الأداء في المسرح الشعري

ورشة فن - مسرح

0 473

سعاد خليل – ليبيا

كنا نعلم بان المسرح بدأ شعريا في بلاد الاغريق، بل في تراث الأقدمين كافة ثم تحول وتغير وتبدل حتى لم يعد المسرح بفهمه الارسطي مسرحيا وكذلك لم يعد الشعر بوصفه الكلام الموزون المقفى شعرا.

في أزمنة العولمة والغروتسك والاستهزاء، هل يعود الشعر والمسرح فيجتمعان ويلتقيان وينداح المشهد المسرحي عن سحر جديد؟ لعل الشعرية التي قصد إليها ارسطو في بلاد اليونان وقصد إليها أمثال الجاحظ والجرجاني والقلقشندي لا تزال تعمل ملهما في الابداع والمبدعين.. فثراء لغة الشعر وامتلاء لغة المسرح مقصد لتطويع القصيدة للفعل المسرحي الجسدي ولعل في شعرية المشهد المسرحي ما يوحي باكتناز روح اللغة شعرا وشاعرية سمعبصرية.

التقاء الشعر والمسرح، إشكالية معاصرة وآنية، بل هي انفتاح على مستقبل القصيدة والمشهد المسرحي، احتياج الفضاء المسرحي لعرض يوازي القصيدة، استشراف القصيدة لفضاء فعل يوازي البصرية المسرحية، بل ويوازي تلك العاطفة وذلك الجموح المشدود الى المؤدي والمقيد للمتلقي المنجذب المجذوب أمام حالة وأحوال الروح والجسد لخلق ما يدفع بالجمع إلى التنوير فالتغير والتبدل.

سنستعين بجزء من دراسة عن إشكالية الأداء والمعالجة في المسرح الشعري لقاسم محمد يقول في دراسته: يستطيع الدارس الباحث في المسرح العربي، أن يقف على أنماط وأساليب وأشكال مطورة من النصوص المسرحية العربية الشعرية تؤكد عددا من التطورات اللافتة، طوال عقود القرن العشرين لعدد كبير من صناع الدراما الشعرية، على امتداد خارطة الوطن العربي الكبير. كما تؤكد منجزا مسرحيا شعريا متقدما ومعاصرا معبرا عن روح الشعر العربي الفني كما عن المكنون العقلي المركب المبدع في الشعر المسرحي. ولكي تظل الإشكاليات الفنية، وبخاصة الأدائية التمثيلية تلازم المسرح الشعري في جانب البحث عن منهج وطريقة أداء ومعالجات ادائية متطورة أيضا تتعدى التقيد بقيود قوانين الشعر وضروبه مهما بلغت تقدما في خوضها بأساليب الشعر الحديث. حين التوقف عند الجانب الخاص بالمعالجة والأداء التمثيلي، ستبرز وبحدة هذه الإشكالية، بحيث تستدعي عمليا البحث المعمق ونظريا الدراسة الجادة من أجل تكوين رأي ورؤية ومنهج معرفي تثقيفي لحل او بعض حل اشكالية المعالجة والأداء التمثيلي للعرض المسرحي، مشخصا النقص الموجود في هذا الأداء الذي بقي عدا عن استثناءات نادرة هنا وهناك، دون أيما تقدم او تطور او تغير.

لقد كُرس في حركة المسرح نمط ادائي متوارث في أغلبه الأعم يقرأ النص، ويلقيه مبرزا الكلمة، الشعرية، على حساب (التجسيد) مما أشاع فهما قاصرا ومقتصرا على قراءة الشعر بانغماس بعيد عن البحث في وسائل الأداء التمثيلية المجسدة (لا الحكاية والرواية وبعيدا أيضا عما اكتشف من أنماط تفكير وتعبير وتصوير وابتكار في فن المسرح بشكل عام. وحيث ازدهرت باضطراد لغات تعبير بصرية في المشهد المسرحي وبخاصة في البحث السابر لمعطيات وطاقات الجسد والجسم والبدن وحيث اختص الجسد بجانب التجسيد عبر الذهن والنفس واختص الجسم بالتعبير بالعضلة والعظم كونه كتلة مجسمة، واختص البدن بالطابع والسلوكيات. وبما تكنزه هذه الطاقات من قوة تعبير عن الأفكار والأحاسيس ومعاني صور الكلمة).

لكن الممثل العربي بشكل عام بقي متوارثا عند أدائه للنص المسرحي الشعري، ولأسباب موضوعية تخص كامل حركة المسرح العربي شكل أداء يغلب عليه وباختصار:

طغيان موسيقى اللفظ وغنائية الصوت، ليس كنتيجة للبحث في أسلوب المعالجة وإيجاد حلول الأداء، ولكن نتيجة لمزاج المعالج والمؤدي وتصوره وهو خاضع لتوارثه المسبق والمكرر، مما شكل خللا وعيبا، بل وسطحية في الأداء التمثيلي الحديث والذي يميل نحو التلقائية لا الانفعال المزاجي الخاص. كما يميل إلى العقلانية بحثا عن أداء الحقيقة الفنية، التي هي نتاج البحث والتحليل ثم الوصول إلى أسلوب معالجة، ثم الابتكار بعيدا عن عكس صورة الواقع الخارجية بأداء صوتي متوارث، مكرس، منمط ومحدود.

ساد كذلك طغيان الأداء الصوتي الخارجي البحت وبخاصة لدى أولئك الممثلين الذين يمتلكون ولأسباب فسيولوجية خاصة بتكوينهم الخاص أصواتاُ ذات قرار معين فتكرس من الأداء الصوتي بعيدا عن الأداء الفعلي نسبة إلى فعل مسرحي وساد هنا مبدأ تعايش الشخصية الدرامية بكل مكوناتها. معارضة تعتمد كليا على الصوتي وزخرفته ونقشه. بمناسبة درامية او بدونها. إلى جانب العناية بموسيقية الحرف والكلمة حسبما يشتهي الممثل او المعالج، لا حسب قانون البحث والتحليل، وإيجاد الحلول عبر الجدل ثم الابتكار المؤدي إلى اخراج الحقائق الدرامية، ثم العمل على تحويلها إلى فنون أدائية بصرية. ذات معطيات داخلية عميقة، لا شكلانية صوتية خارجية، فيصرخ أو يسرع، أو يصمت، أو يبطئ، أو يغير طبقة الصوت دونما سبب أو تعليل آت من جدل التحليل والبحث والابتكار إلى الأمر الذي حقق سيادة عنصر الافتعال بدل وجود الانفعال. في أداء الممثل الذي اعتنى بالصوت وزخارفه الخارجية ولم يول عملية الفهم وتطويره، سواء في فن أداء الممثل المعاصر أو في فهم النص، كدراما لا كشعر صرف أو في فهم طرائق الأداء التمثيلي الابتكارية المبدعة بشكل خاص وهام.

إن الفهم هو سيد اللعبة المسرحية كلها وبخاصة في فنون المسرح الشعري هذا الفن النادر والخاص وقليل الوجود. وذلك لأن المبدع المسرحي ما هو في نهاية الامر الا فاهم عظيم. وبما أن المسرح هو المكان الأهم، بل ويكاد أن يكون المكان الوحيد الذي تجري فيه أحداث المسرحية، شعرية كانت أم نثرية، وبما أن إشكالية المعالجة والأداء التمثيلي باقية (ما عدا استثناءات نادرة) في عمل المعالج والممثل، يستدعي هذا الأمر الوقوف قليلا عند النص المسرحي الشعري، قبل الولوج إلى فضاء عالم المعالج والممثل. إذ أنه وعلى الرغم من التطورات التي أصابت النص المسرحي الشعري سواء في الشكل والمضمون لكن الشاعر المسرحي أو المسرحي الشاعر بقيا اسيرين بشكل ما، للمطولات والسرديات الشعرية التي لم يستطع الشاعر المسرحي مهما بدل من جهد أن يتخلص منها، مما انعكس على أداء الممثل رتابة وسردا وميلا نحو القاء الشعر بدرجة أو بأخري، بل وبقيت القصيدة المسرحية المطولة داخل النص الشعري ضرورة لغوية صرفة تسرد معلومات، بحيث ساد جانب المعلوماتي على حساب الدراما فتعطل احتدام الصراع الذي هو ملح المعالجة الأدائية الابتكارية كما توقف نمو الحدث والذي هو خبز البناء الدرامي في أداء الممثل وتسرب الملل (قاتل الدراما والنص والعرض والأداء) على الرغم من جزالة الشعر وروعة بنائه الشعري البحث. من جهة أخرى أسهمت النظرة العادية غير المميزة، تلك النظرة المألوفة والمتوارثة من قبل الممثل للنص الشعري المسرحي في أن يصبح الممثل قارئ نص شعري على خشبة المسرح، مبتهجا بانطباعاته واكتشافاته الأولية واعتمادها منهجا يطبقه وصولا إلى العرض.

ولأن هذا الممثل المبتهج باكتشاف انطباعات أولية هو ممثل حر غير باحث، فهو غير مبتكر وهو بالتالي قانع بما حصل عليه من انطباعات فقد انتابته أكثر من حيرة: حيرة بين القراءة لموسيقي الشعر في النص وحيرة بين ادراكه لإيقاع وحياة موسيقي الشعور، فما أن يتبع أداء موسيقي الشعر حتى يظهر طغيان موسيقي اللفظ المزخرف، المجرد ليطبع طريقة أداء الصوت. وما أن يتبع أداء قيادة الشعور، حتى تظهر المبالغة في الصوت والنبرات الصوتية مما يجعل الافتعال يحل محل الانفعال.

إذن بات من الأجدى لهذا الممثل النمطي، الوحيد التفكير أن يعمل الفكرة والتفكير ويبحث ويحلل قبل أن يذهب إلى التمرين وأن يجعل من البحث والتحليل هاجسا مستمرا في التفكير والقراءة وفي التمرين وأن يستدعي حكم الكلمة والحرف الدرامي، لا حكم القراءة التزيينية المزخرفة للصوت، حتى وإن أدي هذا كضرورة درامية فعلية، إلى كسر الإيقاع الرتيب والنمطي والوتيري الوحيد الجرس والطبقة. وهذا النمط من التفكير الخارج على النمطية سيقود الممثل إلى أن يشتغل على جماليات الصوت المعبر والمصور والمنفعل حسب تواتر المعاني والصورة؟ لا حسب تواتر القوافي والاجراس الصوتية والتفعيلات، كما يستدعي في ذات الوقت أهمية الاشتغال على الجسد والبدن والجسم. وليس على الصوت وحده باعتباره جهازا لقراءة الشعر، وذلك لخلق منظومة جماليات التعبير والتصوير والانفعال ولإبعاد كل ما هو مجرد وإحلال كل ما هو مفكر ومجسد.

إن الدعوة إلى أن يصبح الممثل عند الدخول إلى عالم أداء النص المسرحي الشعري باحثا، ما هي إلا دعوى إلى عالم أداء النص المسرحي الشعري باحثا ما هي الا دعوة إلى تحويله من قارئ نص منقذ لمجمل قوانين وأفانين وخاصيات الشعر إلى دراماتورج لشغله الأدائي وتحويله كذلك إلى متمكن من تحويلة القص والحكي والسرد المزخرف في النص الشعري إلى الخوض في ملحمة الدراما هذه الملحمة الواسعة افق التعبير أي البحث في جوهر التمثيل مع البحث عن الملحمي، دراميا في الشعري، خاصة وأن الشعر أصلا  ينطوي في بعض جوهره وبعض روحه على الملحمي، وذلك من أجل اكتشاف غنى الصورة الفعلية ووصولا إلى ايقاظ الخيال الحلم الحدس والابتكار وتغذية الابتكار. ولا شك أن كلا من هذه العناصر يستدعي تركيزا يكاد يكون نادرا من ذلك النوع الذي يعبر من الذهن والدماغ إلى العضلة والعظام والأعصاب فيشغلها ويمرنها ومع تمرينها تتمرن الذاكرة والحدس والخيال والبصيرة.

إن تكريس جانب أو عدة جوانب من الملحمي المكتشف عبر البحث والتنقيب ومن ثم تمرينه وإيجاد وسائل تعبيره المتنوعة عبر منظومات الصوت ومنظومات الجسد ليجسد هنا روح البعد المنشود عند نهاية رحلة الابداع المضاف. أن الدعوة إلى الاشتغال على الجسد إلى جانب الاشتغال على الصوت لكي يدرك الممثل، اعتيادي النظرة إلى فنه، بان الجسد المبدع يلتقط الحقيقة عبر التصور العقلاني لينظمها ويضيفها كاشفا ذاته متلذذا بالجمال والابتهاج الذي يرى نفسه فيه ولكي يعلم هذا الممثل وحيد الفهم أحادي النظرة بأن ما هو مخفي وكامن في الجسد المبدع أكثر تأثيرا مما هو جلي معلن، لهذا يفترض الجسد نصوصه المتربعة على عرض البيان والبلاغة والمعاني الماورائية المغطاة بحضارة هذا الجسد وزمانه وراهنه لتتسع الدلالات والتفسيرات مشكلة خطاب الجسد المبدع. أيضا أن ما يجعل الجسد مبدعا هو علاقته بكل ما هو تنافري وابتعادي وافتراقي في بناء الأفكار الدراماأدائية ولكي لا تحكمه مبادي النمطية والكليشيهات المتسخة، أن إدراك هذه الثقافة المسرحي الأدائية وتعميق إدراكها الوعي التام بمكوناتها ومعطياتها وأثرها على تطوير أداء الذات التمثيلية. يعني امتلاك وعي عظيم وإدراك عميق لأهم معاني الفهم، في عمل الممثل في المسرح الشعري بشكل خاص كما أنه مهم بشكل عام للمسرح العام. أن عنصر الفهم لمجمل عملية الممثل على نفسه وعلى دوره هو ما يجب أن يسود ويقود ذهنية وجسد الممثل، لكن يصبح بحق الممثل الفاهم الذي يرفض، انطباعات واكتشافاته الأولية، نتيجة لقراءته الأولية، بل ويدرك عميقا بأن الانطباعات والاكتشافات الاولى المتولدة عن القراءة الأولي، غالبا ما تكون طفيلية أو متحذلقة والتي سرعان ما يعافها بعد تنبيهه اليها ليعوذ وينزلق إلى عالم اطمئنانه وأمانه، النمط المقنع الذي عاش به وعليه وصار سمة مميزة له.

إن الممثل الفاهم هو الذي يمثل مطلبا وحاجة ضرورية للمسرح الشعري. يلجأ للمسرح بشكل عام، أن هذا الفاهم إحدى جدلياته المهمة هي البحث، ورغم أن البحث صعب وشاق أحيانا في فن الممثل العربي لكن توفر الممثل الفاهم سيجعل الأصعب والأشق من البحث هو جدل التخلي عن جميع ما اكتشف من أشكال وأساليب وأنماط أداء ونبذها ثم إعادة البحث من جديد عما لم يكتشفه في عالمه الشخصي الخارجي وفي عالمه الداخلي من فضاءات الابداع والابتكار والكشف، ولو عمق هذا الممثل حالات الولع والوله والعشق أثناء ما هو يعمل ويبحث ويتمرن بهذا سيذهب هذا الممثل بسهولة ومحبة إلى الأصعب من البحث.. إلى إدراك فجاجة الانطباعات الأولي: هي انطباعات تنصب على الشكلانية الخارجية البحتة، سيدرك ويكتشف تلك الفخاخ الطفيلية التمثيلية والحذلقة الأدائية.

خلاصة أن الممثل المطلوب للمسرح الشعري ليس قارئا جيدا لقصيد شعري، بل هو مكتشف لطريقة أداء تؤكد الأبعاد العميقة المتوغلة في المعنى، قبل الشكل الخارجي، أبعاد متوغلة في العالم الداخلي لصراع الانسان، ومعاناة وجوده الانساني. سيدرك بفهمه المطبوع أن عليه أن يحضر إلى المسرح الأحاسيس والأفكار العظيمة، اما تلك التافهة فيتركها خارج عتبة المسرح حسب دعوة ستانسلافسكي لا بد من إيجاد طرق وأفكار للخروج بالممثل من واقع شغل النمط إلى واقع شغل متحرك وطارق لأبواب اشتغالات جديدة حسب قدرة المكان المسرحي الذي يعمل ضمنه هذا الممثل ولعل التمرين الابتكاري كحالة اقترحها لتطوير الممثل المعني في ورقتي هذه لان التمرين الابتكاري وثقافته النظرية والعملية هو أحد تمايزات الممثل الفاهم المولع والعاشق لعمله والناظر إلى المستقبل. والولوج إلى عالم التمرين الابتكاري وتبني ثقافته سيقتضي ميزه أخرى، هي ميزة التمكن من إدراك وعي ضرورة الأهمية البحوثية في التمرين الابتكاري، بعيدا عن عمليه العمل الروتينية المكررة والخاملة المتوقفة تراوح في مكان فهم واحد.

ما هو التمرين الابتكاري.

يعتبر التمرين الابتكاري من منجزات المسرح المعاصر المهمة فيما يختص بطرائق الإعداد وتجهيز الممثل للأداء والعرض. حيث أن أهمية هذا التمرين تحدد بدقة العلاقة الخلاقة، بين الممثل وموضوعه الفني الشعري، كما أن التمرين الابتكاري هو تشغيل لحيويات جميع مكونات (التقنيات الداخلية والتقنيات الخارجية) للممثل وعلى رأسها ايقاظ خلايا دماغ خاملة وتحويلها عبر الشغل إلى عاملة. هنا نقترح مجموعة من تمارين الايروبيك العقل، وهي تمارين داخلية حلمية، وتمارين خارجة عملية تختص بموضوع دراماتورغية الممثل. إن من معطيات هذا التمرين هو أنه سيكشف وعبر البحث الدائم كيف أن تراكم الخبرة، إذا ترك دون نقاش وبحث وجدل مستمرة، قد أصبح نمطا مريحا ناجحا مضمونا ومطمئنا للممثل. لكنه وهنا اشكاليته، إشكالية الممثل، قد أصبح متوقفا تمام عند التكرار لا الإبداع بمبدأ عن البحث في الجديد الكامن. وقريبا من المسبق، المكرر، والمألوف. الضامن لراحة الممثل النمطي. هذا الممثل الذي لا يجهد نفسه في البحث عن مكامن الفهم المتجدد وتطويره عبر حالات من التغذية، تغدية الأفكار والانطباعات المستنبطة. بمبتكرات ووسائل تعبير لا تعرف ثباتا على نمط مكرر، بل تدفع إلى آفاق ادائية تتصاعد لتغني الوحدة التمرينية والمشهد وكل العناصر والمكونات خالقة حياة جديدة شابة ذات تنويعات أدائية ثرية بألوان من الذكاء والإدراك والفهم العميق للأثر الفني الشعري. إن التمرين الابتكاري يعني فيما يعني بالنسبة للأسس التي يجب أن يقوم عليها الاشتغال المسرحي في النص الشعري، ابتكار أشكال ووسائل تعبير في الاحياء وفي الأشياء من أجل خلق منظومة حركية بصرية ذات سمات تكون أشكالاً هي عبارة عن لغة تعبير مسرحية ممسرحة دالة ومؤثرة ومعبرة ليس عن معني الكلمة الشعرية ومبناها الشعري واسلوبيتها المنطقية، بل تكون كاشفة عن جوهر الصراع الدرامي على وجه التحديد والكائن إن وجد في الكلمة والمفردة الشعرية. تكون أي الاشكال كاشفة عن منظوما من الاشكال المستبطنة في الكلمة والتي على المبدع المعالج والمبدع الممثل الوصول اليها، بالبحث والتحليل ومن ثم توصيلها إلى ذلك الشريك في إقامة الحفل المسرحي: المشاهد، لكي يتأكد حضوره كمشاركة مع المبدع في خلق الحقل المسرحي الشعري.

لالونا

إن الممثل في المسرح الشعري لا يعتني بتدريب الأداء عبر ومع الجسد كجوهر آخر في عناصر الأداء، بل إن الممثل هنا في المسرح الشعري لا يعتني إلا بالجزء الذي يبدأ من الكتف فما فوق موظفا هذا الجزء اليسير لأدائه. لذلك وحسب بيتر بوك، في كتابه ليس هناك أسرار لا يمكن لهذا ا لتوظيف الجزئي أن يوصل مجموع أحاسيس الممثل وأفكاره سواء في اللغة أو في العضلة أو الوجه أو الأطراف. ويضيف بروك: على الممثل أن ينمي كل ما هو كامن في أجزاء جسده، في الظهر، في الساقين، في المؤخرة، وهذا يعني أن يكون الممثل في جمع الأوقات على اتصال بجميع أجزاء جسده. نشير إلى جميع هذه الانتباهات السابقة لننبه أيضا إلى أن النص المسرحي الشعري يحمل في ثناياه وفي أسلوب كتابته الكثير من عناصر التنميط والقولية ذات الوتيرية المقيدة بنظام وقوانين الاليات الشعرية من تفعيلات وأوزان وقوافي ومن صنعة تفرضها الأنماط والأغراض والتقنيات الخاصة بكتابة القصيدة الشعرية، مما يكرس نوعا من القيود يقيد الممثل في فهمه السائد، وفي شغله المتوارث إلى حد أن يتقيد بذات قيود النمط الشعري لا المسرحي فينمط أداءه ويحل الملل والوتيرية الواحدة، الأمر الذي يحد بدوره من انطلاقة التمرين أو التعبير فتصبح الكلمة بمثابة السد أو الحجاب كما يسميها ويشخصها بعمق ودراية النفري وهو أول من ادرك ووعى بعمق شديد الحساسية قسوة (حجاب) الكلمة والمعني مما دفعه إلى الكتابة بما لعله يفيد الممثل العادي ليخرج من عادي عمله حيث يقول: الحرف حجاب، كلية الحرف حجاب، فرعية الحرف حجاب، فاجعل الحرف وراءك اذا جزت الحرف وقفت في الرؤية. ولن تقف في الرؤية حتى ترى حجابي رؤية.

من علوم الرؤية أن ترى صمت الكل، إذ كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. ما الذي يقود الممثل في النص المسرحي الشعري إلى أن يجعل الرؤية هي الفضاء الأوسع والأشمل بل واللام لجوهر المعني، لا لمظهره البراني السطحي الأحادي العطاء؟ التحليل السابر لأغوار العوالم الخارجية والداخلية للممثل والنص والمعني والشكل، ومن ثم استخراج كل شيء من الباطن مع استنباط منظومة الأشكال والتشكيلات المالكة لروح الإشارة وقوة خلق الدلالة التي من ثمارها كشف مكامن الموت الذي يسببه ذلك الاسهاب والاستطراد والسرد والتطويل في البناء الشعري البحت. قد يكون كل هذا حاجة من حاجات القصيدة الشعرية لكنه في المسرح في قوانين الأداء التمثيلي المستحدثة، في المعالجات الدرامية العملية، في فضاء الأداء يعتبر ترهلا والترهل في النص أيما نص يعتبر من أسباب تعطيل تدفق الفعل ونبضه الحقيقي. مما يشير إلى موت العرض البطيء والممل. إن حالة الوقوف في الرؤية عند معالجة الحرف والكلمة في النص الشعري أداء يعني اكتشاف الصورة البصرية الكاشفة عن معني الدلالة والاشارة ومنح المشهد المسرحي عمقا تعبيريا مصورا من خلال المسرحة التي هي روح الأداء وجوهر المعالجة الدرامية خاصة في المسرح الشعري حيث ينبغي أن يكون كل ما في المسرح ممسرحا لإبعاد بطش الترهل والسرد والتطويل الشعري الصرف عن الأداء والمعالجة والعرض. يقول الأستاذ والباحث الدكتور أبو الحسن سلام: إن فن المسرح هو فن مركب لكن تركيبته تزداد وتتعقد عندما تكون بنية النصية شعرية الشكل ودرامية المضمون. لذا يقترح: يجب اتباع الإيقاع الموسيقي الداخلي للعبارة وليس التقسيم الموسيقي الخارجي لها. كما يفيد بيتر بروك برأي يقول فيه، إن مشكلتنا هي كيف نجذب الممثل ببطء وخطوة بعد خطوة نحو كشف مميز في البناء المدهش من الشعر والنثر والشعر المرسل. أن مشكلة الممثل الأخرى هي أن يحدد طريقة للتعامل مع الشعر فهو أن تناوله بانفعال مبالغ فيه، سينتهي إلى لغو منمق فارغ. وهو أن تناوله بعقلانية مبالغ فيها، فمن الممكن أن يفقد الحس الإنساني الموجود فيه، وهو إن تناوله تناولا حرفيا مبالغا فيه فسيصل إلى ما هو مألوف ومبتذل وسيضيع المعني الحقيقي. وينتهي بروك إلى القول: هناك مشكلات خطيرة ترتبط بالتكنيك وبالخيال وبالخبرة المعيشية. فينبغي حل هذه المشكلات من أجل خلق كل منسجم. ونحن في النهاية بحاجة إلى ممثلين يعرفون عن يقين أنه لا تناقض بين الأداء القوي والواقعي وأن عليهم أن يتنقلوا بنعومة وبدون جهد بين تعشيقات الشعر والنثر حسب تضمينات النص.

إن المسرح المرتكز إلى الشغل البحوثي الساعي إلى الآخر الكائن في الباطن في المخفي من روح ملحمي في الكتلة الشعرية والبيت الشعري، تتوالد فيه دائما أسئلة جدية من أسئلة قديمة سابقة، وتتراكم مع كل تمرين وبحث وتحليل وحالة ابتكارية.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.