جنيّةٌ متقاعدة

0 788

روعة سنبل – سوريا

 مارستُ مهنتي بشغف لمدّة طويلة، ربّما مئات السّنوات بمقاييس البشر، فالزّمن هنا، عندنا، مختلف؛ كنتُ أنسلّ ليلاً، تزحف يدي برشاقة تحت وسادات الأطفال النّيام، أجمع أسنانهم اللّبنيّة، مخلّفةً لهم هدايا صغيرة تُسعدهم، ناثرةً خلفي غباراً ذهبيّاً، تحتضنه الأذرع الأولى للشّمس فيذوب، ويعجزعن رؤيته البشر؛ يسعدني يقيني أنّه هناك في الأسفل، تكمن أسنانٌ أقوى وأجمل، ستنبت قريباً.

 بالإضافة لراتبي الوظيفيّ الجيّد، كنت أكسب مالاً إضافيّاً من بيع الأسنان الّتي أجمعها، فهنا، في بلاد الجنيّات، نعتقد أنّ الأسنان اللّبنيّة تجلب الحظّ، وتدرأ العين الحاسدة، فنضمّها في قلائد نتزيّن بها، وتمائم نعلّقها.

   ولأنّ دوام الحال من المُحال، فقد فعل بي الزّمن فعله، لم تشفع لي همّتي العالية، ولا روحي الشّابّة، صرتُ بذاكرةٍ مترنّحة، وبصرٍ كليل، بيدين مرتعشتين، وركبتين متيبّستين، أفتقد الرّشاقة والسّرعة اللّتين يتطلّبهما عملي.

 كثُرت الشكاوى حولي، وأحِلتُ للتّقاعد.

   حاولتُ الاسترخاء مستمتعةً بعطلتي الطّويلة، متنعّمة بمدّخراتي، ولأنّني لم أعتد البطالة، أرهقني الفراغ، فلازمني الاكتئاب.

لم أصبر طويلاً، وضعتُ نسخاً من سيرتي الذّاتيّة هنا وهناك في شركات التّوظيف، وبعد فترة، ودون تردّدٍ أو دراسة للتّفاصيل، قبلتُ عملاً جديداً.

أخبروني أنّ وظيفتي الجديدة أسهل، تنسجم نوعاً ما مع خبرتي السّابقة، لكنّها لا تحتاج خفّة وسرعة، ولا تسلّلاً في الظّلام، أو بحثاً تحت الوسائد، ولا داعٍ لترك الهدايا، فهباتُ الجنيّات الصّغيرةُ، لا تسعد قلوب الكبار!

   في الفترة الأولى، أرّقني البياض الشّاحب لأسِرّة المشافي، وروائح التّعقيم، أرعبتني لمعة المشارط، وحمرة الدّم، أتعبني سكون وجوه المريضات المغيّبات، وتوتّر الجراحة.

مع الوقت صار كلّ شيء مالوفاً.

    أقف جنباً إلى جنب مع الطّبيب الجرّاح، أساعده دون أن يشعر، نستأصل معاً نهداً، أو بعض نهد، وشيئاً من تحت الإبط إن لزم الأمر.

 اقتلاع نهد مترهّل متهدّل بدا أمراً منطقيّاً بالنّسبة لي، أمّا ما أثار دهشتي، أنّنا بين الحين والآخر كنّا نقطف دون رحمة نهداً فتيّاًّ ناضجاً كثمرة رمّان! لم أفهم ما يحدث، ابتلعتُ دهشتي وجهلي، وعقدت العزم على البحث عن إجابات شافية في أوّل فرصة تتاح لي.

 بعد أيّام، فرغنا من استئصال بعضٍ من ثدي صبيّة، كدتُ أنصرفُ، لكنّ كتلة هلاميّة بيد الطّبيب لفتتني، راقبته بدهشة وهو يهمّ بتثبيتها مكان الجزء المجتثّ، شعرتُ بالنّدم، لتسرّعي بقبول عملي الجديد، دون إلمام بالصّورة الكاملة لما يحدث.

   في أوّل عطلة حظيت بها، لجأت،مع فضولي الملحّ وأسئلتي المعلّقة، إلى صديقة لي تكبرني، خبيرة بتفاصيل عوالم البشر.

يومها أخبرتني، أنّ الخبيث تسلّل لأجساد هؤلاء النّسوة، وأنّني أسلبهنّ نهودهنّ لأنّه عشّش فيها، أمّا هو فيسلبهنّ بريق عيونهنّ، نضارة وجوههنّ، خصلات شعرهنّ، وأحياناً أعمارهنّ.

بعد فنجانَي شاي، خرجتُ من بيتها بهمّة فاترة، وروحٍ كهلة، شعرتُ للمرّة الأولى أنني عجوزٌ مهدودة، ثقلت خطواتي حتّى كدت أجرّها جرّاً، وخبا بريق غباري الذّهبيّ حتّى كاد ينطفئ.

   وقتها فقط اكتشفتُ أنّني لا أملك القدرة على منحهنّ شيئاً، سوى غيابٍ مسطّحٍ، وأنوثة مبتورة، وقهرٍ معتّق.

أحزنني يقيني ألّا شيء يكمن هناك في الأسفل، ولن ينبت لامرأة ثدي جديد، أبداً أبداً!!

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.