إعلان وفاة ليلى

1 393

علي السباعي – العراق

يقولون ليْلى في العراق…

…  أرملة، كأهل العراق ولدت حسب تعداد 12/10/ 1957م، في الأول من تموز، تموز العراق، تموز بلاد ما بين النهرين، تموز الخصب، دموزي. كانت وزوجها يعيشان ببغداد يوم كانت سلامًا، طلب منها زوجها أن تهيئ له طعام العشاء في غروب الأحد، كان غسق يوم الأحد يتكوم على رؤوس نخيل الكرخ والرصافة، ليلتها شهد كوكب الأرض أوضح ظهور للقمر، ((والقمرِ إِذا اتسق)). كان القمر في أقرب نقطة له من كوكبنا لهذا العام، كان القمر أكبر من المعتاد بنحو أربعة عشر في المائة، كما أن بريقه أزداد بواقع ثلاثين في المائة مقارنة بالأيام العادية من السنة، وليلتها، ليلة الأحد كان القمر على بعد نحو مئتين وواحد وعشرين ألف ميل فقط عن الأرض، عادت ليلى إلى زوجها بطعام عشائه، رأته جثة هامدة، وافته المنية ليلًا ((والليل وما وسق))، ليلة يوم الأحد المشؤوم بسبب أزمة قلبية ألمت به، ((وَأَغطَشَ ليلها وأَخَرجَ ضحها)). تنهدت ليلى، وعيناها الآشوريتان حزينتان تشعان بنظرة حزن ساخر يشتد لمعانهما على وجهها، وهي تقول لي بنظرات صافية متلألئة:

“فقدان زوجي أصبح ذكرى منسية”.

((والصبحِ إِذا تنفس))، نور النهار سطع مشرقًا من شمس ناضجة، الشمس تبدو فوقنا قاسية وصلفة، وقاسية هي حياتنا وموجعة، وجعها من جنون وجمر، مؤلمة قسوتها، وكم موجع حزن الناس في هذه الحياة، كانت ولا زالت حياتي مجموعة كاملة من الحرائق والضياعات حيث أعيش بائسًا منكسرًا حزينًا مثل أي واحد من العراقيين. مثلهم مقهورًا ومحبطًا وكئيبًا؛ لكن ليلى بزغت في عقلي، ليلى البائسة والمنكسرة والحزينة، أضاءت في عقلي الحياة، سألتها باستغراب ملؤه الفضول، وأنا أجس نبض حزنها فوق معصم مأساتها:

كيف نسيته؟

اتسعت عيناها حتى اكتملت دائرة الحزن فيهما، راحت تقص علي نبأها بحرقة ومرارة:

“بسبب إصابة أبني الصغير بمرض نفسي بعد انفجار سيارة مفخخة في مكان قريب جدًا منه، في بغداد أثناء توجهه إلى عمله، حيث قتل وأصيب العشرات من الأبرياء…”

لذت بالصمت، كنت أقف أمامها بصمت كامل، أرتقب منصهرًا في هذا الحزن الذي ينطق، احتشدت بحزنها، وتشبعت، تشبعت بألمها، مثلما أتشبع بالضوء، كان الفضاء البغدادي أمامي صافيًا، فضاء أبيض مثل نقاء البلور، مشبعًا بلون معدني، ضوء نقي ساطع بشكل استثنائي يشع قوة متقدة من شمس تتألق فوقنا، كنت أتنفس بصعوبة حتى أكاد أن أبكي أمامها، أمام هذا الحزن الذي يتغلغل في روحي، ويسيطر على ذاكرتي مع بكائها الأسود، وصوت ارتجافاتها المتواصلة المرة، كانت تنشج بمرارة تشبه انفجارات متقطعة تصدر من قلب بغداد النابض بالناس، ليس من اليسير عليّ تجاهل ما أمر به من عذابات الناس وآلامهم أثناء عملي، رغم أنني أخذت بنصيحة جدي الذي أكد علي مرارًا حين يأخذني معه إلى الجامع: “ثلاث لا بد أن تستقر في ذهنك: لا نجاة من الموت! ولا راحة في الدنيا!! ولا سلامة من كلام الناس!!!”. ترى أية مفارقة يضعني فيها القدر؛ أن أشاهد وأعيش وأعايش موت الناس يومياً، أعيش كل ما هو ناتج عن القاتم والعنيف والوحشي، وأظل أستدعي هذه الصرخات ليومي الدامي يوميًا، أعيد مشاهدتها ليلًا، أقلب في خلدي صور موتنا العشوائي التي تجعلني ملومًا محسورًا. وكأني قتورًا، ترى “أهذه هي الحياة التي كنت أركل بطن أمي لأجلها؟”… فأنا أتساءل سؤالك يا جبران بن خليل جبران، وأنا أعيش هلوعًا جزوعًا. ليلى لا تتحدث؛ إلا أن وجهها الموصلي الذي كان يحكي الكثير الكثير… رددت في سري ما أنشده أمل دنقل ذات نكسه: “سيعودون، فلا تبكي/ فما يرتضي المحبون أن تبكي الحبيبة”، أحسست بندم، بان على وجهها بعض الضيق وهي تستطرد مضيفة بصوتها المكسور وهي لا تقوى على مسح دموعها بيديها:

… منذها، وابني الشاب شارد الذهن، يبكي ويضحك دونما سبب…

أفلت، فساد الصمت لحظة ثم قالت بمرارة:

“فقد ولدي عقله.”

أحسست في تلك اللحظات بأنني يبور، كأني بوراً، أبور لمرأى الدم، أيأس، يائس أنا، وهذا ما يعذبني، هزت رأسها. سقطت دمعة بهدوء حزين، تابعت كأنها تكلم نفسها بصوت فيه نبرة خذلان واضحة وأكيدة:

“خلصنا عمرنا نقول: من الباب إلى المحراب فرج، وألف عمامة تتبدل. لكن! غادرنا بغداد صوب الموصل، حيث مسقط رأسي، وهناك يعيش أهلي، لأننا لا نملك موطئ قدم في بغداد.”

ظللت حائراً، لم تمهلني، خرجت كلماتها من فمها بشكل آلي:

” أفتتح ابني البكر محلاً لألعاب الفيديو (الأتاري).”

لمحت انفعالًا متناميًا على وجهها الحزين كقمر الأحد، القمر الحقيقي المكتمل الاستدارة، تابعت بصوت مقتضب:

“وابنتي ذات الثلاثة عشر عاماً بدأت دوامها بمدرسة، وتزوج ابني…”

صمتت، فحظيت بابتسامة ناعمة رحيمة قل العثور عليها على وجه عراقي في السنين الأخيرة، حيث يشاع عن العراقي أنه فقد موهبة الضحك. هناك ضحكة ساخرة أطلقها غوغو: “سأضحك ضحكتي الساخرة”. أطلقت ليلى ضحكتها المرة، مطمئنة القلب، وقالت:

“واعتقدت إن الحياة بدأت تبتسم لي بعد ولادة أول أحفادي.”

لمحت في عينيها الياقوتتين السوداوين أنهما أتقدتا نارًا، عيناها جمرتان فوق وجنتيها، تومضان مثل نجمتين من نجوم الظهر في تموز العراق، تقلصت ملامحها، ملامح وجهها فيما يشبه الألم، ثم قالت بصوت ناعم مشروخ:

“إن القدر النحس أبى إلا أن يلحق بي إلى الموصل.”

فتحت عيني بقوة وأنا أحدق في عينيها بدهشة، وقد وجدتهما تلمعان بقوة زادتهما حزنًا وانكسارًا، فصار وجهها أكثر بؤسًا وأشد جزعًا، سألتها بلهجة مشددة، وباقتضاب: كيف؟

تصلبت تعبيرات وجهها الجريئة، وأصبحت أكثر قسوة، اتسعت عيناها جافلتين من الرعب، فأجابت بنظرة كسيرة من عينيها وبصوت فاتر محبط:

“توفيت ابنتي البالغة بسكتة قلبية مفاجئة بعد أن خطبها داعشي صيني.”

في رأد الضحى شمس بغداد النحاسية عنيدة تصبغ الحياة بضوئها النحاسي القريب من لون النار، نظرت ليلى إليّ بتمعن، وفي وجهها نظرة ساخنة، وهي تستطرد لاوية فمها الشاحب، وبصوت حزين وعيون غارقة في الدموع قائلة:

“وردني اتصال من ولدي البكر من محله بألعاب الفيديو. لكن، كان المتحدث شخصاً غريباً، قال لي بعصبية تعالي إلى الدكان قبل أن نقتل أبنك…”

سماء الزوراء ممتدة أمامي صافية. صار الحر يطبق براثنه الملتهبة علينا، لم يبق لليلى سوى ذكريات الماضي دمدمت بما قاله جواد سليم ذات لحظة تأمل، رمقتني بنظرة متفحصة وأجهشت بالبكاء، تلألأت دموعها في عينيها المغمستين بضوء النيونات، تابعت حديثها بصوت واثق، وهي توزع نظراتها المليئة بالدموع علي:

“هرعت إلى محله ومعي ثلاث نسوة من جيراني وحفيدي الذي أحمله على ذراعي ذي الثلاث سنوات، كان الوقت بين العصر والغروب، وصلنا، وما أن اقتربنا من عتبة باب الدكان دوى صوت انفجار هائل…”

كنت لحظة حديثها مثل سحاب مركوم، تراجعت، تراجعت عيناها كما تراجعت عيناي عنها. ذبل وجهها كما ذبل وجهي، تسرب إليّ يأسها، رحت أحدق في سقف الغرفة بعينين نجلاوين متعبتين مرهقتين، ومشاعر الإحباط تعصف بروحي، انهمرت دموعي متساقطة بتعاسة، انكسرت، فقدت سلامي الداخلي، لحظتها، فقط، عرفت أن الحياة هزيلة، إنها فظيعة، نعم، مقرفة ورديئة، قالت بيأس وحيرة:

“غبت عن الوعي الذي لم أستعده إلا وأنا هنا بالمستشفى.”

وطني مملوء رعباً وقلقاً وموتاً، كان بلدًا مليئًا بالمتناقضات جميعها، الفرح والحزن، الحياة والموت، الشجاعة والجبن، العلن والسر، بلدنا يظهر ما في جعبته كله دفعة واحدة، دونت ذات وطن الشاعرة الموصلية منال الشيخ عبارة استوقفتني: “طوال عمرنا نرى خارطة العراق موّحدة على الورق فقط ولكن لا صلة روحية بين الشمال والجنوب مهما ادعينا ذلك”، كانت بالكاد تسيطر على نفسها أثناء محاولتها سرد تفاصيل مأساتها، كنت أراها تتعذب، تذكرتُ فرانسوا مورياك حين أخبرني بسر: “أطمئن! الذين لن يموتوا سيكون لديهم الوقت الكافي ليتعذبوا”، فتقول ليلى:

“أن الإرهابيين كانوا قد هددوا ابني بالقتل في حال امتناعه عن دفع الأتاوى لهم.”

الوقت منتصف النهار، كانت ليلى مثل فرس جريحة، رمقتني بنظرة من عينيها الساخطتين المسلطتين على عيني الدامعتين لأجلها، تابعت بنبرة كسيرة مخذولة:

“بعد امتناعه عن دفع الأتاوى، وضعوا له عبوة ناسفة بدكانه…”

كان يومًا عسيرًا عليّ، وجدتني أحادث نفسي بينما أتطلع إلى ليلى التي بدأ يكسو وجهها الأبيض لون البرونز، لون برونزي أنه: لون الموت. أنشدت في سري:

أبيات لشاذل طاقة: “حزينات ليالينا/ وليس بأفقنا نجم ولا قمر/ ومجدبة مراعينا/ وبياراتنا صفراء تنتحر/ مقطعة أيادينا../ وفوق قلوبنا صخر/ كأن عذابنا قدر…” آهٍ. حياتنا. حياتنا ظل زائل. كظل طائر حين يطير لا طائر ولا ظل.

تأثرت لمرأى الشمس من نافذة الصالة تهبط لتسرح شعرها الدخاني الأصفر المشوب بنار نحاسية فوق نخيل ذات أكمام، نخيل حزين، وحزن النخيل ذات الأكمام أبيض قديم، قدم ألمنا الأبيض، كانت أشجار النارنج تستريح بفيء ظلال النخيل، وبدا وجه ليلى البرونزي يسبح بالضوء، أرتج جسدها، لم يعد وجهها برونزياً، صار داكناً، تحت ضوء النيونات ونظرها صوب سماء ذهبية واسعة، نظرت إليّ نظرة مرعبة، نظرة قلق التمعت في تينك العينين الضاريتين الملبدتين بالدموع التي يحيط محجريهما الأزرق الشاحب، الشمس تهبط أكثر، انتبهت إلى الشمس تغمر الصالة، وأن رحلة عمرها قاربت محطتها الأخيرة، خفق قلبي بشدة وأنا أرى عيني ليلى اغرورقتا بالدموع التي أمطرت وأغرقت وجنتيها الشاحبتين، وأنا أسمعها بكل جوارحي تنطق بلهجة باترة باكية والابتسامة المريرة على شفتيها الشاحبتين المثنيتين ثنية الم وحسرة مرتين:

“فجروا العبوة الناسفة أثناء دخولنا الدكان.”

وقفت ملومًا مدحورًا، بكيت مذمومًا مخذولًا بعد أن أصبح كل شيء عندها عازفًا عن الحياة. كل يوم يزداد جسدها وهنًا على وهن منذ أن جلبتها فرق الطبابة العسكرية من الموصل إلى مستشفانا في بغداد. يقولون ليلى بالعراق أصيبت بساقيها وساعديها حيث سأقوم الآن ببتر ساقيها وساعديها باعتباري الجراح المشرف على حالتها الصحية؛ لأنها لم تستجب للعلاج. أما النسوة الثلاث اللواتي كن بصحبتها أصبن بجراح متباينة، وحفيدها الذي كانت تحمله بين ذراعيها قد مات.

قد يعجبك ايضا
تعليق 1
  1. لينا شباني يقول

    لم أذرف الدموع من عينيّ، بل انها تسربت من قلبي.
    يقولون أن ليلى في العراق… قتيلة.
    وكلنا في أوطاننا… مشروع جثة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.