رسالةُ الغفران -المشهدُ الأخير-

0 385

 فاطمة شُكر – العراق

 

لأنَّ الغُفران آخرُ المحطّات وسيّدُ النهاياتِ،

وموهبةُ الأحرار وصِبغةُ الإله..

لأنّنا أمامَ من نُحبُّ لا نملكُ إلا أن نغفر..

لكي نتحرّرَ من السخط، ومن ثقلِ الطين..

لنكشطَ صدأ القرون ورين القلوب..

لنُفسحَ للضوء أن يشرئِبَّ عبر الشقوق..

ولأن الكتابة برزخ التقاءِ الغضبِ بالمغفرة،

فإنَّ أصعبَ ما على الإنسان أن يبقى مُحباً حتى في سخطه…

(لا شيء، حتى أجدَ العنوانَ المناسب)

ظلَّ السطرُ بين القوسين يحتلُّ أعلى هذهِ الصفحات لوقتٍ طويل..

كاتبٌ ضائع، لا يستطيع إيجاد عنوان لنصِّهِ الذي استهلَكَ كلَّ شعوره…

اعتدْتُ دائماً أن أُصنِّفَ الأشخاص في خانات، أحفظَهُم في أدراجِ ذاكرتي، وعندما يبقى شيءٌ دون أن أعرف إلامَ ينتمي، لا يقرُّ لي قرار حتى أجدَ لهُ مكاناً.

هوسُ الانتماء…خوفُ الضياع،

كل ما فعلتُهُ كان لأجلِ أن لا أصل إلى هذهِ اللحظة، أن لا أعيش رُعبَ من يضلُّ الطريق بعد سبعٍ وأربعين نصّاً فلا أجدُ عنوانًا.

يستفزُّني الغموض… وعدمِ الوضوح.

لأنني قاسيتُ شعورَ أن تنبذكَ الخانات، وتسكنَ أسرَ المنفى..

وكان بالمقابل… شخصٌ لا يحبذُ وضوحي هذا، لذلك لم أجد له حيِّزًا في أيّ خانة.

آخرُ لقاء…كان هناكَ “طاقُ وردٍ” في إحدى زوايا غرفتِهِ، كل ما يحيطُهُ كان يحملُ شيئاً يُشيرُ إليه: كتبُ الفلسفة، المعاطف الثقيلة-لأنه يسكنُ منطقةً جبلية-، الشاي، ألوانُ الأثاثِ الداكنة، رموز فلسطين، كتاب الشرائع. أعتقدُ أنَّ الديكورَ الذي يختارُهُ المرءُ لمحيطهِ يُعبرُ عن شخصيّتِهِ بشكلٍ أو بآخر، وكل ما رأيتُهُ كان منطقياً وينطبقُ عليه…إلا “الورد”!!،

وردٌ طبيعيٌّ، نرجسٌ أصفر “daffodil” – واسمُهُ العِلمي “narcissus”، عدةُ أنواعٍ منه تنتمي لنفسِ الفصيلة، لكنَّ النوعَ المفضل عندي كان النوع الجبليّ “Narcissus supramontanus” – على وشكِ الذبول.. مركونٌ بجانبِ رفوف الكتب، بلا إناء ماء؛ زاهداً فيه صاحبُه كمَن خُذِلَ من الموعدِ الأول؛ مبعثراً… يُشبهُ بعثرةَ نفسي وأنا أرمُقُ المحيط بنظرةٍ أخيرة لأحتفظ بأكبر قدرٍ ممكنٍ من الذكريات، بسرعةٍ خشيةَ أن نتأخرَ عن الطائرة.

تساءلتُ: لماذا الورد؟ ما معنى ذلك، هل هي رمزيةٌ أخفقْتُ في اكتشافِها؟

قالَ لي: لماذا تبحثين عن المعنى وراء كلِّ شيء؟ ستمضي بكِ السنين وتتعلّمين أنَّ بعضَ الأشياءِ بلا معنى.

فظّ، قاسٍ، -تصنيف أوّلي- ربما يستحقُّ وضعَهُ في هذه الخانة..

يُربكُني أنّهُ من الأشخاصِ الذين لا أستطيعُ تصنيفَهُم. كانت محاولةً يائسةً أخيرة لأجدَ لهُ انتماءً واضحاً. كانَ يقولُ أنّه لا يجدرُ بي أن أكونَ شديدةَ الوضوح هكذا، بينما كانَ دبلوماسيًا وهادئًا جدًا. كنتُ أنا ذاتَ روحٍ ثوريةٍ جامحة لا تحفظات ولا مُجاملات؛ أقول ما أراهُ صواباً فقط ولا أعبأ بأحد؛ ربما لأنّني ما عادَ لي ما أخافُ خُسرانَه؛ لأنني تجردتُ من كلِّ ما قد يبتزُّهُ الخوف، من كلِّ ما يخشى المرءُ خسارتَه..

قاطعْتُ طقوسَهُ المقدسة في شُرب الشاي لأسألَهُ:

ما الذي تخشى فواتَهُ إن تحلّيتَ لمرةٍ واحدةٍ في حياتِكَ بالشجاعة لتعبرَ عن نفسِكَ بوضوح؟!

تجاهلَ سؤالي، أشاح ببصرِهِ عنّي صوبَ النافذة واستمرَّ بشُربِ الشاي..

-مستفزّ جداً- تصنيف آخر له.

سمحْتُ لنفسي أن أتطفلَ أكثر واتّجهتُ للرفوفِ التي تحتوي مسودّاتِهِ، حيثُ كانت أزهاري المفضلة تقضي نحبَها بهدوء. قرأتُ بعضاً من النصوص والنثر؛ كتاباتُهُ فائقةَ الإبداع، لها ذاتُ صفاتِهِ، ورثت عنه الغموض والتعقيد، كلمات متقطعة، جملٌ لم يكملْها، نصوصٌ طويلة تفيض بالوجع، كأنَّ أحدَهُم نزفَ روحَهُ على هذهِ الأوراق حتى الموت.

لم يبدُ عليهِ شيءٌ من هذا الحُزن الأنيق، فملامحُ وجهِهِ بارعةٌ في إخفاءِ مشاعرِهِ، كما كان بارعًا في إخفاءِ نفسه.

كنتُ، وفي كلِّ محاولاتي لاكتشافِهِ، حين أسألُهُ: لماذا تكتبُ بهذا الأسلوب؟

يجيبُني أنَّ: الكتابات لا تكشفُ إلا عن خيالِ صاحبِها، لا يُشترط أن تكونَ ذات وجودٍ واقعيٍّ في حياته…

-جوابٌ لطالما أنكرتُهُ في قرارةِ نفسي، فصورُ الخيال ليستْ إلا استعادةً واسترجاعًا لصورِ الواقعِ مع زيادةٍ ومعالجات لكنّها ليست افتعالاً أبدًا.

لا يمكنُ للمرء أن يكتبَ عن شعورٍ بهذه الدقّة إذا لم يُقاسِهِ فعلاً.

بعيداً عن كتاباتِهِ، بضع سنتمتراتٍ يمين المكتب، كتُبُه الفلسفية المفضلة. لم أحبّذِ الفلسفةَ ومطالبَها يومًا، ولم أشاطرْهُ ذاتَ اهتمامِهِ بها.

لم أكُن أعرف بمَ يُفتَرَضُ بي أن أجيبَهُ عندما سألَني عن إحدى شخصياتهِ في آخر نصّ: إن كنتُ أعتبرُ الموتَ نهايةً منطقيَّة لكلِّ هذا؟!

أجبته: “كلّا، ليس منطقيّاً، لكنّهُ نهايةٌ عادلة، سيشعرُ الجميعُ نحوها بالرضا.. وهذا هو الأهم. يبدو لي أنَّ البشرَ لا يبحثون عن المنطقية، ولا ينشدونَ سعاداتٍ عارمة، جُلُّ ما أرادوهُ في حياتهم هو محضُ الرضا”.

كانَ يقولُ عنّي أنّني لا أصلُحُ لعلاجِ المرضى، لأنّني مُصابَةٌ بفرطِ الشعورِ بالأشياء.

عموماً ما كنتُ سأثقُ بتحليل لشخصيّتي ممّن يُخفي حقيقةَ إحساسهِ بابتسامة، يسخرُ من آلامه، يجمعُها أكواماً في كيسٍ أمامَهُ ثم يحرقُها في أمسيةِ شواءٍ على الشاطئ، ويتجاهلُ وجودَ من يحبُّهم.

تلكَ آخرُ ذكرياتي عنهُ.

 * * * *

سريعاً تقدّمَ الزمن بضعَ سنوات إلى تلكَ الصدفة التي كانَتْ أفظعَ من ألفِ ميعاد، لم يتغير أيٌّ منّا. مازلتُ أنا بطِباعي القديمة التي افترقْنا عليها، الشخصيّة القادمة من أقلِّ المدنِ تطوّراً (قم المقدسة)، ألُفُّ الكوفيّةَ حولَ عُنُقي في الليالي الباردة. أراقبُهُ وهو يشوي أحزانَهُ، بينما أشوي الذرة وأستمعُ إلى قصيدة (منم بايد برم، آره برم سرم بره…) على الساحل -كانت هذهِ القصيدة من أشهرِ الألحان في قُم المقدّسة التي أُصدِرَتْ قبل خمسِ سنوات تخليداً لشهداء الدفاع المقدّس عن حرم العقيلة سلام الله عليها-

وهو الذي يسكنُ مدينةً ساحليةً في الريف الشمالي التي تُزعجُني رطوبةُ جوّها وأمطارُها الغزيرة، لم يتغيَّرْ شيءٌ من غموضِهِ، وخفائهِ، نبرةُ صوتِه متّزنة كيقينِ شجرِ السنديانِ بثباتِه، تعمرُ الكلمات في داخلِهِ ولا يبوحُ بها، كمعمّراتِ الشمشادِ في حديقةِ نمكأبرود المجاورة لقريته، ثمَّ يبثُّ كلَّ شيءٍ في قصيدة، أو نص أو مناظرة. مازالَ يحبُّ الألوان الداكنة، والمعاطفَ الثقيلة الطويلة التي تصلُ إلى ركبتِهِ فتمنحُهُ شكلَ وطواطٍ مهيب.

وأنا ما زلتُ أحبُّ اللونَ الأصفر، والنرجس، والوضوح…

انتهزْتُ الفرصة لأنها قد تكونُ الأخيرة، لأقول له: الآن بعد مرور كلِّ هذا الوقت على آخرِ جدالٍ احتدمَ بيننا،

أودُّ أن أعود لتصحيح أفكاري ومفاهيمي عن “الموت المنطقي”. أتمنى في ذلك الوقتُ قبل أن أغادر لو أنني قلتُ لك: “إنَّ السعادةَ ليست شيئاً إلا الرضا، ومشكلة البشر أنهم ينشدونَ الراحةَ بدل الرضا، فلا يعثرون على ضالتهم أبداً ذلك أنهم يبحثون عن شيءٍ مفقودٍ أصلاً في هذا العالم… هل يحقُّ لنا فعلاً أن نتّهمَ الموتَ بانعدام المنطقيّة فقط لأنهُ لم يمنحنا الوقت الكافي لاكتشاف ما نريد حقّاً؟”.

كنتُ أتوقعُ منه كلاماً طويلاً عن الفلسفة وعلاقتها بالسياسة والاقتصاد ثم الدين، لكنَّ الوقت لا يسمح. اختصرَ كُلَّ شيءٍ بسطرين:

“الموتُ منطقيٌّ جداً لمن ضيعَ سعادَتَهُ ورِضاه معاً…

ركَنْتُ النرجسَ الجبليَّ خيبةً أخرى بجانبِ خيباتي ومسودّاتي ونصوصي…أنا آسف”.

“اى عزيز ما، حالاً پيشمانى چه فايده اى دارد؟!”

يا عزيزَ قلبي، ما نفعُ الندمِ الآن ولي وجهٌ وحيدٌ يقبعُ في سجونِ الذكريات؟،

يا ابنَ قلبي، وإن كُنتَ عاقّاً فقبلَ سنواتٍ وجدْتُ سبعينَ محملاً وطريقاً لأعفوَ عنك.

ربما في عالمٍ موازٍ آخر، وعقابًا لك ستُمسَخُ إلى شمسِ غروبٍ لكي تبقى متورّطًا بتوصيفِ لونِ الندم إلى الأبد… وسأراقبُكَ كلَّ أمسيةٍ من على شرفةِ منزلي أو الساحل وأكتبُ القصائد عن حُمرةِ حُزنِك اللبق، أو في حياتِكَ الأُخرى ستكون مطراً تبكي الدموعَ كلها نيابةً عن كلِّ النادمين في هذا العالم.

لكنّهُم لو تركوا الأمرَ لي، لاخترْتُ لكَ أن تكون “قصيدة” أبديّةً… تذرفُها آلافُ العيون ولا تشيخ..، تترفّعُ عن مصارعِ الأزل. رُبما إحدى “المُعلّقات” التي تليقُ بكَ هيبتُها وجزالتُها، في كلِّ ندمٍ يُساورُكَ تموتُ مصلوبًا على جدارِ الكعبة.. (قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ).

سأغادرُ وأسمعُ من الأستارِ المقدّسة (آذنتنا ببينِها أسماءُ..).

نعم يا شاعري المُفضل لقد غادرَ الشُعراءُ من مُتردَّمِ.

في الوقتِ الذي تقرأُ فيه سأكونُ قد عبرْتُ الحدود وما بقيَ لخولةَ أطلالٌ ببُرقةِ ثهمدِ…

وإن صاحَتْ رُبى الحِجاز (ألا هُبّي بصحنِكِ فأصبحينا)، سيجيبُ الصّدى من طوسٍ والغريّ قد عفتِ الديارُ محلُّها فمُقامُها.

حتى تأتي (بسم الله لا إله إلا هو…)، ونبي وذو الفِقار… فتنسخُكَ آية التوحيد يا صنمَ قلبي…

دعْنا من الأسف، والنرجس…

ففأس إبراهيمَ يهوي ولا يُرتَشَى…

انتهى.

بعدَ هذه الصدفة المُدبّرة،

عاتبْتُ أمي طويلاً عندما وصلْتُ، قالت إنني يجبُ أن أواجهَ ولا أبقى أهرب من الماضي إلى الأبد. تُريدُ أن تعلمني كيفية المواجه، وأنا التي اعتقدْتُ أنَّ الوقتَ ما زالَ مُبكراً على تدريبِ الإلقاءِ من أعلى العُشّ.

فكَّرْتُ كثيراً كيفَ أشرحُ لكِ يا أمّي أنّني ورِثْتُ لونَ عينيكِ ولم أرِثْ قوّتَكِ؟ وأن ثباتَ ملامحي خدعةٌ كُبرى، وأنّكِ أنجبتِني بقلبٍ هشٍّ كجناحِ فراشة وأنا أهوى القناديل، وما مصير من يحومُ حول النورِ بهذا الهُزالِ سوى الاحتراق؟!

كلُّ المعاركِ التي تجنّبتُ خوضَها تجمّعَتْ هالاتٍ سوداءَ تحتَ عينيَّ لأحملَ تعبَها على وجهي أينما ذهبت.

لم أهربْ خوفاً.

كنتُ أحاول أن أحافظَ على ما تبقى منّي، خشيتُ أن أفقدَني، فخبأْتُ نفسي في مكانٍ بعيد.

لماذا وجدْتِ مخبأي؟

يا أمي، إنَّ اليراعةَ التي تُحسنُ الظنَّ بضفةِ النهر تصطادُها عتمةُ الليل!

كيفَ أشرحُ لكِ أن الجراحَ تفتقُها اللقاءات، تخضُّ الذاكرة من نومِها لتُجهِضَ ألفَ حُلُمٍ قاسيتُ ثلاثَةَ أعوامٍ لمنحِها “غفوة”.

من أين لي بثلاثِ أعوامٍ أخرى لتلتئمَ ندبتي ويعودَ الماضي لقيلولتِهِ الطويلة؟

من أينَ لي بقلبٍ آخر سليم، لا يتدفقُ سيولاً حين يخلو بنفسه؟ وذاكرةٍ على مَقاسي؟

لا أريدُ أثوابًا أغرقُ فيها.

تعبتُ وأنا أجُرُّ خلفي أذيال الحنين.

أنقضَتْ ظهري كلُّ تلكَ الصور والأصوات.

عتبٌ مرير

ذكّرَني بمرارةِ تلك الرحلة في صيفِ عام ٢٠١٨ عندما انطلقَ بي الباصُ من چالوس، تذكرْتُ ما قالَهُ لي مسؤول قطعِ التذاكرِ: (هذا الطريق من أخطر الطرق الجبلية، وشدة المطر وتشوش الرؤية فوق الجبال يزيدُهُ خطراً في هذه الساعات، لن تنطلقَ باصاتُنا إلى طِهران قبل توقفِ المطر..)؛ لكنّني قلتُ لهُ: هاتِ التذكرةَ يا عمّ، فأنا متُّ قبلَ ساعتينِ من الوصولِ إلى محطّتِك عندما نسيتُ قلبي في جيبِ معطفِ وطواطٍ عانقتُهُ سهواً.

لحُسنِ حظّي لم تمضِ أكثرَ من عشرين دقيقة، حتى قال السائق: لن ننتظَرَ أكثر، سيحلُّ المساء.

صعَدتُ الباص بالكوفيةِ على كتفي، رمقَني الناس بتلكِ النظراتِ الغريبة التي يقولونَ من خلالها: انظروا، تلك الفتاة خُمينيّة -(فغالبُهُم كانوا من البعيدين عن روحِ الولاء في تلكَ المدينة التي لم أحبّها يوماً)-، دائماً ما كُنتُ أسألهُ مُندهشةً كيف استطعْتَ التأقلمَ في هذا المكان؟ لم أحصلْ منهُ على جواب.. كان من أصعبِ ما عليَّ أن أنتزعَ منهُ كلمةً لا يريدُ التفوهَ بها.

 وبينما أنظرُ من النافذة وبعد أن صِرنا فوق الغيوم وصعُبَتْ رؤيةُ نهاية الوادي، لم يكُن يفصلُ إطار الباصِ الخلفي غيرَ شبرٍ واحدٍ عن الحافة، شعرْتُ بنبضاتِ قلبي في رأسي بسببِ تغيّر الضغط، ولأن الباص كان يسير بسرعة ٥٠ كم فقط، أخذَ منا الطريقُ ستَّ ساعاتٍ والذي يستغرقُ ساعتين فقط لو كان طريقاً طبيعياً.

وأنا على تلكَ الحال مرَّ عليَّ شريطُ ذلكَ اليوم الذي قالَ لي فيهِ أنّني متهوّرةٌ جدّاً، الآن فقط، اقتنعْتُ بوجهةِ نظرِه.. أنا متهوّرةٌ عندما راهنتُ أمامَ أمي وخالتي وابنة خالتي وخطيبِها أنني سأكتشفُهُ، وفشلت…

خطَطْتُ ندَمي على كلِّ نافذةٍ أسندْتُ رأسي عليها: “أنا قلبُ الأرضِ النابضِ بكلِّ خيباتِ الآدميّين في الوجود”،

متهوّرةٌ لأنني سافرْتُ بذلك الباص في تلك الظروف رغمَ تحذيراتِ أبي ومسؤول المحطة..

أن أصبو إلى حتفي، أو إلى عينيه..

الغرقُ فيه…

أو السقوطُ في وادٍ.. لا فرق..

أنا متهوّرةٌ وغارقةٌ جداً، عندما لم أستطعْ أن أتجاوزَ دهشتي وذهولي بهِ أبداً، حينما شعرتُ نحوَهُ كلَّ يومٍ، كلَّ لحظةٍ، بنفسِ شعورِ المرةِ الأولى.. عندما خبأتُهُ في أوراقي قصائداً ونصوصاً، محاولةً بذلك أن أحتفظَ بهِ للأبد، لأنني لا أدري أين أذهب به.. وعندما شعرْتُ للمرةِ الأولى في حياتي بالغيرةِ من فتاةٍ لا لشيءٍ إلا لكونِها أنثى لا أدري ما صلتُهُ بها، إذ تمنيتُ أن أدعوهُ لمجلسِ أُترُجٍ وسكّينٍ ونساءٍ لأُثبتَ لنفسي خطأ ظنونها..

قاطَعَتْ غزارةُ المطرِ شريطَ ذكرياتي المشوّش. أمطرَتْ بشدّة في ذلك اليوم، غيومٌ سكبَتْ كلَّ تعبَها على كتفي…

لم أُشهرْ مظلةً في وجهِها عندما شكَتْ لي جرحَ قلبِها، لأن الشكوى ليست رفاهيةَ المُدلّلين، والبكاءُ ليسَ ترفاً كما قُلتَ لي ذاتَ يوم… لا، أنتَ لستَ مُرفّهاً، لكنّك تخاف.. لطالما كنتَ متماسكاً لأنكَ تخافُ إذا انسكبتَ سيلَ حُزنٍ ألّا تجدَ كتفاً يحملُ تعبَك.

ولأنّني لا أدري أين يذهبُ المرءُ بلهفةِ قلبِهِ إلى شخصِهِ المُفضّل إذا شحَّ اللقاء، تركْتُ لكَ رسالةً عندَ أمِّكَ قبل مغادرَتي إلى طِهران، لأنّني لا أحبُّ أن أنتعلَ الرحيل بقسوةٍ دون وداع، دون كلمةٍ أخيرة…

قبلَ الانتقال إلى حيث الأرض التي أحبها؛ النجفُ المقدّسة؛ أكتبُ إليك، لأن أصابعي لا عيونَ لها لتبكي،

فلا سبيلَ غير الكتابة:

“بسم الله

أما بعد، فإني راحلة…

وكأنَّنا لم نكُنْ، وكأنَّ القوافي لم تزَلْ..

أن تخذلَني أنت يعني أن يجتمعَ فيكَ كل الذين آذوني يوماً،

يصبحونَ لحظةً واحدة، يطعنونني طعنةَ رجلٍ واحد،

فيتفرقُ دمي بين أحبتي وأعدائي..

تشظى منّي ألفُ جزءٍ في بُرهةِ الأزمان،

يا سيّد..

يا صدراً طالبياً…ما عهدتُهُ إلّا من جبلّةِ الأشراف،

ولا ثارَ يُطلَبُ إذا المُعتدي من نسلِ الحبيب،

ما أريدُ أن أَشُقَّ عليك، والعتابُ يثقلُ ولا ينقضي..

بعدَ أن نمضي كلٌّ إلى تاريخِهِ،

أريدُكَ أن تبقى تتذكر كيفَ جرت حياةٌ كاملةٌ بيننا في لقاءٍ لم يتجاوز ١٥ دقيقة وكوب شاي..

والسلام”

ف.ن/چالوس-طهران، الساعة ١٦:٠٠ مساءً.

في موعدِ صلاة المغرب توقّفَ الباص عندَ البحيرةِ التي بقُربها. أكلنا أول طبق “ميرزا قاسمى”، بحيرةُ ولشت في مرزن آباد، مرَّتْ بي كلُّ أيّامِنا هُناك سنينًا من ضوء، فعُدْتُ إلى العراقِ بتجاعيد وجهِ مُسافرٍ عبرَ الزمن… وصليتُ للمرةِ الأولى صلاةَ الفتيلِ الأخير،

خَمَدَ القبس،

قلبي يا طريدَ سيناء والطور بلا تكليم..

أتَرَى أنَّ بحيرتَنا الصغيرة تبخرت دفعةً واحدة..،

 أمطرَتها الغيوم، فرقتها على قمم الجبال، من تُراه سيجمعُ أشلاءَها، ولا إبراهيمَ ليدعوا فتأتيه المتفرقات سعياً؟

من سيجمعُني؟

يا صفعةَ قلبِ هابيل، وسرابَ هاجر، كيفَ أغفرُكَ الآن؟

بَل كيفَ أغفرُ لنفسي..؟!

كيف أجمعُ -بلا مواربةٍ- هذا الشتات؟

كيفَ أقنعُ الخاناتِ أن تحتويني، وأن تُصنّفَني في صفِّ الأشياء الكاملة وأنا تنقُصُني كل تلك الأجزاء؟

كُلّما حاولتُ إقناعَهُمْ أنّني لا أنتمي إليك، طبعوا على أوراقي “لاجِئة” و”كاذبة”…

فتمرّدْتُ وتهوّرتُ،

مزّقت هويّاتي وأسقطْتُ جوازَ السفر،

أنا ابنُ الطين، وكلُّ الترابِ موطِني،

ثمَّ توجّهتُ للخاناتِ والتصنيفاتِ فأحرقْتُها..

أخليتُ سبيلَك،

أطلقْتُ سراحَكَ من ذاكرَتي..

وأخيراً..

شيّعتُكَ إلى مُقامِك الأخير…

إلى “قلبي”…

لترقُدَ بسلام…

ولكي أغفر…

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.