بائع السمك

0 333

سعيد نعام – المغرب

– الحوت..السردين!

لم يكن محمود بحاجة إلى مكبر صوت، كي يُشعر سكان الحيٍّ العتيق بقدومه؛ فقد كان للرجل صوت جَهْوَريٌّ، أشبه بصوت وسطاء المزاد العلني في سوق الخردة والمتلاشيات، يجرّ عربة بعجلتين غير متساويتين، بسبب خلل في إحْدامها، يميل يَمنة ويَسرة، في فقدان توازن ملحوظ كلما اعترضت سبيله إحدى الحفر، أو انتصبت أمامه منعرجات، فكان يبدو في سيره كالأعرج، أو كسكير ثَمِلٍ، خارج للتو من حان، تتبعه كتيبة من القطط، ببطون متكرشة، تخرس حين تلقف ما جاد به الزُّبُن، وتعود للمُواء حين تتوقف معدتها عن الهضم. صندوقان فقط، كانا يعتليان عرش عربة محمود كل يوم، لنوعين رخيصين من السمك، ما كانت أمي لتشتري أغلاهما، أو لتنبئني بأسماء غيرها، عندما تكلفني بمهمة التبضع، فقد كان مصدر ثقافتي الوحيد حول مخلوقات البحر، برامج جاك إيف كوستو الوثائقية!!

لم تعد كل الطرق لمدينتنا القديمة، تؤدي إلى منزلنا، أحياء وشوارع خاوية على عروشها، بمرسوم ملكي أصدرته كورونا، سكان لاذوا بالفرار في هلع، ودون عصيان إلى بيوتهم، نوارس أحكمت سيطرتها بالكامل، على فضاءات لم تكن ملكًا لها من قبل، واستباحت في طمأنينة أمكنة بنت فوقها أعشاشًا، في غفلة آل البيت، حين غرقوا في سبات اضطراري، كمن لبث في كهفه سنين. اختفت أجواء الهرج واللغو، والمساومات في السوق المركزي بين الباعة والسماسرة، وحَلَّت محلها لحظات صَفْوٍ، لأسراب من الطيور، والكلاب، وحتى الفئران، تمشي مختالة، غير عابئة بغياب مخلوقات، كانت بالأمس القريب تشكل مصدر تهديد لها. غير بعيد، تربض قوارب الصيد الصغيرة، ناظرة إلى أمواج البحر، وإلى سماء ملبدة بغيمة حبلى ذات ربيع، وبحر يسرد في وجع، حكايا بحارة امتطوا صهوته، أصبحوا يتطلعون بشوق، إلى زمن الوصل بأمواجه، ويتحسرون بسأم، على حال لم يعهدوه من قبل، لمدينة باتت تحضن آلامها في صمت، وتحصي أيامًا لم تعشها قط في تاريخها التليد، وجثثا غاصت بها المقابر. أسدل الليل ستاره، وهجع الأهل إلى مضاجعهم قبل الأوان، يُداعبون أحلاما بغد أفضل، ويُمَنُّون النفس بوصال قريب، لأماكن ظلت تسكن قلوبهم.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.