شابر*.. وشم آخر لأروقة الموت

0 142

محمد الكامل بن زيد – الجزائر

ما يحدث للشمس خلف الجدار نراه غريبا جدا.

مزعجا جدا.

مستفزا جدا.

لا يكف عن إرسال ما بقي من سرها الأبدي إلى متاهات يومياتنا المملة.

بخبث متجذر، يقتادنا إلى أرضه الضحلة كي نمارس معه لعبته المفضلة. يجعلنا كل يوم نرمي أوراقنا المهشمة المبعثرة كي نتبيّن ماهيته، وفي قرارة نفسه يتمنى ألا نتفق على رأي واحد.

وبعد مضي اليوم كله، وحين يرانا اقتربنا من فضح ألاعيبه اللعينة، نجده يجمع شتاته ويغادرنا سريعا مع حقيبة الأسرار، وعلامة السرور والاستهزاء تعلو محياه.

– لقاؤنا غدا

وحين نحس أنه ابتعد بعيدا جدا، حيث لا يمكنه أن يرانا أو يسمعنا أو حتى يشعر بنا، نتبادل بيننا علامات الدهشة والأسى، ونردد في صمت:

– هو الغد

ونردد في امتعاض:

– هي الشمس ليست على ما يرام.

هو الوقت دائما لايزال مبكرا، والليل لم يحمل أمتعته ولم يغلق الباب خلفه، وهي لم تنتصف في كبد السماء بعد، لكنها تصر أن تحاصر بلهيبها كل أمل فجري يطوف بأجنحته الملائكية في أفقنا الحالم كل صباح.

ونحن هنا. ليس بمقدور أحد منا أن يغوص في ثنايا الجدار كي يستكشف حقيقة ما يحدث لها، ولا أحد لديه القدرة أن يجزم بتقدير صحيح كم مضى وهي في حالتها تلك؛ شهر أو شهران أو أكثر، لا ندري. هي احتمالات مشكوك في أمرها؛ فحساباتنا مبنية على عدد الخطوط المنقوشة عبر كامل الغرفة الضيّقة المشؤومة، والخطوط دنت من بعضها حتى تقاطعت.

إنها تتقد بشكل رهيب لم يُعهد عنها من قبل، وما تقدحه من شرر أصبح لا يطاق ولا يهادن، حتى إنه يرفض في عنهجيّة أن تصاحبه السحب الركامية في سيره في ملكوت الله.

أحدنا حاول أن يستبق الأحداث ويرمي بورقته؛ فكر أنه يحق له أن يقول شيئا عنها. اختمرت في ذهنه أنه سيفعل عين الصواب وسط السكوت المثير للغيظ والألم المخيّم، فنحن لا نختلف عن أسماك التونة المحشوة في علب قصديرية في شيء ما، عدا بعض الأحاديث من فينة إلى فينة تتوارد، فتشعرنا أننا بشر:

– إنها تنازع بشدة ما قدر لها أن تعيشه من صراع أزلي.

لزم الصمت برهة تأمل عبرها تقاسيم وجوهنا المنهكة من أثر الأشغال الشاقة التي قدر لنا أن نعيشها. لا أحد كان يتصور يوما أن تكون بمثل هذه الفظاعة وهذا العذاب.

الحراس الملاعين يجبروننا على تفريغ المحاجر من الرمال وتقليع قطع الآجر زحفا على الأرض، وإن لم نفعل كانت سياطهم الموبوءة واقتلاع الأظافر والأسنان والشفاه وتكسير العظام ودق المسامير في أجسادنا؛ هو جحيمنا.

لقد كانوا قساة جدا.

لقد عتوْا عتوًا كبيرا.

لقد كانـوا نهاية كل يوم سبـت، ساعة ما تعصـف الخمـرة بهم، يستلذون بتعذيبنا، ويرقصــون رقصــة الذئاب المسعــورة على أصوات تأوهاتنا وصيحاتنا.

أحدنا هذا بعد صمته استطرد:

– فهي تأبى أن تظل حبيسة “شروق وغروب”. فما بين عشقها لبني البشر وخوفها عليهم من أن تمسهم بسوء، وبين ما عُهد إليها من أن تمد الأرض بوهج شديد حتى تستمر الحياة عليها؛ تظل تبحث عن جواب يشفي غليلها.

خيّل لمن في الغرفة أن الرجل حين نطق نطق كفرا، وأيقظ ما كان راكدا في ذواتهم من تشققات، وحرك نوافذ موجعة ما كان لها أن تتحرك.

عيون شزرة تحدق فيه. تكاد تلتهمه من هول ما قاله .

رجل منا لم يستسغ ما قالـه ولم يصبر، كان هزيـل الجسد لكنه فـارع الطول. زفراته الغاضبة سبقت يديه التي كوّرها بقوة يريد أن يدك بصاحبنا إلى الاسفلت الطيني الغارق  في السواد:

– أجننت؟! أبلغت بك الجرأة أم أن طول مدة مكوثك معنا قد ذهبت بفكرك إلى متاهة الغياب؟. اللعنة. أتسب سيرورة الحياة التي خلقها الرحمن؟!

الرجل تكوّر في مكانه.

– لكني نطقت بما أحسست به تجاه الشمس.

كل منا رفض ممتعضا ما قام به الرجل فارع الطول في حق زميلنا؛ فنحن نعرفه حق اليقين بحكم السنوات التي قضاها معنا. هو رجل طيب ومسالم، هي كلمات قالها فكانت زلة لسان، الأكيد أنه لم يقصد أن يسب الذات الالهية. هو أراد  أن يعلن عما تستشعره جوارحنا من احتراق، لكنه نسي أننا فقدنا الكثير من عوالمنا  داخل علبة التونة.

الجدار من أشعة الشمس كأنه قطعة كبيرة من أسوار جهنم. الوجوه البائسة تتفرسه كأنه القطيعة الأبدية بين الحياة والموت.

بين آهات تنساب بين الطرقات والأحياء الطينية والبساتين وأشجار الصنوبر المتناثرة في الجبال، حتى ولو رافقها خوف فهو خوف مستتر تقديره إياك أن تفعل ما يجر قدميك إلى تلك الأسوار العالية؛ وبين أنفاس تحترق في شوق وتتلهف إلى البحث عن ملاذ آخر خارج الأسوار لتلعن من جديد. إياك.

– اللعنة على إياك..

البحث في كل زاوية من زوايا الغرفة عن ظل خفي تتوارى داخله من هذا الجحيم. كلما اقتربت يد منه، مسها غثيان عظيم، صاحبه صمت طويل رهيب يزيد من وحشة المكان؛ وحشة أكثر قساوة.

نحن ندرك أنها ساعات وستغيب الشمس عن الجدار، وسننعم ولو لساعات قليلة أخرى بشبــه برودة تنعــش قليلا أجســـادنا؛ ففي الغد إن كان هناك غد، ستحرقنا الشمس من جديد وسننتظر ككل مرة مساء آخر لا شمس فيه.

هكذا هي اللعبة التي ألفها الجميع.

قال أحدنا دون تحفظ ونادرا ما نسمع صوته:

– هذه الشمس حارقة مجنونة

رد آخر ونادرا أيضا ما نسمعه:

– هذه ليست شمسنا، شمسنا ستشرق قريبا.

علت الجميع ابتسامة حين جاءهم صوته حماسيا:

– نعم. شمسنا ستشرق قريبا.

إلا أن الابتسامة سرعان ما تلاشت وحل محلها الغضب والحزن:

– انتظرنا طويلا.

على الجدار الرابع المقابل للبوابة، كُتبت بخط متعرج أبيات لشاعر كان محكوما عليه بالإعدام قبلهم.

                       قام يختال كالمسيح وئيدا      يتهادى نشوانَ، يتلو النشيدا

وقربها خطوط طول وعرض توشمه. هي رموز لحكايات رجال ورجال مروا من هنا، ونحن أيضا لا يمر يوم إلا ونخط خطوطا جديدة. منا من يبتسم لأن العد قد اقترب على المجموع، ومنا من لا يبتسم لأن شكوكا تظل تساوره.

– ألا تخط اليوم؟

– لا أدري. لم أعد آبه بها.

– سيختلط عليك الحساب

– هي عندي كلها سواء.

– أنصحك

– بم؟

– أن تخط.

– لكني أشعر أن خط الأمس آخر خط

– فأل الله ولا فألك

جميع من في الغرفة الملعونة رفض هذه الجملة الانهزامية، فكل منا رغم ما تخامره من هواجــس مريرة. تشده إلى قـاع بلقع؛ قـاع لا محيص منه، إلا أننـا نحـاول أن نتبـين بشغــف كبـير أي حركـة من الحــراس الملاعين تدعونا إلى ملاذ جديد فيه شمسنا التي نحب.

لكن الانتظار طال، وأجفاننا أرهق رداءها جبل جاثم، والغرفة ازدادت عتمتها بعد أن تشابكت جدرانها، ولم نعد نشعر لا بالحر ولا بالبرودة كأننا أصحاب الكهف.

قال أحدنا كان يستند إلى رجل فارقنا منذ لحظات:

– لا تنسوا أن تخطوا بدلا عنه فقد أوصاني.

صاحب الصوت الحمـــاسي قام يصلي على الرجل الذي فارقنا منذ لحظـــات، وقمنا جميعا نصلي خلفه، إلا واحد بقي ينقش على الجدار أسماءنا جميعا وتحتها بحروف كبيرة كتب:

 .. شابر..

حمام بوحجر..

غرفة الاثنا عشر شهيدا

 

وشم:

جلس بجانبي وقد أعياه الزمن. كان رجلا طويلا مهابا. قال لي إن حكما بالإعدام صدر ضدّه ثلاث مرات، وأن اسمه إسماعيل، وأن لقبه مشرواي، وأن تهمته فدائي، وأن الرقم 8077 هو رقمه في سجن لامبيز**. آخر عملية قام بها هي تفجير مقهى للمستوطنين الفرنسيين.

قال لي أنه لم يلتق بهم لكنهم كانوا معه؛ مع جميع من سكن الزنزانات في أيام الحر الشديد.

وشم:

كانــوا اثني عشـــر رجـــلا، حين فتحت البوابة كانوا نائمين، حين أخذهم الحراس كانوا نائمين.

وشم:

إلى يومنا، هذا لا زالوا نائمين بين الأحراش المجاورة لجدران الأسوار العالية، والشمس فوقهم لم تفش بعد بسرها الأبدي لأن حقيبة الأسرار لم يجد لها أثرا.

 

*  شابر: معتقل ” شابرغيتون” يقع بين حمام بوحجر بعين تموشنت في وولاية سيدي بلعباس بمحاذاة بلدية “الشنتوف”. يعد من أبرز المعتقلات المعروفة على مستوى الوطن، شهد إبان الثورة عمليات قتل جماعية، فقد استشهد فيه 12 أسيرا من مناضلي جيش التحرير الوطني مجهولي الهوية دفنوا في المقابر التابعة للقرى المجاورة.

**  سجن لامبيز: سجن شهير بمدينة تازولت بولاية باتنة.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.