العلاقة بين المؤلف والجمهور

0 349

سعاد  خليل – ليبيا

كما هو معروف في المعادلة التي يعرفها الدكتور عبد المعطي شعراوي:

 المسرح هو نص وممثل وجمهور، بمعني النص المسرحي هو أحد الضلعين المتساويين في مثلث والثاني هو الجمهور؛ أما الضلع الثالث الذي يمثل القاعدة فهو الممثل الذي يربط بين الضلعين المتساويين. معنى ذلك أنه إذا غاب النص؛ فقد المثلث شكله الطبيعي. كذلك، إذا غاب الجمهور فقد المثلث شكله أيضا، مثلما أن أهمية النص تساوي أهمية الجمهور. من هنا، كانت العلاقة بين المؤلف المسرحي وجمهوره علاقة واجبة ابدية، لا يمكن لأحد الطرفين الاستغناء عنها. ولعل جولة سريعة، بين الإغريق في العصر الذهبي للمسرح، توضح كيف كانت العلاقة بين المؤلف المسرحي وجمهوره، وقد تعين أيضا على فهم العلاقة بين المؤلف المسرحي وجمهوره في مسرحنا اليوم. قبل أن نتعرف على هذه العلاقة القديمة، لا ننسي المكملات الأخرى للعمل المسرحي التي لا تقل أهمية عن الممثل والجمهور والمؤلف مثل: المخرج، والمكملات التقنية والسينوغرافيا؛ ولكنه الأخريات كان حضورهم بعد الميلاد. لنطالع جزء من الدراسة التي كتبها الدكتور عبد المعطي شعراوي:

كما نعلم أن الدراما الإغريقية نشأت من الاحتفالات الدينية التي كانت تقام تكريما للإله ديونيسيوس؛ الإله الذي حاز شهرة واسعة بين الإغريق، وأصبح إلها شعبيا تجتمع جميع طبقات الشعب الإغريقي على اختلاف مستوياتها في مواسم متعددة على مدار العام لتحتفل به؛ لذا كان من الطبيعي أن تنشأ الدراما مرتبطة بقصة ذلك الإله. بدأ مؤلفو الدراما الإغريقية الأوائل يعرضون مسرحيات تتناول قصة الإله، واستمر الأمر على ذلك المنوال حتى حدث شيء غير عادي استحق أن يسجله التاريخ.

اثناء أحد الاحتفالات المسرحية التي اعتاد الإغريق خلالها مشاهدة عدد من التراجيديات تتناول جميعها قصة الإله ديونوسوس كالعادة طبعا، فوجئ الجمهور بأن التراجيديا التي تعرض أمامهم لا تتناول قصة الإله. إنها تتناول قصة إله اخر، غير ديونوسوس؛ بل إنها تتناول قصة بطل من الأبطال الذي يمت من بعيد بصلة إلى إحدى الأساطير، عندئذ ثار الجمهور. ورفض العرض وهتف قائلا: إن هذا العرض لا يمت للإله ديونوسوس بصلة. أحس المؤلف المسرحي في ذلك الوقت أنه قد فقد إعجاب الجمهور، وأن الصلة بينه وبين جمهوره قد انقطعت، أو على وشك أن تنقطع. لم يكن المؤلف يقصد أن يغضب جمهوره؛ لكنه أراد أن يحدث بعض التجديد؛ فقد وجد أن المؤلفين من قبله قد استنفدوا كل ما أرادوا قوله لجمهورهم من خلال قصة الإله ديو نوسوس. لاحظ أن قصة الإله ديونوسوس لم تعد قادرة على أن تقدم شيئا جديدا إلى جمهور المسرح، الذي كان يتزايد عدده، وتتعدد اهتماماته، وتختلف مستوياته الفكرية؛ لذلك فقد خرج المؤلف عن المألوف وتناول قصة غير قصة الاله ديو نوسوس. ثار الجمهور: كان من الممكن أن يتراجع المؤلف، ويعود مرة ثانية إلى قصة الإله المعني؛ حتى لا يخسر رضا الجمهور؛ لكنه لم يفعل ذلك. انحنى للعاصفة وانسحب في هدوء، وبدأ يفكر كيف يوفق بين نفسه كمؤلف مسرحي عليه أن يقدم الجديد دائما، وأن يقدم ما فيه النفع لغيره. ظل يفكر كيف يوفق بين نفسه وجمهوره، دون أن يتنازل عن أفكاره، وفي نفس الوقت دون ان يخسر جمهوره. حان موعد الاحتفالات الثانية، وتقدم نفس المؤلف ليعرض مسرحية لا تتناول قصة الإله ديونوسوس، إلا أن الجمهور لم يثر هذه المرة، ولم يهتف عاليا كما حدث من قبل؛ بل استقبل الجمهور مسرحية المؤلف استقبالا رائعا بهذا العرض لا يمت للإله ديونوسوس بصلة، وفاز المؤلف بالجائزة وفضله الحكام على زملائه من المؤلفين.

هذا المؤلف هو براتيناس؛ رائد من أكبر الرواد في مجال التأليف المسرحي عند الاغريق، ولكن ما هو السبب في عدم ثورة الجمهور في المرة الثانية، وكيف استطاع المؤلف المسرحي برانيتاس أن يوفق بين رغبته في التجديد ورغبة الجمهور في المتعة. كل ما فعله هو أنه أدخل بعض التعديلات الطفيفة على مسرحيته الأولى. ألبس أفراد الكورس ملابس الساتوري. نحن نعلم أن الإغريق تخيلوا في أساطيرهم أن الإله ديونوسوس يرتع في الغابات، وحوله مجموعة من الشباب يعرفون باسم الساتوري. هؤلاء الساتوري كان يتخيلهم الإغريق على هيئة مخلوقات النصف الأعلى في هيئة بشرية والنصف الاسفل في هيئة حيوان معروف عند الاغريق ومنتشر في مراعيهم وهو الجدي (أو العنز)، وهذ ما فعله المؤلف عندما ألبس أفراد الكورس ملابس الساتوري؛ فخلق بذلك جوا عاما أمام الجمهور يذكرهم بالإله ديونوسوس الذي جاءوا ليحتفلوا به. بذلك لم يقطع براتيناس العلاقة الطيبة بينه وبين الجمهور، ولم يخسر جمهوره كما أنه في نفس الوقت لم يتنازل عما أراد أن يقدم لهم من أفكار، بل أكثر من ذلك فلقد أسدل التاريخ في سجلاته الخالدة بأنه قد ابتكر نوعا جديدا من الدراما؛ هي الدراما الساتورية، وبذلك أصبح لدى الإغريق نوعان من الدراما: التراجيديا والمسرحية الساتورية، بعد أن كان لديهم نوع واحد.

هكذا يستطيع المؤلف المسرحي أن يحافظ على قدسية العلاقة بينه وبين الجمهور دون ان يهبط بمستوي فنه أو يتنازل عن أفكاره. ولنأخذ مثلا آخر عند الاغريق له علاقة أيضا بالتأليف المسرحي.

لاحظ أحد المؤلفين المسرحيين أن التراجيديا الإغريقية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأساطير، فكل مؤلف مسرحي يختار أسطورة أو جزءا من أسطورة ليكون موضوع المسرحية. ولقد اتبع كل المؤلفين في بادئ الأمر هذا المنهج، حتى انحصرت كل موضوعات التراجيديا الإغريقية في مجال الأسطورة. وأراد هذا المؤلف أن يقدم شيئا جديدا، وعندما حان موعد الاحتفالات المسرحية فاجأ جمهوره بنص مسرحي غريب عليهم تماما. لم يكن موضوعه مستمدا من الأساطير، بل من التاريخ، بل وأكثر من ذلك أنه كان مستمدا من التاريخ المعاصر.  اختار المؤلف حادثا تاريخيا معاصرا، ثم اتخذه موضوعا لمسرحيته التي عرضها في ذلك الاحتفال، ولقد دون التاريخ في سجلاته عنوان ذلك العرض المسرحي، وهو (سقوط ميليتيوس)، كما سجل رد الفعل الذي حدث أثناء ذلك العرض.

 تروي لنا سجلات التاريخ ما يلي:

ما إن بدأ العرض المسرحي حتى استولت الدهشة على وجوه جماهير الحاضرين، ثم بدأت الدهشة تزداد شيئا فشيئا؛ فالعرض ليس له علاقة بأي إله من الآلهة، وليس له علاقة ببطل من أبطال الاساطير. إنه عرض غريب، إنه لا يتناول الأساطير على الاطلاق؛ إنه يتناول حادثا تاريخيا معاصرا؛ إنه يتحرك داخل صدورنا، إنه يصور حادثا معاشا في الوقت الحاضر، وفاجأ الجمهور الذي ثار داخل المسرح، وصاح في احتجاج شديد، أطلق صيحات الغضب وبدأ في مغادرة المسرح فأحدث خروجه ضوضاء شديدة، ثم استمر اثناء مغادرته لقاعة المسرح يهتف بسقوط العرض وضرورة مصادرته، وعدم عرضه مرة أخرى، وكما نعلم فإن هذه الاحتفالات المسرحية الإغريقية كان يشرف عليها هيئة تقوم بالحكم علي العروض، وتقرر في نهاية الاحتفال من المؤلفين سوف يحصل علي الجائزة الأولى. في هذه اللحظة، استولى الفزع على هيئة التحكيم، وأصدرت قرارا بل مجموعة من القرارات تعتبر من أعنف وأقسى القرارات التي أصدرتها أي لجنة في تاريخ المسرح الإغريقي. أصدرت قرار بوقف العرض، وفرض غرامة على المؤلف، ومصادرة العرض نهائيا. بمعنى أنه لن يسمح بعرض هذه المسرحية بعد ذلك على الإطلاق. لعلنا نتوقف لحظة عند هذ القرار الأخير؛ فهذه أول مرة يصدر قرار من السطلة إذ أن لجنة التحكيم تمثل السلطة بوقف عرض مسرحي. وانحنى المؤلف للعاصفة، ودفع الغرامة التي فرضتها عليه الدولة؛ لكنه لم يشأ ان يقف الأمر عند هذا الحد، فعندما قدم مسرحيته إنما أراد أن يقدم شيئا جديد وأن يساهم مساهمة جادة في تطوير مسرحه القومي، وأن يقدم فكرة جيدة ينفع بها أبناء قومه من الجماهير. إذن فإن كانت محاولته الأولى قد باءت بالفشل، فلا باس من محاولة ثانية.

قبل أن يقدم على محاولته الثانية، كان عليه أن يكتشف السبب الذي يكمن وراء ما حدث، والذي كان نتيجته ان ساءت العلاقة بينه وبين جمهوره، ومضت سنوات عشر ثم فاجأ نفسُ المؤلف جمهورَه بمسرحيته أخرى لا تتناول الأساطير؛ بل تتناول حادثا تاريخيا معاصرا لكن في هذه المرة حدث عكس ما حدث في المرة الأولى، فقد أعجب الجمهور بالعرض أيما إعجاب، وطالب أن تعرض المسرحية في احتفالات أخرى ولزمن أطول، كما قررت لجنة التحكيم منح المؤلف الجائرة الأولى في التأليف. كان لهذه المحاولة الثانية أثرها الهائل في حياة ذلك المؤلف المسرحي؛ ذلك المؤلف الذي يدعي فرونيخوس، والذي حفظ التاريخ في سجلاته أنه صاحب أول نص مسرحي تاريخي في العالم. وهكذا استطاع المؤلف المسرحي فروتيخوس أن يحافظ على قدسية العلاقة بينه وبين جمهوره دون أن يتنازل عن رغبته في التحديد أو التملق للجمهور بأن يقدم إليه فنا ذا مستوا غير رفيع.

كان هذا فقط قليل من كثير للتوضيح كيف كان المؤلف يهتم بالجمهور وما يعنيه هذا الجمهور له، وبالمقابل مدى أهمية المؤلف للجمهور؛ اذ أن العلاقة قديمة، والكاتب عليه أن يعي ما يطلبه الجمهور وما يجب أن يطرح للقضايا والاحداث.

فالعلاقة بين المؤلف المسرحي والجمهور علاقة لازمة، والمؤلف المسرحي الواعي يحافظ على قدسيتها الخاصة دون ان يلجأ إلى تملق الجماهير فيهبط في بئر الابتذال والسفه.

إن جمهور الفن، شأنه شأن جمهور أي نشاط اجتماعي آخر، هو بالضرورة جزء من التركيبة الاجتماعي في المجتمع، ونوعية التركيبة الاجتماعية في المجتمع تتغير من عصر إلى عصر حسب المتغيرات التي يمر بها المجتمع. قد تكون هذه المتغيرات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية، وبالتالي فإن أي متغيرات تطرأ على المجتمع فإنها تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على نوعية الجمهور. ومما لا شك فيه أن مجتمعنا العربي، شأنه في ذلك شأن المجتمع الإغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد، قد تعرض لمتغيرات عديدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأهم هذه المتغيرات هي المتغيرات السياسية. وعليه، لا بد ونحن في القرن الحادي والعشرين أن يكون لنا طرح انساني على الخشبة نحترم فيه ذوق المتفرج بعيدا عن الإسفاف والأعمال التي تتسم بالضعف؛ لأن الكاتب هو من تقع عليه المسئولية الأولى في العمل المسرحي. وأن يكون لدينا تطوير وتطور في اختيار المواضيع التي تخدم قضايا المجتمع.

اعتمد اعداد هذه المادة على كتابات الدكتور عبد المعطي شعراوي عن العلاقة بين المؤلف والجمهور منذ بداية نشأة المسرح قبل الميلاد.

.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.