أغنّيلك

0 683

مراد جراح-الأردن

صوت رنين خافت يصدح في السكون الإجباري؛ الذي يفرضه مراقب في الثلاثين. يقف في الزاوية اليمنى لإحدى قاعات الامتحانات، في كلّيّة الحجّاوي للهندسة، في جامعة اليرموك بكر مدينة اربد عروس الشمال الأردنيّة. يتبعه دويّ إلزامي تلقائيّ سريع ومتزامن تقريباً مع هذا الرنين “يرجى إغلاق الأجهزة الخلوية لو سمحتم، أنتم في امتحان”. أمر يصدر عن المراقب الذي لا يكلّف نفسه عناء الاستدارة لتقفّي أثر الرنين. صديقنا هنا، واسمه جاد، طالب في عامه الأخير، يمتثل سريعاً ويمدّ يده لإغلاق هاتفه؛ الذي باغته واستقبل رسالة قصيرة لم يكن ينتظرها في الساعة الخامسة بعد الظهر. يغلق هاتفه، دون أن ينظر حتّى ليكشف عن هوية المرسل. هو في امتحان وللامتحان هيبة أزليّة؛ تتجلّى دائماً بساديّة إن استشعرت أدنى ارتعاش في يد الممتحن. يعود هو لامتحانه “السؤال الأوّل ……صعب للغاية”، يتأفّف “السؤال الثاني …… لم أدرس هذا الجزء”،يتنهّد “السؤال الثالث …… ترى من أرسل لي تلك الرسالة، أهو عليّ ؟ لا، لا أعتقد، لست معتاداً على استقبال الرسائل القصيرة منه؛ ولا من أي أحد من أصحابي إن لم تكن هناك مناسبة دينيّة على الأبواب أو عيد وطنيّ، ثمّ لم هذا الفضول الآن لمعرفة المرسل، عليّ أن أركّز.”

“السؤال الثالث……أتراها هي المرسلة يا ترى؟! لا. لا أعتقد. لو أرادت أن تحدثّني مجدّداً لاتصلت. السؤال؛ ولكن ماذا لو منعها كبرياؤها من الاتصال، وأعياها الشوق فاختارت بضع كلماتٍ ليكنّ رسلها إليّ. حلٌّ وسطٌ ربما. قد تكون خشيت أن تتصل فلا أجيب تمنّعاً أو مكابرةً فتبدو صغيرة في مرآة ذاتها؛ وقد تكون تخيّرت الرسالة المكتوبة كي لا تترك لي مجالاً للمقاطعة أو لاستجداء المنطق في الحوار؛ فتخسر هي وشوقها المجنون وحبّها الأعمى. لا وقت الآن للتفكير فيها. عودة إلى الامتحان. إنسَ السؤال الثالث. إلى السؤال الرابع: أرسم العلاقة بين درجة الحرارة والمقاومة الكهربائيّة ……” يرسمها، ويحدّد القيم على الرسم ويتأفّف مجدّداً. يخلع عنه سترته الجلديّة؛ فلقد تغيّر الجوّ فجأةً كما هو الحال دائماّ في ربيع اربد. أربع فصول في اليوم. يعود إلى ورقة الامتحان وإلى هواجسه “شيءٌ ما ينبئني أنّها هي، شعور يغمرني وطيوف تستأثر بمخيّلتي، واشتياقي إليها يفتح الأبواب أمام الغزو الهمجي للامنطق بلا أدنى مقاومة عقلانية. أنا اجزم أنّها هي المرسلة. تراها لم تقدر على الفراق كما لم أقدر أنا. منذ التقينا، في إحدى الحفلات الصغيرة المقامة في الكلّية، وأنا أمنّي النفس بالاستحواذ على شفاهها الورديّة، وعلى خصرها المقاوم لجزيئات الكسل بلا أدنى جهد، وعلى عينيها العسليتين المائلتين إلى خضرة خجولة تنأى بنفسها عن الضوء، فلا يراها إلّا عاشق نرجسيٌّ يأبى أن يترك عينيّها لها. كم حدّقت فيها، رغم بعض بقايا تقوى أبت أن تهجرني خلال سنوات التيه، ورغم تعفّفي الأجدع الذي يقترح عليّ دائماً غضّ البصر عن المحجّبات لإحساسي واختياري التصديق بأنهنّ اخترن ألّا يكنّ لوحات زيتيّة على جدران لوفر هنا أو هناك؛ فلا يكون منّي سوى الانحناء احتراماً ونزع قبعة الشبق كلّما مررت بإحداهنّ.”

“لكنّي، وعلى الرغم من وجودي على بضع خطواتٍ منها، اخترت ألّا أبحر إليها. كنت أخاف أن أؤذي الطفولة فيها، وأنّ أيقظ ملاكاً نائماً عل كتفها الأيسر، فاسمها سبقها إليّ في عدّة مناسبات ولم يتله سوى كلُّ كلمات التقدير، فهي التي تبادر إلى عمل الخير، والانخراط في العمل التطوّعي، وهي التي يتجاوز عطفها الناس إلى البيئة، وهي التي تكاد لا تخفي ابتسامتها عن الوجوه لإيمانها بأنّها صلاة وقيام؛ فكيف لي أن أجرّدها ثوب البتول؟! فتركتها بعد مجاملة خفيفة، وسرقة لبضع كلمات من تلك الشفاه وابتسامة.”

“تركتها ولم تتركني، ولم تتركنا الصدف ولا مصائد الهوى، فالتقينا مجدّداً مراراً إلى أن قررت أن أغزوّها باحثاً عن اليقين في جلباتها…”.

يدوّي صوت المراقب من جديد ” لم يبق من الوقت إلّا الربع ساعة الأخير”. يعود جاد إلى دفء ذاكرته محتمياً من برد الامتحان الموعود بالبقاء إلى الفصل القادم. “وقعنا في مصيدة الهوى بدون أدنى تأثير للجاذبيّة الأرضيّة. تفتّح حبّنا مع ورد الجنائن. أدمنّا أصوات بعضنا؛ فلم نعد نجد سبيلاً إلى النوم دون التحدّث هاتفيّاً حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود من الفجر؛ ونذهب بعدها إلى محاضراتنا الجامعيّة سكارى ونلوم الأرق والأرق منّا بريء. ولا نكتفي بالليل ليكون ملاذنا؛ بل ونعمد التخطيط للمصادفات التي تجمعنا، ونحدّد مواعيد اللقاء عند الدرجة العشوائيّة في الطابق العشوائي، في الكلّيّة الجزافيّة، عندما تهبّ نسمة تحمل عطر الجوري سلاماً على شعاع الشمس المنعكس عن بلّورات قطرة ماءٍ تسقي ظلاً شربة الماء الأخيرة ….. ونلتقي حتماً.”

  • أحبّكِ
  • أحبّكَ

“نسرق من الزحام فسحةً نجلس فيها. أراقبها. أسألها أي شيء؛ عن أي شيء، ولا أعير الإجابة إلّا أذناً وقلباً. لا يهمني أن أتعلّم منها إلّا مخارج الحروف. ما الذّ صوت الكمان بلا توتّر الوتر. أحدّق في عينيها، وأكتب تلك الملحمة التي ترويانها لا سطراً فسطراً، ولا كلمة فكلمة، بل حرفاً فحرفاً؛ كي تستغرقني الأبديّة وأبديّة أخرى وأنا أحدّق فيهما ملهماً ثملاً نسي الطريق الى نفسه.”

  • من ذاك الشاب؟
  • ماضٍ أليم

أو يكون لزهر اللوز ماضٍ؟! أنتِ فتاة ذات ماضٍ أذن. حدّيثيني عنه. لا، لا تحدثيني. دعيني وحدي الآن. لا، لا تدعيني. ستغلبنا الغيبة إن أتّحدت مع الريبة. من هو؟ عابر سبيلٍ أم صاحب بيت؟ من هو؟ بقعة ماء تلاشت أم بقعة زيت؟ أحتضري الآن أجبيبي الآن. يا ليتها لم تجب يا ليت.”

“افترقنا …… أتراني تركت فيها محراباً يا ترى أم نيروناً صغيراً؟! أنا لا أريد العودة لا للصلاة فيها ولا للرقص على وقع اللهب؛ ولكنّي أكره أن أراها تحترق. ما أجملها مدينة لولا تاريخها؛ ولكن ليس لمن دخلها من الشرق خياراً إلّا أن يحاسب العتمة فيها على ماضيها ويعاتب جبليها وكهفها الوحيد، وصحراءها المقفرة على الجهة الأخرى والتلّة في نهايتها،ويعاتب زهر الرمان،ويغضب ويجنّ ويرحل ويحزن،ويكرهها ويحزن،ويحنّ إليها ويحزن،ويهمس بالقهر ويحزن،ويتمنى موتها ويحزن،ويكتب عنها ويحزن،ويكتب إليها ويحزن،ويتلو تأبينها ويحزن،ويكتم سرّها ويحزن،ويغضب ويجنّ ويرحل ويحزن .”

يسلّم ورقة الامتحان شبه فارغة ويهرع الى هاتفه؛لعلها هي. يحبّها هي؛ ولكن يحب شرقيّته أكثر. يريدها هي؛ ولكن يريدها عفيفة  أكثر. لعلّها تكذب الآن ويصدّقها وينخدع مجدّداً. ما أجمل الكذب حين تريد سماعه. يفتح الرسالة ويقرأ. يبتسم ويمشي. يبتسم ثم يضحك ثم يقهقه ثم يدمع ثم يتنهّد ويعود إلى البيت ماشياً .

الرسالة تقول: “مجاناً اليوم حمّل نغمة عاصي الحلّاني (جن جنوني) اتصل بـ 1313 رقمها     8300010200” والمرسل خدمة أغنّيلك .

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.