جمهورية الصمت

1 1٬120

عبدالوهاب أبو زيد- السعودية

هل يمكن للصمت أن يكون وسيلة للمقاومة وتعبيرًا عن الاحتجاج والرفض؟ هل يمكن أن يتحول الصمت إلى لسان مجازي يجهر بما لا يستطيع اللسان المادي الحقيقي البوح به؟ وأخيرًا، هل يمكن للصمت أن يتحول إلى سلاح يرفعه المقموعون في وجه من يفرض عليهم القمع وينكّل بهم؟

الجواب على كل هذه الأسئلة هو نعم حسب ما يستشفه قارئ المجموعة الشعرية التي تحمل عنوان “جمهورية الخوف” للشاعر الأمريكي من أصول روسية إيليا كامينسكي، المولود عام 1977م في أوكرانيا، والذي هاجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1993م.

في هذا الكتاب القصير الذي لا يتجاوز عدد صفحاته 76 صفحة، يقدم الشاعر مزيجًا متجانسًا من القصائد الشعرية المستقلة بذاتها من جهة، والنص الدرامي المترابط من جهة أخرى، بما يشتمل عليه من مكونات بنائية وشكلية وجوهرية؛ إذ يقسم الكتاب إلى فصلين اثنين، ونقرأ قبل ذلك ثبتًا بشخصيات الكتاب، كما أن صوت الكورس لا يغيب أيضًا ويتكرر حضوره في صفحات الكتاب.

ولأنه لا بد لكل نص درامي من مكان، فإن المكان هو قرية متخيلة اسمها فاسينكا في مكان ما من هذا العالم (أوكرانيا على الأرجح) حيث تخضع تلك القرية لاحتلال من قبل قوات عسكرية (سوفييتية على الأغلب) في زمن لم يتم تحديده. القصة، إذن، ذات طابع استعاري، إذ أن ذلك يمكن أن يقع في أي بقعة من العالم ويمكن أن تتغير أسماء الأماكن والشعوب وقوى الاحتلال دون أن يتغير الطابع العام لفعل الاحتلال والتنكيل والقمع.

تبدأ الحكاية حين يُقتل “بيتيا” الصبي الأصم على يد أحد الجنود لأنه تجرأ وبصق في وجه ذلك الجندي خلال أحد عروض الدمى التي تحظى بشعبية كبيرة لدى سكان تلك القرية. سيكون صمم ذلك الصبي موحيًا بفكرة المقاومة وموقدًا لجذوتها، حين يعمد سكان القرية إلى التزام الصمت التام وعدم الخوض في أي حديث مع الجنود المحتلين، ليتحول الصمت إلى سلاح يشهرونه في وجه محتلهم ولتتطور تلك المقاومة الصامتة إلى مواجهة مباشرة حين يُعدم أحد الجنود المحتلين علنًا، ويلي ذلك عدد من حوادث الاستدراج بفعل الإغواء ومن ثم الشنق لعدد آخر من الجنود.

ولأن الصمت هو سيد الموقف، فقد اخترع سكان هذه البلدة لغة إشارة يتفاهمون بها فيما بينهم ويتواصلون عبرها، والكتاب يزخر بالعديد منها، بما يضفي عليه بعدًا تصويريًا يغنيه ويعزز من وقع الرسالة التي يريد إيصالها في نفس القارئ. ورغم أن المقاومة بالصمت تتحول شيئًا فشيئًا إلى مقاومة بالفعل وبالعنف المباشر الذي يصل إلى حد القتل والتصفية إلا أن الصمت يظل هو السلاح الأنجع والأكثر فتكًا في حرب القامع والمقموع التي تدور رحاها على صفحات هذا الكتاب الآسر الذي حظي باستقبال نقدي حافل بالثناء المستحق. وفيما يلي نقدم ترجمة لثلاثة نصوص منه.

إطلاق نار

بلادنا هي المسرح.

حين يزحف الجنود إلى المدينة، تُحظرُ التجمعات العامة رسميًا. ولكن اليوم، يتقاطر الجيران إلى موسيقى البيانو القادمة من عرض الدمى الذي تقيمه سونيا وألفونسو في الميدان الرئيس. بعضٌّ منا تسلقوا الأشجار، وبعضنا الآخر يختبؤون وراء المقاعد وأعمدة التلغراف.

حين يعطس بيتيا، الصبي الأصم في الصف الأول، يسقط الرقيبُ الدميةُ أرضًا، وهو يصرخ. يقف مرة أخرى، متذمرًا، ويلوّح بقبضته أمام الجمهور الضاحك.

تنحرف سيارة جيب تابعة للجيش نحو الميدان، ليترجل منها رقيبها.

تفرقوا حالًا!

تفرقوا حالًا! الدمية تقلد بصوت مصطنع عالي النبرة.

يتجمد الجميع باستثناء بيتيا، الذي يستمر في الضحك. أحدهم يضع يده فوق فمه. يستدير الرقيب نحو الصبي، رافعًا إصبعه.

أنت!

أنت! ترفعُ الدميةُ إصبعها.

سونيا تراقبُ الدميةَ، والدميةُ تراقبُ الرقيبَ، والرقيبُ يراقبُ سونيا وألفونسو، ولكن البقية منا يراقبون بيتيا وهو يميل بظهره إلى الوراء، ويجمع كل البصاق في حنجرته، ويطلقه صوب الرقيب.

الصوتُ الذي لا نسمعه يرفع طيورَ النورسِ من فوق سطح الماء.

الصمم، بوصفه مقاومة، يبدأ

استيقظتْ مدينتنا الصباحَ التالي معلنةً رفضها

أن تستمعَ إلى الجنود.

باسمِ بيتيا، نرفضُ.

في السادسة صباحًا، حين يُطري الجنود جمالَ الصبايا في الممرات، تنسلُّ الصبايا غير عابئاتٍ، مشيراتٍ إلى آذانهن. في الثامنة مساءً، يُغلق باب المخبز في وجه الجندي إيفانوف، رغم أنه أفضل زبائنه. في العاشرة، تكتب موما غاليا بالطباشير (لا أحد يسمعكم) على أبواب الثكنات.

في الحادية عشرة صباحًا، تبدأ الاعتقالات.

سمعُنا لا يضعفُ، ولكن ثمة شيئًا ما صامتًا داخلنا يكتسبُ قوةً.

بعد حظر التجوال، تعمد أُسَرُ المعتقلين لتعليق دمى مصنوعةً منزليًا خارج نوافذهم. الشوارع خالية فيما عدا أصوات الخيوط وقرع القبضات والأرجل الخشبية على البنايات.

في أُذنيْ المدينةِ، الثلجُ يهطلُ.

الميدان المركزي

يُقسرُ المقبوض عليهم على المشي وهم يرفعون أذرعهم إلى الأعلى. كما لو كانوا على وشك مغادرة الأرض محاولين اختبار الريح.

مقابل تفاحةٍ لكل نظرة، يعرضُ الجنودُ سونيا، عارية، تحت بوستر يحمل عبارة (الجنود يحاربون لأجل حريتكم). الثلج يدوّم في منخريها. الجنود يرسمون دائرتين بقلم رصاص أحمر حول عينيها. الجندي الشاب يصوب نحو الدائرة الحمراء ويبصق. المدينة تراقب. حول رقبتها عُلّقت لوحةٌ كُتِبَ عليها: لقد قاومتُ الاعتقال.

سونيا تنظر بشكل مستقيم، حيث يصطف الجنود. فجأةً، ومن خارج هذا الصمت يأتي صوتها، استعدّْ! الجنود يرفعون بنادقهم استجابة لأمرها.

إيليا كامينسكي
شاعر أكراني روسي أمريكي يهودي مصاب بضعف السمع وهو مترجم وأستاذ جامعي فاز بعدة جوائز مقدرة. كما حصل على زمالة غوغنهايم 2018 وزمالة أكاديمية الشعراء الأمريكان عام 2019

المترجم: عبد الوهاب أبو زيد

  • يعمل في إدارة العلاقات العامة، قسم النشر، في أرامكو السعودية.
  • كان محررًا ثقافي متعاون سابقا مع جريدة اليوم وكاتب زاوية أسبوعية في جريدة الشرق
  • وعضو هيئة التحرير في مجلة دارين الصادرة عن النادي الأدبي بالمنطقة
  • له اهتمام بترجمة النصوص الإبداعية عن اللغة الإنجليزية.
  • صدر له مجموعتين شعريتين: (لي ما أشاء) و (ولا قبلها من نساء ولا بعدها من أحد)
  • وترجم عدة أعمال مهمة هي: خزانة الشعر السنسكريتي،  لست زائرًا عابرًا لهذا العالم، عسل الغياب، قصائد مختارة لمارك ستراند، أخبار الأيام لبوب ديلان، وكتاب موجة سوداء في بحر أبيض
  • شارك في العديد من الأمسيات والندوات الشعرية وكتب عن تجربته الشعرية عدد من النقاد والأدباء المقدرين كما نشرت نصوصه وترجماته في عدد من الجرائد والمجلات المحلية والعربية
قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. جعفر عمران يقول

    ترجمة محترفة من الشاعر السعودي عبدالوهاب أبو زيد، اختيار موفق وناجح من الشاعر لهذه المجموعة الشعرية (جمهورية الخوف) للشاعر إيليا كامينسكي. لغة شفافة ونافذة وبارعة بالوصف. شكراً عبدالوهاب. شكراً موقع سماورد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.