رحـلـة

0 367

نجيب جورج عوض- ألمانيا

“خصم المرأة ليس أباها أو أخاها و ليس الرجل لكونه رجلاً، إنما خصم المرأة هو المجتمع

   بقيمه وتقاليده وأغلاله”

_ عبد الرحمن منيف”بين الثقافة والسياسة”_

الفجر يفتح في الأفق عينه الذهبية؛ تغبِّشها بعض غيوم النعاس. تنهب سيارة التاكسي الإسفلت تجاه محطة النقل الداخلي. سائق في أواسط العمر، ثرثار، يزرع بحكاياته العائلية صباحي. يتأفف من زوجته، تصرُّ على العمل وتهدده بترك البيت والعودة إلى أهلها متهمةً إياه بالضرب وتعذيب الأولاد إذا أصر على الرفض.

–  آهٍ من المرأة يا أخينا. تحصل على ما تريد في النهاية ولا تفعل إلا ما برأسها. المرأة قوة وسيادة. صدقني. ما نحن إلا فحول نخدع أنفسنا وندَّعي القوة والسيطرة؛ لكننا مجردون من صبر وذكاء النساء.

يصمت برهةً، إذ يراني لا أشاطره أطراف الحديث. يخالني لا أكترث لموضوع المرأة. يلاحظ أنني لا أضع خاتماً في أيٍ من يديّ؛ فيستنتج أنني مازلت جاهلاً بما يملكه من معرفة وخبرة بالنساء. يسكت، ويتابع قيادته مستعجلاً وصولي للمحطة. لم أجادله؛ إذ قررت تجنُّب إثارة حفيظته بإقراري أنَّ زوجته تطلب حقاً طبيعياً. تركته يفرح باكتشافه الزوجي، ويعتزُّ بما يتحدث عنه.

محطة النقل الداخلي مزدحمة كعادتها بالباصات. مكاتبها تزيد عشرات المرات عن عدد الركاب. عصاباتٌ من الأولاد والرجال تهاجم كل من يحمل حقيبة أو نصف حقيبة أو حتى يلوح على وجهه أنه يفكر بالسفر لا أكثر. جماعات من الشابات تذهبن؛ تجلسن وراء زجاج المكاتب؛ تبتسمن للداني والقاصي؛ تغمزن بعينٍ قنَّاصة وتتبارين على اصطياد المسافرين. رجال الأمن موزعون في المحطة بأنوفٍ عالية، وعصي سلطانهم السوداء، دون اكتراثٍ بشؤون الأمن. بعضهم يتودد لبنات المكاتب، ويراقب بعضهم الآخر الناس، ويتسلى بفتح حقائبهم بدعوى التفتيش وغرضه الحقيقي قتل الوقت الثقيل.

أدخل المحطة وأنا أفكر بكلمات السائق، وأحيي زوجته من قلبي. مازال الفجر يتمطّى في السديم الرمادي الذي بدأ يزرقّ. أهيئ نفسي للسفر مطالعاً الأجساد الحديدية الطويلة تصطف بانتظار الركاب. يتجمع حولي رهط السماسرة عارضين بضاعتهم المدولبة. تعلمت أن أستعد مسبقاً لتلك الغارات بأن أشهر بطاقة رحلتي في وجوههم. أبدو كأحد رجال المخابرات الأمريكية في أحد الأفلام يرفع بطاقته فتُفتح الأبواب وتُشرَّع الدروب. حتى في السفر نحتاج لنوعٍ من التخويف والحيطة كما يبدو.

اقترب من الباص، يكاتفني سيلٌ من المسافرين ويلاطمني انجراف الحقائب والأمتعة. أحب السفر كثيراً وأعشق الترحال فوق الرصيف. معظم مكاتب السفر تآلفت مع وجهي من كثرة ما رميت نقودي كرمى لعيون رحلاتهم. يقف البولمان قرب كافيتريا المحطة. اعتدت، قبل الصعود للباص، أن آتي مبكراً لأتصفَّح المجلات والجرائد المعروضة في طرف الكافتيريا. لاحظت مؤخراً موجة إعلامية تشاطئ كل المجلات والجرائد السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الأدبية، الفضائحية وحتى الدينية: حرية وحقوق المرأة. باحثٌ يعرض رأيه الطليعي حول علاقة حرية المرأة بأسعار البورصة! آخر يربط مساواة المرأة والرجل بانخفاض أسعار البترول! مجلة تشيد باعتراف إحدى الحكومات العربية باكتشاف دور المرأة النضالي في إيلاد جحافل النضال وإنتاج جيل المستقبل. عالم بيئة يقدم كتاباً عن حقوق المرأة ودورها في العناية بالبيئة ! عناوينٌ أخرى كثيرة تعلن بأحرف مزخرفة عن الوعي الفكري العظيم الذي بلغته نُخب الفكر والثقافة في بلادنا حول موضوع المرأة. عدتُ لكلام السائق واكتشافه العظيم بأنَّ زوجته حكيمة وصبورة؛ تعرف كيف تحصل منه على ما تريد، وأنَّ الرجل يخدع نفسه بقوته. فكرت أنَّ موضة اليوم الحديث عن المرأة دون التفكير بها.  وقلت لنفسي: “ركبت رحلة تحرير المرأة باص مجتمعنا تاركةً المرأة نفسها على رصيف المحطة.” قلت هذا من باب قتل الوقت بانتظار الباص دون أن أتوقع أنني سأكون أحد ركاب تلك الرحلة هذا الصباح. شذَّت رحلتي عن قطيع دروبي السابقة هذا اليوم، كُتبَ لها أن تتحول إلى رحلة في امرأة.

*******************

لا أهتم عادةً بالتدقيق في وجوه المسافرين في الرحلة معي، سواء كانوا رجالاً أم نساء. إلا أنهم يقولون أنَّ الجمال لا يختفي، كالنور يتفجَّر وبالطبيعة يتجلَّى. عمل الكون الجميل يعلن حضوره، ويغمر الأجواء بعطره لا محالة. لذلك، لم يكن ممكناً أن لا التفت إلى حيث استدارت الوجوه، ووقف المسافرون ينظرون بصمت. كنت أقف بعيداً عن صندوق الأمتعة انتظر أن تخفَّ زحمة المسافرين. كانوا يتدافعون لوضع الحقائب بأسرع ما يمكن والوصول للمقاعد قبل الآخرين، لا أعرف لماذا. كنت بين الواقفين على الرصيف، أنظر إليها، وعقلي ما يزال يسوح في حديقة حقوق المرأة؛ التي جلت فيها عبر عناوين المجلات. فتاةٌ جميلة بلا شك. تقف منكمشة وسط الجموع المتلاطمة عند صندوق الأمتعة. متوسطة الطول، سمراء البشرة، صهباء الشعر بعيونٍ خضراء تنضح دفئاً لافتاً. كانت تسند حقيبتها بقدميها، وتحاول بجهدٍ جهيد وانزعاجٍ واضح أن تصل إلى مساعد السائق؛ لتناوله حقيبتها كي يرميها مع متاع باقي المسافرين في الصندوق. مرت أمامي بعض أقوال المجلات والصحف التي قراتها على عجل اليوم: “المرأة تساوي الرجل في كل شيء وتحتمل معه كل أعباء الحياة”، “نساء العالم يدخلن مجالات كانت مقتصرة على الرجل ويثبتن الجدارة والتفوق”. تساءلت ما الذي يزعج الفتاة مما يجري؟ الرجال الذين يزحمونها ناسين أنها أنثى؟ أم معاملتهم لها كالند الذي يجاريهم قسوة التدافع؟

حاولت الاقتراب منها مبدياً نخوة الشباب وروح المساعدة. درجت على تلك العادة، بعد أوقاتٍ عانيت فيها ذات الضيق والاختناق الجسدي بقوامي الشديد النحول المحشور بين غابة من اللحم الثخين القاسي والأفواه الهمجية العمياء، دون أن أجد من يساعدني: ومن يساعد الرجل؟ اقتربت منها وقلت:

– صباح الخير. هل لي بالمساعدة يا آنسة؟ هل لي أن أحمل حقيبتك مع حقيبتي ربما أستطع الاقتراب من باب الصندوق ووضعهما معاً.

وكأنها صُعقت بماسٍ كهربائيٍ أو تعرَّضت للإهانة والتجريح، أجابتني بنزق وبرود واضحين دون أن تلتفت إلي:

– لا. شكراً. أستطيع وضعها بنفسي.

عادت تنظر للزحام، وهي تتأفف وتردد كلمات النقد والانزعاج.

– رجل آخر لا يحترمنا. ذكرٌ آخر تسيّره الشهوة.

وقفت مشلولاً في مكاني، يعلوني الذهول وتربكني المفاجأة. “المرأة قوة وسيادة يا أخينا…… نحن فحولٌ نخدع أنفسنا.” رنَّت كلمات السائق في أذني. أتراني مسست. أبديت لها دونية ما، دون أن أدري ؟ أتراني أهنت أنوثتها ؟ أتراها تأففت لأنَّ المرأة الشريفة في الشرق لا يجب أن تتعاطى مع الغرباء؛ حتى ولو ساوتهم وكانت نداً لهم؟

ابتعدتً بحقيبتي، قبل أن يهاجمني أحد الحاضرين باسم النخوة الشرقية؛ ليحمي عرض المجني عليها. رفع مساعد السائق رأسه بين الأكتاف المنبطحة والإليات المشرئبة للأعلى. أهال وجهه علينا مباشرةً، وطوقنا بغضبه وعبوسه؛ تسيح من ثيابه قطرات كبيرة من العرق ذي الرائحة النفاذة؛ ولكن حين واجه وجه الفتاة انقلبت سحنته بقدرة قادر من رمادية الوجوم إلى اخضرار الغريزة. كمن أفاق تواً من النوم، ليرى عصفوراً جميلاً يقف على غصن موقظاً الشمس من ليلها؛ عصفور يوقظ عِرق الظَهر ويفتح مسام الرغبة. لم تكن الفتاة تنظر ناحيته. طرفته بعينها وطبعت في ذاكرتها صورته بلمحةٍ لم يدركها. افترس بكل نهمه الرجولي تضاريسها؛ مُعملاً أنياب مخيلته الحادة تمزيقاً لكل ما يستر الجسد. صاح فجأةً بصوت حاد لفت انتباه المتجمعين حول الباصات:

– على مهل يا شباب…… قليلاً من الاحترام، يا للعيب…… ألا ترون الفتاة المسكينة معصورة بينكم …… أين النخوة والمروءة يا شباب، يا حيف.

كان حديثه عن النخوة والمروءة هو ما منع الشباب من الإمساك بتلابيبه والاستعراض عضلياً أمام الفتاة.

– ابتعدوا عن الصندوق، ابتعدوا لو سمحتم. تفضلي يا آنسة، محسوبِك تحت الطلب…… جاهز لكل طلباتِك…… كلها !!

قال عبارته الأخيرة بنعومة، وشبق يفهمه أي شاب. تفاجأ الجميع من صوته، وتراجعوا للوراء انزعاجاً من نعيبه البشع وحقناً للنزاع. شلتهم المفاجأة، لا الخوف. أخفت الفتاة بكفها ابتسامة ماكرة، وغضّت طرف عينها برضىً تام وإحساسٍ بالثقة. وبقربها غرقت في بحر حيرتي: ما الذي أفرحها من استعراض المساعد؟

– تفضلي يا آنسة إلى الباص على الرحب والسعة. أخدمك بعيوني وأضع حقيبتكِ على رأسي.

كالطيف يلوح فجأة ثم يختفي، ذابت ضحكتها في تلافيف الأصابع المضمومة على الشفتين. علَت عينيها حواجبٌ رفيعة عابسة. ارتفعت خدودها في وضعية جادة ومتكبِّرة. اقتربت بسرعة، ورمت حقيبتها عند قدميه، واتجهت لباب الباص دون أن تنظر للمساعد أو حتى تقدم له كلمة شكر، أو تجد ضرورة لشكر الآخرين والاعتذار منهم. وقفت عند الباب، بثقة عالية بالنفس، وبدأت تعيد ترتيب خصلات شعرها بمرآة صغيرة، وتراقب فيها المساعد؛ وهو يحمل حقيبتها ويضعها بهدوء في الصندوق. سحرٌ ما قلب ابتسامة النشوة لنظرة جافة متحفظة. من يطلب المساواة، المساعد أم الفتاة؟

*************

تولد الصدفة من تواتر الغياب مع اللاشيء فلا ندرك كيف تُخلَق مناسبة من رحم اللحظة. صعدت الفتاة قبلي للباص. بعد موقفها معي لم أحاول النظر نحوها مطلقاً. عدت أنظر للركاب وأنا أقول لنفسي:

– لا تزعجها بلطافة قد تُشعرها بالمهانة، لها أن تختار ما تريد.

صعدتُ للباص وبدأت البحث عن رقم مقعدي. آن تهيأت للجلوس، رأيت وجهها ينبثق من خلف أحد المقاعد. بطاقتها تحمل الرقم المجاور لمقعدي. الدنيا أصغر مما نتخيل. لم أتطلع في وجهها وأنا أهمُّ بوضع حقيبتي اليدوية في الرف العلوي. من مصلحتي تجنُّب حربٍ أخرى؛ لكن الفراغ، ما بين ذراعي الممتدة للأعلى والرف مكنني بطرف العين، من لمح ما ارتسم على عينيها من نظرة مغناجٍ وخيط ابتسامةٍ طافحةٍ بالأنوثة يعبر رصيف شفتيها. احتلت الأنوثة المشهد فركنَت ذكورتي إلى جانب حقيبتي في الرف العلوي.

ليلٌ هذه الإشراقة لم يتأخر. سرعان ما غاب وجه الأنوثة والبسمة في بركة اللحظة التي استغرقها وضع الحقيبة. حلَّ مكانه وجهٌ آخر مع جلوسي وإدارتي لرأسي لأستأذنها:

– هل لي أن أجلس؟

طالعتني بوجهٍ خالٍ من أي تعبير، حاد النظرات، وجسدٍ يتململ مرتبكاً، ويدين عصبيتين تحارُ أين تضعهما؛ فترمي بهما من حضنها نحو شعرها مروراً بفمها وصولاً إلى الحافة البارزة لزجاج النافذة السفلي. تحولت فجأةً من زهرة نضرة متفتحة بكل عطور الجمال إلى فأرة صغيرة تدور في مصيدة ظنونها وغموض ذاتها.

من المعروف عني نحولي الشديد. يمازحني أصدقائي قائلين أنني أستطيع أن ألتحف ربطة عنقي، أو أنني أستطيع المرور بين قطرات المطر دون أن أبتل. واحدة من حسنات هذا النحول تظهر جلياً في السفر. لا أشغل عادةً من مقعدي عند السفر أكثر من ربع المقعد. أستخدم أيضاً ذراع السحب السفلي لأبعد كرسيي المسافة المتاحة عن الكرسي المجاور لأتيح لجاري الجلوس في مساحة أكبر. أحتل فقط ربع مقعدي تاركاً مقعداً وفراغاً فاصلاً وثلاثة أرباع مقعد لجاري. أذكر أنَّ انحشاري، في ربع مقعد، أنقذني مرةً من عذاب جارٍ سمين جداً ساقته بطاقته إلى جواري. كان فخذه يحتل مقعداً لوحده، وكتفاه تصلان لحافة المقعد العلوية، فيبقى رأسه متأرجحاً بدون مسند. كانت الرحلة طويلة كفاية لتجبرني على النوم بضعة ساعاتٍ كي أستطيع احتمال المسافة وصعوبة الطريق. حُرمتُ النوم طبعاً وحشرت نفسي بين النافذة وربع مقعدي المعتاد تاركاً لذاك الفيل المسكين نيل قسطه الكافي من النوم والتمدد رحمة له من جسده. كان يبدو عليه الإرهاق الشديد من وزنه الهائل، وقد حرر شخيره منذ لامست كتل الشحم إسفنج المقعد. الحق يقال أنه لم ينسى أنَّي بجانبه فقد قال:

– أعذرني إذا كنت سأزعجك في جلوسي.

كنت إذاً أفتخر بنحولي في السفر؛ إذ أنه يخدمني أحياناً، ويوفر عليَّ عناء الجدال مع الآخرين. وربما من الطبيعي أن أتوقع نوعاً من التقدير ولو الضمني من المسافر بقربي. أو على الأقل أفترض شعوره بالطمأنينة.

لم يحصل هذا معي هذه المرة. كانت صاحبتنا تجلس في المقعد الملاصق للنافذة. تلصق صدرها بشكل مائل لليمين بحافة النافذة، أبعد ما يمكن عن اتجاهي. كأنها تخاف أن أهجم على ما يربض تحت قميصها وأسرقه. كعادتي، احتليت ربع المقعد، وشددت ذراع السحب لأعطيها مساحة كافية قد تساعدها على الاسترخاء، وتشعرها بالاطمئنان بأنَّ من يجلس قربها مجرد مسافر؛ وليس سارق نهود. جمدتُ في وضعٍ محايدٍ صارم كي لا تعتقد أني سأبدأ طقوس الهيمنة والتطفُّل. هيأت نفسي لفكرة أنني سأكون تمثالاً من الشمع لبضعة ساعاتٍ قادمة.

لا أعرف لماذا، ولا كيف؛ إلا أنه بدا لي أنها بدأت تطمئن للوضع بعد فترة، وتقتنع بأنني لا أحاول فرض رجولتي عليها. لا أحاول جعلها قطعة سكر أو لوحة جميلة. أما أنا، فقد كادت رقبتي تيبس، وأنا لا أنظر إلا للأمام محاولاً أن لا أقحم نظري عليها أبداً؛ مثبتاً نظري على رقاب وجماجم الركاب؛ مع أنني أحب عادة تأمل الطريق والمشهد الطبيعي للطريق الساحلي بين اللاذقية ودمشق. بدوت حبيساً لظنونها؛ مقيَّداً بسلاسل ردود أفعالها، وما ستفهمه أو تفسره بسبب أي كلمة أو نظرة تعطيها أبعاداً لم تخطر ببالي. من يحتاج للطمأنينة هو أنا العالق ما بين تبجيل أنوثتها بموقفٍ بطوليٍ، مثل المساعد، والجمود كالصنم والنأي بجسدي أبعد ما يكون عن حدودها، هارباً بعيوني إلى ركن الحياد والبرود واللاهوية.

بدأ تشنُّج جسمها يخف مع ازدياد تصلُّب نظراتي للأمام. مدت يدها اليسرى إلى جانبها باسترخاء. أدارت رأسها تجاهي وجالت بنظرها على المسافرين، بعدما كانت للحظة خلت تلصق وجهها بالزجاج، وترمي شباك عيونها عميقاً في ماء الطريق لحوالي نصف المسافة. في غفلةٍ مني، وفي اللحظات التي ارتخت فيها أعصابي المتوترة، حاولت أن أغمض عيني وأسرق إغفاءة سريعة. أمكنني أن اشعر بها وقد احتلَّت بكامل جسدها كامل المقعد والفراغ الفاصل وثلاثة أرباع مقعدي. استرخت أطرافها، ولانَ جسدها إذ بدأ الاطمئنان والثقة يبزغان من صحراء عبوسها. وصلت يدها بالمصادفة لطرف فخذي فلم ترتعش أو ترتبك. وحين لمحت عيوني مغمضة من الإنهاك ورأسي يلوح في فراغ النعاس، لم تجد غضاضةً في أن تلامس أصابعها بفضولٍ أنثوي جانب فخذي؛ بل إنها رفعت يدها اليمنى لتداعب شعرها تاركةً بضعة خصال تهرب من أناملها وتطفو على بركة كتفي تحقن رقبتي بعبق جسدها الزكي. أذابت وجودي، وجلست كأنها لوحدها في المقعد، وقد نسيت كما يبدو شروط الاحترام والهيبة التي فرضت علي بذل الجهد الجهيد للاعتراف بحقوقها.

فتحت عيناي مرتجفاً بعد أن كدت أقع في الممر في إحدى الكبوات. رأيت كتفها يلاصق كتفي وهي جالسةً وابتسامة الراحة تعلو وجهها. يبدو أنَّ التوتر والحرب الباردة قد انتهتا بسلام. قلت لنفسي:

– الحمد لله مرت الأزمة على خير. أستطيع أن أجلس مرتاحاً وأستعيد حريتي.

لم تمهلني خيبة الأمل طويلاً. إذ ما أن لاحَ لها في الزجاج صورة عيني المفتوحتين، ورأت أنني لاحظت تريّضها؛ حتى تشنجت من جديد ودفعت نفسها بعصبية نحو النافذة محاولةً أن تشغل أقل من ربع مقعدها لو استطاعت. ولو لم أكن متأكداً أننا في باص يسير بسرعة كبيرة وأنَّ حدودنا الشرقية هي الزجاج لقلت أنها تكاد تقفز فارةً من النافذة. انكمشت على نفسها، استعادت عبوسها وجديتها وتأففها النزِق، دون أن تنسى وسط هذا أن تغمر أناملها في شعرها وتراقب رونق مكياجها في الضوء المنعكس على الزجاج، وتسوي قميصها وتشده على صدرها. رغم أنها حاولت خنق كلماتها في الفراغ الضيق بين فمها والزجاج إلا أنني استطعت التقاطها:

– أُفّ من الرجال، كلهم مثل بعضهم ما أن يجلسوا قرب امرأة حتى يحرموها احترامها. كأنهم يعتقدون أننا فريسة سهلة، مجرد حريم.

لم تكن رحلتها قد انتهت بعد حين وصلنا لنهاية رحلتنا. مشت قبلي في ممر الباص نحو الباب، وهي مازالت بَرِمَة تحمل ملامحها علامات الضيق والاحتقار. طالعها وجه المساعد بابتسامته الشهوانية وهي تنزل من الباب:

– شرّفت الباص يا آنسة، حمداً لله على السلامة.

لم تكلِّف نفسها عناء الإصغاء ، أدارت وجهها بانفعال مقصود وهي تردد نفس الكلمات:

– كلكم مثل بعضكم ، جنس واحد.

وقفَتْ أمام صندوق الأمتعة وقالت للمساعد بلهجة آمرة:

– حقيبتي لو سمحت.

– تحت أمرِك، والله بحملك أنتِ والحقيبة على رأسي.

كنت قد خرجت من الباص حينها. مددت يدي لأتناول حقيبتي. حملتها وتعمَّدت أن أسبق الفتاة مستفيداً من خفة وزني وطول ساقاي. سبقتها بخطواتي مسافة كافية وأدرت وجهي لأنظر لوجهها العابس للمرة الأخيرة. رأيت ابتسامة عريضة تطوِّق شفتيها، ونظرات الثقة والانتصار تشعُّ من وجهها، وهي تنفخ صدرها بكل اعتداد وراحة بال. من طرف رأسها الأيمن لمحت المساعد المسكين بوجهه الأبله تبتسم شفتاه وتغرق عيناه في بحرٍ من الحيرة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.