عن لطفية الدليمي، وفريديريك نيتشه، وفيليب سوليرز، وهاروكي موراكامي.

الجسد المنهوش وسروده!

0 1٬104

نصر سامي – تونس

تصدير:

“لدى إحساس عميق بأنني لست حقيقية تماماً، بل إنني زيفٌ مفتعلٌ ومصنوعٌ بمهارة، وكل إنسان يحس في هذا العالم بهذا الإحساس بين وقت وآخر، ولكنى أعيشُ هذا الإحساس طيلة الوقت، بل أظن أحياناً أنى لست إلاّ إنتاجاً سينمائياً فنياً أتقنوا صُنعه.”

مارلين مونرو

لطيفة الدليمي تُعيد كتابة النهاية

 

لطيفة الدليمي
لطيفة الدليمي

الجسد ليس غير عربة خضار قديمة معروضة للعامة يقودها حصان ذكورة قويّ. حين لا يكون عربة خضار، فإنّه يكون بيت شهوات مدنّسة أو مقدّسة. بعض بطلات المرويّات الشفوية أو المكتوبة يكنّ واقعيات معروفات بالاسم، ولكنّ أغلبهنّ نكرات، صنتعهنّ المصادفة، وأنضجهنّ الحكي. حتّى الواقعيّات فإنّهن يتوقّفن تماماً عن الإيحاء بالمرجع، وتنفتح فيهنّ دلالات جديدة. ففي ملحمة جلجامش، يبسط الرّاوي جسد “شمخت” الغانية بسطاً أمام أنكيدو (رجل البراري المتوحّش البدائي المنفلت غير المدجّن)، ويمارس جسدها سحره؛ لتدجين المتوحّش الذّي فيه، وتمدين البرّي، وأنسنة المنفلت. وفعلاً، ينقاد أنكيدو إلى أوروك، وتفرش له مائدة الجسد العامرة، ومائدة المصنوعات: الخبز والخمر والثياب، فينسى لبعض الوقت ضواريه التّي تنشج في أعماق الغابات ليلاً، وينسى فرائسه المرميّة في البراري الممتدّة، وتضعف نفسه أمام الإنسانيّ الذّي فيه، والذّي أنضجه جسد الغانية.

في المرويّات الكبرى، في التاريخ الإنسانيّ، يعرض لجسد لِلْعَين، وتوضع فيه قوى ظاهرة وخفيّة ليكون مغوياً، وذابحاً، ومدوّخاً، وقادراً على ترويض النّمر الكامن في الدّواخل، ويصنع الجسد الأنثويّ جسداً ذكورياً نقيضاً له لمعادلة الصراع بين نظامين: نظام الرعي وجمع القوت، ونظام الزراعة والتمدّن. يوضع أنكيدو في مواجهة جلجامش؛ ويقوم جسد المرأة بدوره هذا، ويغيب تماماً. تظلّ العربة مليئة بالخضار أمام السابلة، ويظلّ حصان الذكورة واقفاً. في مسرحيتها “الليالي السومرية”، تعدّل لطفية الدليمي صورة الجسد بعض التعديل، فتهتم بشخوص غير شمخت وغير ساقية الحان، ممّن هنّ مجرّد لذّات أبيقوريّة تبذل المتعة وتشبع الرّغبات، وتعدّل الكفّة بعرض جسديات مفكّرة صانعة كاتبة شاعرة عرّافة، وأنشأت بينها صراعاً، تنهيه الملحمة بطريقة، وتنهيه الدليمي بطريقة مخالفة. الأولى تنهي الصّراع برحلة عجيبة للحصول على العشبة، في حين تنهيه الثانية بالتراجع عن فكرة الرحيل، والعودة إلى أوروك لنحت الخلود بالأعمال لا بأعشاب الخلود.

“ألف ليلة وليلة” ونيتشه

نيتشه
نيتشه

لم يجمع كتاب في الأدب – قديمه وحديثه – أجساداً كما جمع كتاب ألف ليلة وليلة، ولم يقرن كتاب بين الجسد والشرّ مثله. يعرّش في أجساده نبت الخيانات، والخسّة، وقلّة الأصل، وتنمو في أرض الدّناءات. أغلب أجساده أجساد مبذولة للعامة، لحم، مجرّد لذائذ منتهكة. ورغم أنّ راويتها امرأة، إلاّ أنّ المسرود ليس روايتها فقط، بل منطوق جمعي مسكون بتراث وخبايا عقديّة ووجدانية تشكّل تصوّرات للجسد الأنثويّ صيغت في مدد متطاولة، وشكلت ثقافة مسيطرة تتلخّص في شهوانية شبقية لذوية مدنّسة تصل إلى مرحلة الأبيقوريّة، دون فكر في الغالب، ودون صراعات يتشكّل معها الطرف الجسديّ العاقل المفكّر الذّي يوازن الكفّة. يستأثر الذّكر في الليالي غالباً بمهمّة التفكير؛ ويدرج جسد المرأة ضمن المسلّمات التّي تحدّدت مهمّاتها سلفاً. هذه التصوّرات للجسد هي إعادة إنتاج لنظم مجتمعيّة مستقرّة لم يعمل فيها الفكر معاوله بعد.

يقول نيتشه: “المرأة فخّ نصبته الطبيعة”. ولا يرى فيها غير وعاء شهوة، يضمن استمرار الإنسان المتفوّق. الخيانة، خيانة حبيبته له، وزواجها من شخص آخر، قد لا تبدو لقراء نيتشه مبرراً كافياً لموقفه من المرأة، وحتى وصوله لمرحلة الجنون من أجلها، قد لا يبدو كافياً، بل أنّ زارا بطل كتابة هكذا تحدث زارادشت لم يترك أسلوباً إلا وحطّ به من جسد المرأة، فهو يراها كائناً فارغاً، مسطّحاً، لا يعرف العمق، مجوّفاً، لا يحقّق السّعادة إلاّ بالخضوع. ولا يهمّ كيف، حتّى بالسوط والهراوة! لن نتبسّط في عرض ذلك لكونه معروفاً، لكنّ الجسديّ هنا يصبح نقيضاً للفكر والعقل والعلم والعمق والإرادة، وهي جسد غير وفيّ، ولا يوثق بصداقته، ويضعها في مرتبه الهرّة والعصفورة والبقرة. يمكن إجمال موقف نيتشه في قول زارا الموجه للعجوز: “إذا كان قلب الرجل مكمناً للقسوة، فقلب المرأة مكمنٌ الشرّ”. ربّما لا يعرف زارا النّساء كما قالت له العجوز. عدم معرفته بها فرض القسوة والعنف تجاهها. حين نقرأ قوله: “إذا ما ذهبتَ إلى النساء فلا تنس السوط”، نستعيد تاريخا طويلا من سوء الفهم، ومن الجسديات المستباحة، التّي ينبت في جنباتها شجر الشرّ. ولكنّ نيتشه ليس ذلك الفيلسوف السّهل، ولا يبدو أمر علاقته بالمرأة بكلّ هذه القتامة، ذلك أنّ “هذا المخبول، الملتهب الرأس، الذّي حيّرته العزلة تماماً، المتعاطي للأفيون بجرعات كبيرة بسبب اليأس” لم يتحدّث عن المرأة مطلقاً، بل تحدّث عن الحياة، كما يرى جاك دريدا. وسواء قصد الحياة أو المرأة؛ فإنّ للفيلسوف طرقه في إدارة المعنى، وفهمه الخاص للأخلاق، وفكرته البديعة عمّا وراء الخير والشرّ قد تجعل لرؤيته حول الجسد فهوما مختلفة.

المجهول الكبير الذي نظن معرفته

فيليب سوليرز
فيليب سوليرز

ينتهي كتاب فيليب سوليرز “بورتريهات نساء” بهذه الجملة: “فكروا للحظة، وأنتم تمرون أمام مسلة الأقصر وهي تنتصب في ساحة الكونكورد، ساحة لويس الخامس عشر سابقاً، في كل هذه النساء اللاتي تم التضحية بهن على مذبح التاريخ. ولا تنسوا كليوباترا ولا أفاعي النيل”. ذلك أنّ للنساء في حياته أثراً كبيراً، منذ روايته الأولى “نساء” إلى اليوم. ويحضر الجسد في رواياته حضورا مخصوصاً، إذ أنّه “رجل محاصر بالكتب”، مسيّج بالمعارف. يقرأ في العزلة، ويخلق أبطاله. وخلال مسيرته استطاع أن يبلور أسلوباً يربط بين العيش والمعرفة، وفي أعماله السردية استطاع أن يكثّف الإدراك تكثيفا حاداً. يتعرض صاحب مؤلّف “الكتابة وتجربة الحدود” في رواياته للجسد باعتباره تجربة حياة. هناك نصوص كثيرة يظنّ النّاس أنّها معروفة ومقروءة؛ هي في الحقيقة نصوص مجهولة تحتاج إلى إعادة القراءة. مثل ذلك أيضاً، أن يُوصف بعض الكتّاب بصفة معينة لا تكون في الغالب صحيحة، وتسيّج أعمالهم بتلك الصفة، فيظنّ أنّ تلك الصفة هي تلخيص لأعمالهم، وهذا حيف كبير. وما يحدثُ مع الكتّاب حَدثَ ولا يزال يحدث مع الجسد. إنّه المجهول الكبير الذّي نظنّ أنّنا تعرّفنا عليه، وانتهى الأمر. وهكذا يأخذنا سوليرز مع نسائه في رحلة حياة، يتبدّى الجسد فيها عتبات للتغيّر والتجدّد وإعادة التفكير في الحياة.

عندما يغيب الجسد تحضر لوازمه

هاروكي موراكامي
هاروكي موراكامي

ويختار بعض الروائيين عوالم من دون نساء في بعض أعمالهم. ومنهم هاروكي موراكامي في كتابه الذّي يستعير فيه اسم كتاب لإرنست هيمنغواي “رجال بلا نساء”. لكنّ القصص السّبع التّي يضمّها الكتاب تعجّ بصنوف من النّساء، لكنّهن يحضرن من خلال العزلة، في عقول وقلوب رجال يعانون من رهاب الوحدة والفقدان. بهذا الموضوع لا يبتعد موراكامي عن عوالمه الشديدة الارتباط بالعمق الحقيقيّ لشخصياته، وليس بالمظهر. يكسر القشرة ليطل على الجوهر، الذّي هو عنده العزلة والغرابة والضياع والقطط والفتيات الصغيرات والجاز والغربة، عالم غريب صرنا نتعرّفه بمجرّد قراءة فقرات من كل عمل لموراكامي. يعرض في أقاصيصه السبع حيوات رجال تخلّى عنهم نساؤهم، أو هم بصدد فقدانهن. يتابعهم الراوي في سرد قصصي حسّي مشبع بجسدانية غريبة، مغرقة في الواقعية حيناً وغارقة في الخيال أخرى. أبطال رجال بلا نساء، فيهم من تنتحر صديقته القديمة، التي كان يحبّها، امرأة تذكر مرّة واحدة في السياق، وتمضي، ولا يهتمّ بها أحد؛ ومنهم سائقة سيارة ممثل مشهور، لا يعرف عنها شيئاً، لكنّه يحكي لها عن خيانات زوجته التّي أتلف السرطان جسدها؛ وفيها رجل يشجع رجلاً آخر على مصاحبة حبيبته. بئر غارق من العزلات الوعرة التّي تنزلق إليه الشخصيات في جميع القصص، ويفتح موراكامي باب التخلّي والإهمال والخمول الذّي تنساق إليه الشخصيات. تمتلأ القصص بالمطلقين والمتروكين والخائبين والخائنين والأرامل، ويهتمّ الراوي بكلّ تفاصيل حياتهم، وحكاياتهم، والوحدة تلسع أجسادهم. هنا أيضاً، يحضر الجسد، ويهيمن على فضاء السّرد هيمنة تامة. في غيابه، تتشكّل منطقة سواد قاتمة، لا بشريّة؛ يغيب فيها الجسد، وتحضر لوازمه: الحرمان والآلام والحرقة والوجع وصريف الأسنان المرعب والخوف والحيرة والقلق والعزلة والدمع الذي هو المعنى الحقيقي لحياة الكائن.

عربة الخضار الحقيقيّة هي أجسادنا المرميّة نهباً للزّمان المتحوّل، وللمكان المتغيّر، وللثقافة النّاهشة التي لا تنفكّ تنهش أجسادنا. والمرويّات تصغي لهذا العالم، وتنقل حقيقته، وهي حقيقة مخجلة في الغالب. نعود من تغريباتنا في الحياة مثلما عاد الشيخ في رواية “الشّيخ والبحر” بهيكل عظمي نعلّقه على أبوابنا، لنثبت به قدرتنا الواهمة على مواجهة القدر. والحقيقة أنّ نجاحنا ليس غير لعبة كلمات فقط. نحن عربة خضار منهوشة، لا حول لها، ولا قوّة!

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.