولى لهوليود، كما تبلورت صورتهم كأناس “خطيرين بنمط حياة غير مقبول من طرف المهاجرين الأوروبيين” الذين تظهر طرق حياتهم في هذه الأفلام بأنها “أكثر قيمة” من تلك التي للسكان الأصليين. 

لقد ساهمت “والت ديزني”، بدورها، في تشويه صورة السكان الأصليين لدى الأطفال؛ بدءاً بفيلم الرسوم المتحركة “بيتر بان” (1953) الذي حقق نجاحاً هائلاً داخل الولايات المتحدة وخارجها، ومروراً بـ “بوكاهانتس” (1995) الذي صور “بوكاهانتس” الخائنة لقومها في صورة الفتاة البطلة التي تخلت عن “همجيتهم”، واختارت التحضر بزواجها من إنجليزي هو من أوائل المستوطنين الغاصبين، وانتهاء بسلسلة “توم وجيري” الأكثر متابعة ولربما الأكثر تأثيرا في عقول أطفال العالم.

ثقافياً أيضاً، تم تكريم مؤسسي الدولة الأمريكية المجرمين كجورج واشنطن وتوماس جيفرسون بنحت وجوههم في جبل “راشمور” الكبير بداكوتا الجنوبية (إحدى المواطن القديمة للسكان الأصليين) لربما، تخليداً للمجازر والإبادات التي ارتكبوها على مدى قرون في حق هؤلاء، وإمعاناً أيضاً في تحقيرهم إلى الأبد حيث أصبح هذا الجبل “أيقونة” أمريكية لا تضاهى. 

ولا يزال إلى اليوم التجريح العنصري يطال السكان الأصليين كأقلية وطنية من طرف الأمريكيين “البيض” غير الأصليين، والأوروبيين بصفة عامة، رغم المطالبات بالاعتراف والاعتذار عن الإبادة أو المحرقة التي ارتكبها الأوروبيون الأوائل في حقهم، وحق أجدادهم باسم المسيحية و”الحضارة” و”الديمقراطية”.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.