الرواية غير المكتملة لجواد الإدريسي

مقطع من رواية "ليل طنجة – الرواية الأخيرة"

0 291

محمد سعيد احجيوج – المغرب

 

استوحى صديقنا احجيوج حكاية روايته كافكا في طنجة من سيرة حياة جواد طعّمها بكثير من الخيال والهراء. لاحقا عرف أحد أصدقائنا ولم يقل لنا كيف عرف أن جوادا وصلته حصته من غاز الخردل الإسباني واستوطن السرطان في خلايا دماغه التي صارت تأكل نفسها. محمد سعيد ليس أفضل مني. أنا أيضا يمكنني كتابة رواية. أنا أعرف جوادًا أكثر منه. أعرف عنه ما لا يعرفه غيري. سأكتب رواية عن جواد أفضل من كافكا في طنجة.

أقفلت عليّ غرفتي ولم أحضر حتى عزاء والدتي. سبعة أيام خلق فيها الرب الكون وحصل على يوم إجازة. سبعة أيام أصارع فيها تدفق الأفكار والرواية المراوغة والأوراق المبعثرة المستعصية طلاسمها عن الفك. العزاء مضيعة للوقت ليس إلا. لا أحد حزين مثلي ولا أحد جاء ليعزي كما يجب أن يكون العزاء. الجميع جاؤوا فقط لالتهام نصيبهم من وليمة المأتم. عجيب أمر هؤلاء الناس الذين يأتون إلى المأتم كما يأتون وليمة الزفاف. لا هم لهم غير بطونهم ولا يحاولون حتى تمثيل الحزن ولا حتى منع أنفسهم من تبادل النكات والضحك عند كل فاصل من فواصل تلاوة الطُلبة الجائعين دوما. حححميدة الجميلة سينخر فيك الدود سيلتهم أحشائك سيتدفق من كل ثقوبك سيغطي كامل بشرتك. حميدة اللعينة. الأسبوع كان سيكفيني لكتابة الرواية لكني بالكاد كتبت مسودة الفصل الأول. يجب أن أكمله اليوم. يجب وإلا فلا أمل أن أكمل الرواية أبدا. التركيز صعب والأفكار تتدفق من كل مكان. انطفأ المصباح. ها قد عادت عينك الخضراء لتومض. كان عليّ أن أضمك إلى صدري وأنفخ فيك ثم ألطمك بعنف قبل أن تعود للعمل. ذكرتني بالكمبيوتر الذي كان يحتاج إلى بضع لطمات صباحية قبل أن يقرر الاشتغال. أيها الطببببالطبيب اللعّعّعين لا دواؤك نفع ولا قلمك هذا الذي ألطمه على صدري وأنفخُ فيه في كلّ مرّة يتعطل وما أكثر ما يتعطّل. حميدة تسخر مني. حححميدة أيتها الملعونة سبعا اغربي عن أفكاري. ركز. ركز. وأنت أيضا يا عين السايكلوب ارتح جانبا سأعود إلى قلم الرصاص والأوراق التي كتبت. جواد يناديني. يعرف جواد بيقين تام أنه يحلم إلا أنه لم يملك فكاكا من الكابوس المطبق عليه. يدرك أنه على فراشه يقاوم ويحاول التقلب والاستيقاظ. لعله أيضا يصدر همهمات لتنبيه زوجته غير أنه احتمال بعيد المنال أن تستجيب له. كان جواد الإدريسي في المقهى مع أصدقائه المعلمين الذين يصفهم صديقهم إدريس المرابط بـ البشمرگة. أوريكا. نادي البشمرگة سيكون أنسب عنوان للرواية. هذا ما كان ينقصني. أحس بالبركان الخامد يزأر. وجدت العنوان. هذا ما كان ينقصني. أشعر أن الرواية ستتدفق الآن وسأصلح ثغرات الفصل الأول بسهولة.

ما عاد جواد يتواجد في مقهى كلاريدج إلا أياما معدودات في الشهر وحتى وهو برفقتهم الآن كان شاردا عنهم يحدق بنظرات فارغة إلى التلفاز المعلق المشرع نافذةً على ضيفين في برنامج حواري عربي يحاول فيه كل منهما التفوق على صاحبه أيهما الأعلى صوتا التلفاز المعلق. لم تكن مشادات الضيفين في البرنامج الحواري واضحة الكلمات والأصوات تبدو مكتومة كأن المقهى مفرغ من الهواء أو ممتلئ بالماء. سحب جواد بصره عن التلفاز ملتفتا إلى الباب نحو كريم الأزرق القادم بخطوات قصيرة مرتبكة. رآه مترددا يسحب قدميه متألما كأنه لا يعرف إن إذا ما كان عليه الإقبال أم الإدبار. عيناه محمرتان من أثر السكر على ما يبدو وجفناه ثقيلان ورأسه منكسة. دخل كريم وسحب كرسيا وجلس. لم يهتم بالرد على تحية أي منهم وبدا لهم واجما غائبا في عالم ما من العوالم التي ينتقل إليها حين يفرط في السكر. لعله الآن في أعماق بئر ينقب عن منفذ إلى غرفة الفندق المظلمة حيث وجد المرأة الغامضة التي قال عنها أنها خير من الحور العين اللواتي يفجر البعض أنفسهم ليفتحوا بابا سحريا إليهن عبر قبورهم. كثيرا ما قال كريم أنه يشرب حتى يفقد السيطرة على جفنيه فيجد نفسه يسقط في بئر عميقة جدا مسربلة بظلام كثيف حتى يصل إلى قعرها الجاف ويعبر عبر الجدار فيجد نفسه في بهو فندق يبدو عليه القدم كل غرفه مقفلة إلا غرفة واحدة وجد فيها امرأة لم تسمح له برؤيتها وألزمته بعدم إضاءة الغرفة. غمز جواد لي حين حكى كريم لأول مرة حكايته تلك عن رحلاته المزعومة خلال سكره. أخبرني لاحقا في طريقنا أن المشهد ذاك مأخوذ حرفيا من إحدى روايات هاروكي موراكامي. أعصر ذاكرتي الآن لتذكر عنوانها لكن لا فائدة. من الصعب وسم كريم الأزرق بسعة الاطلاع غير أنه لا يضيع أي كتاب مستعمل يراه يباع على قارعة الطريق في سوق المتلاشيات إلا وأتعب بائعه في مفاوضات مرهقة تدفع البائع أغلب الأحيان للتخلي عن الكتاب مجانا للتخلص من إزعاج كريم.

كثيرا ما تلمظ كريم بقصصه الشبقية مع تلك المرأة في الحلم. قال كريم أنه عاش مع تلك المرأة متعا لم يعشها مع أي امرأة أخرى لا من قبل ولا من بعد. لكن الوقت كان ما يزال عصرا ولم يكن من عادة كريم السكر صباحا.[1]

بقي جواد يحملق في وجه كريم بعض الوقت في حين تجاهله الآخرون وعاد من عاد منهم إلى شبكة الكلمات المتقاطعة في الجريدة وآخرون إلى مواصلة جدالٍ من جدالاتهم التي لا تنتهي وأحدهم رفع بصره إلى التلفاز الذي انتقل الآن لبث قناة يابانية عن عالم الحيوان. كُتم صوت التلفاز وصدح صوت فيروز من المذياع تغني عن جسر العودة إلى فلسطين. إليك هذه المعلومة أيها الطططبيب. لقد أحببت هذه الأوبريت كثيرا. ما زلت معجبا بها خاصة مطلعها أحترف الحزن والغياب أرتقب الآتي ولا يأتي. لكنها ما عادت تزرع فيَّ أي حماس. العاثر ينهض النازح يرجع المنتظرون يعودون وشريد الخيمة يرجع يدخل آلاف الأطفال من كبروا الليلة في الخارج عادوا كالبحر من الخارج. بخ. محض كلام يجري على الألسنة لا صلة قرابة له بالأفعال. هي مجرد أمنية ابتذلت لكثرة ما تكررت أملا زائفا.

ما زال جواد يقاوم محاولا الخروج من الحلم. يتذكر تماما الذكرى التي يحاول الحلم تكرارها. دقات قلبه تتسارع ولا يريد أن يعيش تلك الأحداث مجددا. الأحداث التي تتكرر أمامه تماما كما حدثت أول مرة. الآن يستشعر جواد كما استشعر من قبل من ملامح كريم أنه ثمة شيء ما غير طبيعي أن الخبر قادم. انقبض قلبه وأحس بكهرباء ساكنة تتجمع في الجو. استند على مسند مقعده وهم بالنهوض مدفوعا بقدرية الحلم ليغادر فما عاد يشعر بالراحة. لكن شفتي كريم انفرجتا آنذاك بغتة وانفلت لسانه من سجنه ونطق بالخبر وفات الوقت على هروب جواد من الكابوس. إدريس مات. إدريس انتحر.

عمالصمتالمقهىوبقيتالكلماتعالقةفيالحناجرولميستطعجوادابتلاعريقه….

لفظ كريم الخبر. إدريس انتحر. كل الأصوات في المقهى كانت مكتومة إلا القنبلة التي ألقاها كريم توقفت الكلمات في الحناجر وأخرس الصمت ألسنة الجميع تغلب أحدهم على وطأة الصدمة وسأل مرتبكا طالبا التأكيد متشككا أن سمعه خانه حاول جواد ابتلاع ريقه لكنه أحس بلسانه يلتصق بسقف فمه وأحس برأسه ثقيلة ثم أطبق عليه الظلام ولم يعد يحس بشيء تحررت الأصوات من الستارة الكاتمة وسمع رواد المقهى صوت الكؤوس الزجاجية تتهشم وصوت الطاولة تنقلب ورفقتهما صوت ارتطام جواد بالأرض كان جواد يحاول الاستناد على ذراعي مقعده للقيام قبل أن يسربل الظلام وعيه فسقط آخذا معه مفرش الطاولة وما عليها من كؤوس وما تحمل الكؤوس من سوائل. فكر جواد أنه لو كان هذا حلما حقا فإن هذه هي اللحظة المناسبة ليستيقظ. لم يعد للحلم ما يكشفه بعد هذا المشهد وفتح جواد عينيه بسهولة. كان نائما على ظهره. قلبه ما زال يدق بسرعة. قلبي يدق بسرعة. قطرات تكثفت على جبهتي. أشعر بعطش حارق. أحملق في القنينة البلاستيكية الفارغة. سموم سموم سموم أينما وليت وجهك. ثقب في الأوزون ثقب في القلب ثقوب في الذاكرة ثقوب في الجسد ثقب أسود بين فخذي حميدة ابتلعني امتصني انكمشت داخله ذبت داخله انصهرت داخله وسكبت عرقي على جسد الملعونة سبعا حميدة. حميدة. حميدة. حميدة. حميــــــــــــ(قلبه ما زال يدق بسرعة. جبهته مثقلة بقطرات العرق المتكثفة)ـــــــــــــــــــــدة. اغربي عن وجهي حححميدة اخرجي من جسدي.

قلبه ما يزال يدق بسرعة. جبهته مثقلة بقطرات العرق المتكثفة. شعر ببلل دافئ أسفل بطنه. لم يجرؤ على رفع الملاءة. اغربي عن وجهي حميدة اخرجي من جسدي.

قلبه ما يزال يدق بسرعة. جبهته مثقلة بقطرات العرق المتكثفة. شعر بتعب خرافي وشعر لأول وهلة ببلل دافئ بين فخذيه. لم يصدق نفسه. ظنَّ أنه ما زال يحلم وبأن البلل الذي يشعر به هو وهم السوائل التي انسكبت عليه خلال سقوطه فاقدا للوعي. لم يجرؤ على رفع الملاءة ولا أن يستكشف بيده. رمش بعينيه عدة مرات لكن شعوره بالبلل لم يتغير.

[1] ( لكن الوقت كان ما يزال عصرا ولم يكن من عادة كريم أن يتجرع الخمر قبل اختفاء آخر شعاع من ضوء الشمس إلا في الصباحات التي كان يغادر فيها الفراش خائبا. أو هذا ما كان يفترضه جواد وهو يعرف لا شك أن حكاية كريم منحولة حتما من رواية يوميات طائر الزنبرك.) أضحك. أتخيلني أرقص حول نفسي كما أبرع راقصة باليه. هو ذا عنوان رواية موراكامي جاء لوحده على لسان سارد حكاية جواد. بركاتك يا عم فرويد. أغمض عيني. أستشعر فوران الحمم في أعماق البركان. أرى ملامح جواد ونظراته المتعبة. في الخلفية تبهت صورة حميدة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.