عن البلاد وصراخ الأرض

0 407

مهدي بن حسين – السعودية

تحرير: خيرية رفعت

عن ناجٍ أخير لم تحفزه الأنقاض للقيام بآخر أعماله، حيث أنه لم يعط الجغرافيا اهتمامًا، أفلته العدم لأنه مجرد تعداد “نسم”.

تقولُ البلادُ:

الآن بعد تعاليم القسيس والشيخ والأب والأم والعائلة ألاّ تسأل مجدداً عن جدوى الأفلام المحمضة والزلازل المربكة واضطرابات البحر وقدرة الشتاء على القتل.

ضع فكرةً زائدةً لعلك تنجو، رُبما عليك كتابة موقفك الأول من الفوضى العارمة التي تصب في صالح فهمك البدهي عن الوجود، بعد أن استراحت مخيلتك وانتفض جسدك المرتخي فوق الصلب والحديد.

يقولُ الناجي الأخير:

نُمعن النظر في البلاد، نُقرُ أن القرابين التي بذلناها لم تعد كافيةً لبلوغ المعنى السامي من تواجدنا على قارعة الوهم، لأننا لا نملك سوى الأسئلة.

تسألنا – البلاد – عنّا، فنُجيب: أننا كنّا هناك نُوجه صدورنا نحو الضوء الخافت المنبعث من نفقٍ سرابي، لقد احتملنا طويلاً تكرار هذا السراب لسردية البلاد كمحاولاته الفاشلة في تكثيف المعنى والقول بالأمل.

هذا عبثٌ مباح يحتمل الشك، أن تشك في البلاد يعني أن تسمح لعينيك الغائرتين بالتحليق، ألا ترى ما تراه الآن مجرداً، بل أن تُحمله الكثير من القلق والنبوءات التي لا تخصك وحدك، بل تخص وجوه آخرين، تمتعض وأنت تُحدق بهم لكن عليك الآن لا أن تحملهم فقط بل أن تقتلع آثارهم وتحملها معك.

يقولُ المحيطون بدائرة الأرض:

التفاصيل المقوسة أعلى السماء تفضحنا دائماً، تظن أن نقص أطرافنا جراء امتعاض التضاريس من كثرة استطرادنا في الأسماء “هذا وادٍ، هذا بحر، ذلك نهرٌ، هذا جبل..”

من اختار الأسماء؟ من عرّضنا لهذا الكم من الشقاء؟ كم تتحرك الأرض تنتفض جرّاء فرضياتنا والهراء الذي لم تعد تحتمله!

اقتربوا جيداً واسمعوا!

“يُروى عن الأرض كان الماء يحترقُ

حدس التضاريس أن النار ترتجلُ

لم يشعر الماء أن التربة اعتزلت

بيعَ التفاصيلِ للطين الذي يصلُ

نحو اعترافات هذا الكون أن لهُ

زنزانةً كان فيها البؤس يقتتلُ”

في معنى أن تستمع الأرض لمطالبنا:

 احترفتْ طويلاً بلا جدوى الإصغاء لمطالبكم الفجة بأن تتسع حدقتها، ألا يكفيكم كلّ هذا؟ أنتم فقط تزدادون ضجيجاً، ما أهمية ضجيجكم أمام صُراخها الصامت؟

أن تصرُخ بصمت يعني أن تنفردَ بمأساتك وعيناك معلقتان بلا حاجةٍ لفقئهما أو معالجة حدتهما المفاجئة.

 نقولُ أن للبلاد نزواتها، تصرفاتها المراهقة، كأن تُنهكنا ركضًا أو تُحطم المسلمات من يومياتنا، كأن تجثو بركبتيها على أعناقنا؛ لأنها شاءت أن تتحرك قليلاً.

هي التي تفضل الجلوس الطويل واستراق السمع لتهامسنا حول البَركة في العمر والولد والمال دون أن تفصح عن شعورها في اللحظة.

تقولُ الأرضُ:

إنه مجرد هذيان، هيا سأمد أطرافي الآن، لكنهم لن يموتوا، مؤخراً صار بوسعهم التحايل على الموت بصورة أكثر وضوحًا من ذي قبل، صاروا يسمونه “تقمُصًا”! هكذا يتحدثون بسريالية لا أقدر على استيعابها، لكنهم يُفلتون، لم ينجُ أحد! لكنهم أفلتوا هذه المرة واستيقظوا بكثيرٍ من الضوء نتيجةَ عدم اعتراضهم على الشرخ الفاضح في وجهي أنا الأرض.

يقول الناجي الوحيدُ الآن:

لم تُفصح الأرض عن غاياتها السامية في تأليب السكان “النازحين”، نعم كلنا نازحون! من بطون أمهاتنا وأكباد آبائنا ابتداءً، ثم حتى ننزح عن أحضان حبيباتنا في ليلٍ قارح؛ لذا لن تفصح لنازحين أشباهنا عن فقرها المدقع وحنينها لملامسة جثةٍ مهترئة اسمها سماء؛ لذا لابد من مواجهتكم بحقيقة أنها كومة فوضى ومتعلقات صغيرة، نهرٌ صغير، سمكة، ماء، قطرة، حبة رمل، وأفعالٌ رديئة تعدل عنها أحياناً من باب الشفقة فقط لا أكثر.

ــــــــــــــــــ
لقد خرج هذا النص عن سياقه الذي ينبغي له، هذا الكاتب منتفخٌ بالزيف وبآخر منتجات الحداثة وبالفَناء وباللوثة في فص مخه الأيمن، ربما الأيسر يُراد له دائماً أن يكون نبوءة لكنه سرابٌ أقرب للصديد الخارج من مصابٍ في صدره.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.