شبحُ النافذة

0 284

عيشة خالد – الجزائر

يفتح باب الحجرة الواسعة المؤثثة بديكور متقن بديع يوحي بالذوق العالي لكاتب يحب التدقيق والتأنق والجمال في كل شيء من حوله. الستارة البيضاء والأريكة البنية والسرير العالي واللوحة المعلقة على مستوى مرتفع من الجدار والمرسومة بريشة ماهرة بها صورة للطبيعة الريفية بأشجار مخضرة الأوراق وساقية ماء وبيت قديم على السفح، وفي الزاوية يركن التلفاز الغارق في صمته فلا يُفتح إلا عندما يحين موعد البرنامج الأسبوعي المنتظر أو ساعة الأخبار، وعلى الركن الأيمن من الحجرة ينزوي المكتب وعلى سطحه أوراقه وأقلامه، وبالجانب يصف كتبه بطريقة منظمة يتقيد بها، ولا يأوي ليجلس على مكتبه ممسكا قلمه إلا حين يكون الليل قد أقبل ببهاء حضوره وهيبته بنجومه المتلألئة في السماء، والجو البارد الذي تهدر فيه الرياح الغاضبة، وكأنما هي تخوض شجارا حادا في الفضاء، وما أحبَّ الليالي الممطرة إلى قلبه التي تدفع خياله بأن يخوض في سحر العوالم الغامضة التي يجد نفسه سابحا فيها، وكلما طرق إلى سمعه صوت قطرات المطر وكأنما هي تحفر برفق على زجاج الشباك المقابل لمكتبه قام وفتحه ليبصر بعين متأملة للمطر والخضرة والنسائم الباردة، حيث تفضي النافذة الوحيدة في الحجرة على منظر الحديقة الصغيرة بشجرة اللبلاب المتسلقة لجدرانها في جرأة وحرية وشجرة الكرم المورقة أوراقها وأصص من النباتات التي يداوم على سقيها ويهب لها وافر الرعاية كما ينبغي لكاتب يحب رعاية الجمال في كل شيء..

حرّك الكرسي يزيحه بحركة خفيفة متحفزا للجلوس وعلى ملامحه نظرة وديعة حانية ترمق أشياءه المحببة إلى قلبه بأنس وسرور، وقبل أن يمسك قلمه استغرق في صمت عميق كما هي عادته في جلسة هادئة يرنو بعينيه ﺇلى الشباك المفتوح الذي يبعث بأصوات الهواء البارد الممتزج بروائح قوية تسطع الأنف والجو لتدخل إلى الحجرة، فتكون رائحة النباتات والتراب المبلول بالمطر الذي يتشممه بنفس طويل يبعث الراحة والطمأنينة لقلبه، ويتأمل المنظر الجميل على رغم سكونه التام فأشد ما يحب الوحدة وسط الكتب والسكون الداعي للتأمل الطويل في لحظة صافية مع النفس يتجدد فيها جمال المنظر وكأنه يكتشفه لأول مرة، فتكون وحدته مع قلمه وأوراقه والأخيلة المتدافعة بالأحداث الشيقة التي تكتب سحرها وتجعله يشعر به وحده وهو منغمس وسط شخصياته العجيبة التي تُقبل من العدم فتكون حية حاضرة يحادثها ويناقش معها ويتعلق بها لدرجة يصعب التخلي عنها في النهاية، جذب الستار وأزاح الشباك تاركا الزجاج يعكس منظر الشجرة من بعيد، وراح يكتب مستأنسا برفقة الهدوء والليل والبرودة القليلة في جو الحجرة الدافئة، وبقوة عجيبة لا تأخذ سوى دقائق معدودة يجد نفسه يغادر مجلسه، وهو جالس متخطيا حدود الحجرة يترافق مع شخوصه الذين تركهم آخر مرة ينتظرون أدوارهم التي نسبها إليهم، وما سيترتب عليهم فعله في غمرة الأحداث الغريبة من الرواية، وجب عليهم الانتظار كل ليلة فلا يستطيع أن يلتحق بهم نهارا، فيقول وحده الليل خلق للكتابة والخيال والسفر، فيقلب نهاره ليلا لينام نهارا ويعمل ليلا، حتى ساعات متأخرة قد تصل إلى أن تشف النافذة عن خيوط الفجر الأولى والصفاء الحليبي المبشر بطلعة نهار شتوي جديد، تتواصل حركة القلم ويده لا تتوقف عن الكتابة ووجهه عن الثبات وذهنه عن التركيز والسباحة دون أن يطفو أو يغرق، حتى سمع صوتا غريبا تجاهله في لحظته الأولى لكنه استمر بحركة متواصلة كالخشخشة أو صوت أظافر آدمية على الجدار، ليتوقف للحظة وهو يرهف السمع متجمدا للتأكد من صدق سمعه، ونظر بلمحة خاطفة إلى الساعة الجدارية المقابلة ليرى أن الساعة تشير إلى منتصف الليل، وتسائل في نفسه ما قد يكون الصوت الذي يشبه خدش الأظافر بطريقة مستفزة؟ ولكنه لم يزل هائما في عرض الخيال محلقا بغير جوانح وغمغم في نفسه ليجيب فكثرت الأصوات التي تثيرها الرياح الشتوية خارجا، لكن النافذة مغلقة بإحكام والحجرة أيضا والشقة كلها، ولا أحد غيره هنا، وحتى هو نفسه لم يتحرك من موضعه في غير الخيال، وتجاهله ليكمل كتابته وقد وصل به الحماس مبلغه ولا شيء بقادر على أن يقلق طمأنينته وسلامه النفسي الحاضر، وتوقف الصوت الغريب فجأة، ثم بعد دقائق معدودة عاد ليكون بقوة وحدة أكثر جعلت الشك يتسرب إليه فتوقف ونهض من مكانه ساحبا كرسيه إلى الخلف وراح يتحسس موقع الحركة بانتباه تام ليعرف مصدره، فتح زجاج النافذة على مصراعيها وألقى نظرة خارجا فلم يعثر بصره على شيء، كل نبتة في الحديقة صامتة نائمة والرياح تبتلع كل الأصوات لتسيطر هي بقوتها وصوتها المزمجر الغاضب، وعاد مكانه في يأس وهو يدير رأسه في كل الاتجاهات باحثا عن شيء فلم يعثر على ما يريد، الجدران ثابتة في موقعها واللوحة المعلقة جامدة والتلفاز منطفئ، والأريكة مستقرة. رفع القلم ليعود لهيئته الأولى ويرمي بنفسه في عالمه من جديد، وتجاهل فكرة الصوت الطارئ الذي قطع أخيلته ولم يدرك من ورائه شيئا. اليوم الثاني حين عاد إلى أوراقه ومكتبه في ساعات الليل الأولى، فاستمر في الكتابة حتى دقت ساعة منتصف الليل، فتهادى إلى سمعه الصوت ثانية يمزق الهدوء الذي يحيط به ويصنع ضجة تثير الإزعاج والقلق معا حتى انقلب الاستغراب إلى شيء كالخوف ومبعثا حقيقيا للقلق يجعله يشك في أن شبحا حقيقيا يساكنه في الحجرة دون أن يعرف عن حقيقته شيئا، إنه يشق الظلمة ويصدر صوتا في ساعة محددة وكأنه يقصد ذلك عمدا، وهل الأشباح تعرف الأوقات والساعة حتى تختار متى تظهر ومتى تغادر، وضحك ليقول أنها صدفة، حتى تكرر الأمر في اليوم الثالث ثم الرابع ما جعل الخوف يزحف بأرجل حقيقية إلى قلبه وينتظر الوثبة المرتقبة في أي لحظة من هذا الشبح العجيب الذي يختار ما يروقه من الوقت، فخيل إليه أن ذهنه الجامح الصانع لشخصيات خيالية يوهمه بكل ما يقع، فيتخايل مسألة الشبح الذي يأتي صوت أظافره من النافذة وميقاته المفضل أنما هو زيف يصنعه العقل ويصر على تصديقه، توقف عن الكتابة واستجاب للخوف والريبة ليتسللا إلى ذاته فينهك جسده ويحرم عليه الكتابة والراحة، وعزم على كشف هاته الحقيقة حتى لو كلفه ذلك السهر لليلة كاملة وتتبع أثر الصوت منصتا له واضعا أذنه على جدار النافذة ليلمح في حركة سريعة هزات خفيفة في أغصان الشجرة وكأن شيئا عالقا بها، وبسرعة وشجاعة مدﱠ ذراعه وهو يمسك بجذعها يحاول تحريكه حتى انتفض القط مسرعا في مواء وهو يعبث بأظافره على حافة الجدار مصمما على أن يقبض بالفأر المختبئ في ثقب الجدار في مطاردة ذكية ليحظى بوجبة دافئة في هذا الجو البارد.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.