الطليعة في المسرح

ورشة فن - مسرح

0 697

سعاد خليل-ليبيا

“إن اغتصاب الخيال من مجتمع ما، هو رهان مؤكد على يأس وضياع وخضوع هذا المجتمع، فالخيال قوة مجيء المستقبل، وحرية الخيال هي الضمان الحقيقي لقدرة مجابهة المجتمع لكل قوى التزمت والقهر طاقة حمايته من الوهن.

والفنون عموما وعبر مسيرة تطورها هي مشروع تمرد الانسان في مواجهة الانحطاط، كما أنها هي التي تمنحه امكانية صياغة آماله ومخاوفه، باعتمادها على الخيال: مملكة التصورات التي تعد الشرف الشعري للإنسان.”

الدكتور فوزي فهمي

 

منذ زمن بعيد جاء هرقليطس بمفهومه الفلسفي الذي يقول: إن كل شيء موجود وغير موجود أيضا، لأن كل شيء يجري، كل شيء في تغير مستمر، في صيرورة وانتهاء دائمين.

والانسان باعتباره كائنا ذا عقل يكون في تجديد مستمر وبحث دائم عما يمكن أن يفتح أمامه طريقا آخر لمعرفة أسرار الحياة والوجود ذلك لأنه في عالم الصيرورة لا في عالم جامد، وعليه فإن معرفة الانسان تتطور باستمرار وتتبدل، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ يكون الانسان متجددا، أي يعتبر أن معرفته ناقصة ولم تكتمل، ولهذا فهو دائم البحث عن التجديد والابتكار.

المسرح أيضا دائم في البحث والتجديد والتجريب واستحداث المدارس الفنية المختلفة التي كانت تعبر عن روح العصر، أينما وجدت، والتي تعتبر تطورا تاريخيا في أرضية الفن ومفاهيمه المسرحية. إن الفن وحسب التعريف الفلسفي له هو ليس مجرد مظهر للحياة بل هو عامل يؤثر فيها؛ لأنه يشكل بنية فوقية ترتبط بالحياة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع؛ فهو يعبر عن مفهوم للعالم لكل الطبقات. وفي التعريف الفلسفي للطليعة، أنها مصطلح أدبي يتمثل في الخروج عن حدود المعيار الاجتماعي وخصوصا في المسرح فهو يشير إلى الأعمال التجريبية أو المتجددة.

لقد تناولت العديد من المقالات عن المسرح الطليعي لعدد من الكتاب، وكانت أغلب مرجعياتهم إلى كتاب المسرح الطليعي (تأليف كريتوفر انيز) والذي ترجمه سامح شكري، وصدر عن أكاديمية الفنون، ويضم 490 صفحة، بكل الشروحات والاستدلالات بدراسة دقيقة عن الأعمال المسرحية للعديد من الكتاب والمخرجين الذين قدموا أعمالا لها الطابع الطليعي. في هذا المقال سأستعين أنا ايضا بهذا الكتاب كمرجع.

في مقدمة الكتاب المسرح الطليعي يعرف المؤلف هذا المصطلح بقوله: إنه مصطلح الطليعة Avant Garde  أصبح مصطلحا له حضوره الواسع حتى أنه بات يلصف وبشكل انتقائي بأي نمط من أنماط الفن يناقض ما هو تقليدي من حيث الشكل، وفي أبسط معانيه يؤخذ المصطلح أحيانا باعتباره وصفا لما هو جديد في زمن ما، وذلك الجديد الذي يمثل أبعد حد يمكن أن تصل إليه التجربة الفنية، وهو الحد الذي يصبح موضع تقادم باستمرار بالنسبة إلى الخطوة التالية المجاوزة له. إلا أن مصطلح الطليعة ليس مصطلحا حياديا من الوجهة القيمية كما يوحي الاستخدام السابق بذلك، فهو بالنسبة للنقاد الماركسيين من أمثال جورج لوكاش أصبح مرادفا لذلك الانحطاط الذي يعد عرضا ثقافيا لحالة الخمود التي يتمخض عنها المجتمع البرجوازي.

والطليعة بالنسبة للمدافعين عنها والمتبنيين لها هي الضرورة الحتمية في كل فنون عصرنا، ذلك أن العبقرية الحديثة هي عبقرية طليعية في جوهرها.

وترجع هذه التسمية وهي استعارها باكونين من مصطلح عصري، وجعلها عنوانا لجريدة لم تستمر طويلا وكانت هذه الجريدة تتميز بنزعة فوضوية معادية للحكومة، والتي كان ينشرها في سوسيرا عام 1878، إن مصطلح طليعة لم يستخدم كإشارة إلى الفن إلا من قبل مريدي باكونين وتلاميذه الذين كانوا من خلال تثويرهم لجماليات الابداع فكان هدفهم طرح تصور مسبق لثورة اجتماعية.

يوضح هذا الكتاب القيم أن الفن الطليعي مازال يتسم باقترانه بتوجه سياسي راديكالي، وإذا كان الفن الطليعي يستشرف مستقبلا ثوريا فقد كان بالدرجة ذاتها يقف موقف العداء من التقاليد الفنية سواء ارتبطت هذه التقاليد بالأجيال السابقة أو ارتبطت بالحضارة المعاصرة ذاتها. إن توجهات الفن الطليعي باعتبارها جميعا كلا كبيرا تبدو من الخارج وكأنها اجتمعت على رفض المؤسسات الاجتماعية والمواضعات الفنية الراسخة والوقوف موقف العداء من العامة (باعتبارهم ممثلين للنظام القائم).

ورغم ذلك فبعض الجماعات الفنية الصغيرة المنعزلة بل المعادية لبعضها البعض قد تتبني برامج وتوجهات ايجابية.

وهكذا نجد أن الفن الحديث يتصف بالتجزؤ والتشيع ويلازمه إصدار البيانات جنبا إلى جنب مع العمل الإبداعي؛ فالفن الحديث هكذا يعبر عن ذلك التعقد الشديد الذي يتصف به المجتمع بعد الصناعي، وذلك من خلال مجموعة متعددة من الحركات الفنية سماتها الدينامية واللاثبات، وتبني مقولات وتجريدات فلسفية؛ وهكذا تعددت المصطلحات والتوجهات التي تعبر عن هذه الحركات ما بين رمزية ومستقبلية وتعبيرية وشكلانية وسريالية.

ولعل ما يحدد ملامح هذه الحركة الطليعية؛ وهو أمر يتسم بالمفارقة؛ ليس السمات العصرية الواضحة المتمثلة في النزعة التكنولوجية التي سادت في العشرينيات مثلا وكان من نتاجها مفاهيم وأفكار مثال الحلات الحلمية ومستويات القل الباطن والغريزة الخاصة بالنفس البشرية، وكذلك التركيز على الأسطورة والسحر بشكل شبه ديني، وهو الأمر الذي أدى في المسرح إلى التجريب على الطقس والصياغة الطقوسية للعرض المسرحي، ويتواشج هذان الجانبان ليس فقط من خلال هذا المفهوم الذي وضعه يونغ، والذي يري فيه أن كل أشكال الأسطورة تتواجد في اللاوعي كتعبيرات عن أنماط نفسية أصلية؛ وإنما يتواشج هذان الجانبان أيضا من خلال تلك الفكرة القائلة بأن التفكير الرمزي الذي يقوم على خلق الاسطورة إنما يتقدم على كل من اللغة وللتفكير الاستطرادي، باعتبار أنه يكشف عن جوانب جوهرية في الواقع يصعب الاحاطة بها من خلال أية طريقة أخرى. إن هذين الجانبين يمثلان صياغتين مختلفتين للهدف ذاته؛ ألا وهو العودة إلى جذور الانسان؛ سواء كان من خلال النفس البشرية ذاتها أو عبر مرحلة ما قبل التاريخ، وينعكس هذا على المسرح بالعودة إلى الأشكال الأصلية مثل الطقوس الديونيسية في اليونان القديمة والعروض الشامانية والدراما الراقصة الخاصة بجزر البالي.

ولكم تميزت الدراما الطليعية، إلى جانب نزوعها إلى ضد المادية وإلى بوليطيقا ثورية، في التطلع إلى ما هو مفارق وإلى الروحي بالمعني الواسع، وفي هذا السياق يبدو لنا زعم انطونين ارتو بما أسماه بالمسرح المقدس – وهو زعم تلقفه بعده العديد من فناني الطليعة، اخرهم موراي شافر – أمرا كاشفا. كذلك يرى علماء الانثروبولوجيا وعلماء الأعراق أننا دائما بإمكاننا أن نري ونتلمس ذلك العنصر البدائي خلال منظومة الثقافة الغربية المعاصرة. الفنانون المبدعون وحدهم هم الذين يعيدون تأويل هذه النماذج الأولية ويوظفونها لأغراض مغايرة لطبيعة الثقافة الأصلية، ولكن هذا الاهتمام يعتبر بدائيا في الثقافية الغربية من جانب الدراما الطليعية؛ فهو أكثر من مجرد افتتان مظهري بما هو مستغرب أو ما هو همجي، فالنزعة البدائية في الدراما الطليعية كما تدلنا على ذلك مصطلحات من قبيل “المعمل المسرحي” والتي ذاع صيتها في الستينيات والسبعينيات تتواشج مع تجريب جمالي يهدف إلى الاستبقاء بالتقدم التقني للفن المسرحي. وهكذا نجد ظهور النزعات البدائية، وكذلك نظريات نقدية من قبيل نظرية الأدب الكرنفالي لميخائيل باختين، والتي تقترح أشكالا فنية تجسد ما هو فوضوي، وأيضا تجسد الثورية الكامنة في احتفالات الحصاد الخاصة بالزراعة عند قدماء الرومان والكرنفالات الشعبية في العصور الوسطي، وهذه الأشكال الفنية تعد جميعا بمثابة دليل للنماذج  الجمالية الثابتة، والمحدود في الوقت الحاضر كل هذه المظاهر البدائية، والتي كانت تشمل التقنيات الطقوسية والتراث الشرقي القديم والمهجور والحالات الحلمية والصور السريالية، أو محاولة استشارة العقل الباطن لدي المتلقي؛ حتى أن حدود المسرح الطليعي أصبحت غائمة ومن ثم من الصعوبة تحديد حركة المسرح الطليعي جزيئا.

يقول كريستوفر اينز في كتابه أن عناصر الفن الطليعي ظهرت في نماذج من المسرح التجريبي، فنجد أن بعض تعليقات و.ب. ييتس تعكس بشكل تام ذات توجهات هذا الفن؛ فهو يقول لقد طالما شعرت أن أعمالي ليست بالدراما ولكنها طقس. إنها درما تعبر بشكل مباشر عن تهويمات النفس، عن حديث الروح مع ذاتها. كما أن بيتس أخذ عن المسرح الياباني الـ(لنو)، واستخدام عناصر السحر والحركة ذات الصياغة الطقوسية التي تعد كلها من العناصر المميزة للفن الطليعي، وكذلك نزعته الصوفية لها ما يماثلها من سمات هذا الفن. وتعد بعض الأعمال لصمويل بيكيت في استخدامها للرمزية والسيكودراما على صلة بالفن الطليعي، كما يتبدى لنا ذلك في تجريد بيكيت مسرحه من كل تعبير مستهلك رغبة منه في خلق صور اختزالية.

إن  التيار الرئيس  في المسرح الطليعي لا يمكن تحديده بمجرد وجود سمات أسلوبية مشتركة وإن كانت هذه السمات شديدة الوضوح؛ إنما يعد المسرح الطليعي في أساسه توجها فلسفيا؛ فأعضاء هذا المسرح يربطهم توجه معين إزاء المجتمع الغربي، كما يربطهم توجه جمالي خاص، ورغبة في إعادة صياغة طبيعة العرض المسرحي، وهذا كله إنما يشكل أيديولوجيات متميزة يتسم بها المسرح الطليعي، ومن ثم فإنه على الرغم من وجود مشابهات أسلوبية بين أعمال كاتب رمزي مثل بيتس وآخر وجودي مثل بيكيت، وبين كتاب سرياليين مثل كوكتو وبريتون أو عبثي مثل اداموف وكاتب دي نزعة جينية مثل ت س اليرت، على الرغم من هذه المشابهات فإن جوهر فن هؤلاء جميعا إنما يتناقض في أساسه عن النزعة البدائية الفوضوية والبوليطيقا الراديكالية للمسرح الطليعي.

إن الحركة الطليعية في المسرح نجحت من خلال شيبارد ومنوشكين وويلسون في التعامل مع المسرح التقليدي الرسمي، وجعل المبادئ الطليعية القوة الدافعة وراء مسرح التيار السائد المعاصر، فخلال السبعينيات والثمانينيات أصبحت النزعة البدائية أيضا تشكل جانبا من جوانب الثقافة المسرحية بوجه عام، وعليه أحرزت انتشارا استثنائيا من خلال تجارب المجددين التي عبر عنها العديد من الفرق المختلفة.

إلى جانب كل ماورد، واختصارا، فإن هذا الكتاب يحتوي أيضا على دراسات وأبحاث تضم أسماء وفرق مسرحية منذ تأسيسها ومنهجها وعروضها، وفق الصيغ الطليعية الثلاث التي اتخذتها الفرق الصغيرة ذات الطباع الانتقالي، من خلال ثلاثة أمثلة لفرق مسرحية تتشابه في توجهها، وهدفها مع كل الفرق المسرحية الأخرى التي ظهرت على مدار العقود السابقة، وهذه الفرق الثلاث التي اخترناها هو توجهها المتطرف الذي يبرز السمات المختلفة فيها. فالفرق الأولى تعبر عن التوجه الطليعي ومنها فرقة الإله المتوحش لجون جولياني التي زعمت أنها تمثل هذا الإتجاه المسرحي الذي يمجد المشاركة، ويعلي من الظاهرة المسرحية باعتبارها عملية عوضا عن الملاحظة السلبية، والنظر إلى الظاهرية المسرحية باعتبارها منتج نهائي. أما التوجه الطليعي الثاني فنجده في أعمال رالف اوتيز، والتي تتميز بصياغة مبادئ ارت؛، أما النزعة الغرائبية التي تنطوي عليها أعمال فرقة أوبرا كومباني فهي تمثل التوجه الطليعي الثالث.

إن حركة الطليعة برزت أثناء الحرب كونها نوع وتغيير من التجريب، وهي كما ذكرنا تتعارض مع السياسات الاجتماعية المتقلبة، فهي مرتبطة بأدائها ورافضة المألوف والتقليدي، ولها القدرة على تفعيل الفرجة الممتعة، وتقديم النصوص بشكل يغوص في عمق فكرتها، أي مسرحا متمردا ورافضا.

كتاب المسرح الطليعي: تاليف كريستوفر اينز، ترجمة سامح فكري/أكاديمية الثنون، ١٩٩٤

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.