غياب (المحرر) وأخطاء الروايات

0 294

أيوب ابراهيم – سوريا – الدنمارك

من أين يا ترى يأتي الملل أثناء قراءة الكثير من الروايات العربية! قد لاحظت أن قدرا لا بأس به من الملل يتأتّى من الإغراق في التفاصيل والوصف الذي لا ضرورة فنية له. فيذكّرك ذلك بالطلاب المجدّين أيام المدرسة، أولئك الذين كانوا يأخذون العلامات التامة في درس الإنشاء والتعبير (هل تتذكرونهم؟)! وهاهم قد كبروا الآن، وصدّق بعضهم أن كتابة موضوع إنشاء عن الربيع المشرق وزقزقة العصافير التي ترفرف بأجنحتها في الأفق، تؤهلهم لأن يخوضوا في مجال الرواية، وقد فاتهم (بالإضافة إلى أمور أخرى طبعا) أن الإنشاء غير الإبداع، والخلط بينهما مثل الخلط بين المعمرجي والتعمير (مع احترامي لمهنة التعمير طبعا) وبين النحات والنحت! فتقرأ في مقطع روائي مثلا (دخل إلى زقاق ضيق لا يكاد يتسع لعربة خيل) وقد غاب عن الروائي الفهيم بأن الزقاق لا يحتاج لوصفه بالضيّق، والأنكى اعتقاده بأن القارئ يحتاج إلى أكثر من هذا التوضيح، وكأنه يكتب لمتخلفين عقليا، فيضيف لا يكاد يتسع لعربة خيل! فالزقاق مكتف بذاته من حيث الدلالة، وإلا كان اسمه شارع، ومن ثم في هكذا حالة، يمكن توصيف الشارع بالضيق أو الواسع، بينما الزقاق كلمة واضحة ولا يُخْفى على قارئ، سواء أكان نبيها أم مغفلا، بأن الزقاق بطبيعته ضيق!.

أو روائي آخر يجعلنا نتمشى مع بطله على طول المسافة التي تنتهي إلى منزله، فيلاحظ جميع من يعرفه ومن لا يعرفه، وعلى الفور، ابتسامته العريضة المرتسمة على وجهه، ثم يصل البطل إلى المنزل، فتستقبله زوجته، وبعد أن تدخل المطبخ مرتين، تنتبه فجأة في المرة الثالثة “لابتسامته العريضة الملتمعة على وجه، فتسأله” خير انشالله، شايفتك مبتسم اليوم “! وقد يسأل سائل وأين الخلل هنا! الخلل هو أن الروائي لم يكن يحتاج إلى إعادة وصف ابتسامة البطل، فالزوجة التي تبدو على طول الرواية امرأة ذكية وسريعة الملاحظة، ولا تشتكي لا من ضعف النظر ولا من ضعف العقل، لم تكن لتحتاج إلى كل هذا الوقت، ولا إلى تكرار وصف ابتسامته، لتنتبه إلى ما لاحظه الأصدقاء وبائعو الخضرة وشرطي المرور بمجرد مروره بهم، بينما غاب هذا عن الزوجة ولم تلحظه” المغفلة “إلا متأخرة!.

أما الروائي الثالث فقد جعلنا ننزل مع البطل” الدرجات الثلاثين “حسب وصفه للدرج، وما أن أصبح في الشارع حتى تذكر بأنه نسي مفاتيح السيارة، فعاد أدراجه” ليصعد الدرجات الثلاثين “ويعود لينزل” الدرجات الثلاثين “مرة أخرى!، وكقارئ جدي، أو متابع دقيق لما يجري، سوف تنتظر أن يكون لذكر” الدرجات الثلاثين “وظيفة فنية قد تظهر في موقع ما مع التقدم في الرواية. كأن تحدث جريمة ما على الدرج مثلا، فيصبح عدد الدرجات ورقم الدرجة التي وقعت عليها الجريمة أمرا مهما من وجهة نظر التحقيق الذي سوف يشكل جزءا مهما من نسيج الرواية. هكذا قد تتخيل! فتكتشف بأن لا شيء من هذا سوف يحصل، وأن الروائي لن يعود إلى ذكر الدرج أو عدد الدرجات. فلا يكون هناك بد من إدراج وصف الدرج ضمن ما يسمى بالحشو الذي لا فائدة فنية ترجى منه! وربما من الضروري التذكير في هذا المقام “ببندقية تشيخوف” التي وردت في إحدى رسائله المتعلقة بالقص. وفحواها “قم بإزالة جميع الأشياء التي ليست لها صلة بالقصة. فإن ذكرت في الفصل الأول أن هناك بندقيةً معلقةُ على الحائط، فعليك ان تستعمل هذه البندقية في الفصل الثاني أو الثالث. يجب أن لا تبقى البندقية معلقةً هناك إذا لم يجر إطلاقها”. والسؤال الآن، إذا كان من الممكن لقارئ عادي أن يلاحظ ذلك، فكيف يفوت دور النشر إخضاع ما يصلها للتحرير الذي أصبح جزءا مهما من أي عملية إبداع أدبي! طبعا يمكن الإسهاب مطّولا عن ضعف ثقافة القائمين على دور النشر من جهة، وبخلهم فيما يتعلق بالصرف على تحسين ما يوافقون على نشره. فالتحرير عمل يستلزم مصاريف إضافية لا يبدو أن دور النشر مستعدة لإنفاقها. غير ان هذا جانب من المسألة. أما الجانب الآخر فيتعلق بالكتاب أنفسهم، الكتاب لا يستسيغون تحرير أعمالهم من قبل آخرين، ويتساوى في هذا الأمر أغلبهم، الموهوبون منهم ومتوسطو الموهبة وضعاف الموهبة. وخلاف لما هو الحال في بقية دول العالم، و خاصة في الغرب، حيث أصبح العمل الروائي أكبر من أن يُتْرك للروائي لوحده، حيث تُعتبر عملية التحرير أمراً أساسياً لا تقوم الرواية بدونه، وطبعا، هناك سبب تجاري في الأمر، فالكتاب يبقى في أحد جوانبه سلعة سوف تطرح في سوق، وكأي سلعة، يجب الحرص على إخراجها بطريقة تضمن لها التصريف، وليس في هذا ما يعيب، وخاصة أن في معاملتها كسلعة (و قد يكون في ذلك مفارقة) فإنها تخضع لعدة عمليات تحريرية تساهم في صقلها وجودتها، فتربح دور النشر ماديا وتستمر، ويربح القارئ بالتمتع بما يقدمه الفن وتتطور ذائقته، ويتوفر للكاتب دخل يعينه على العيش من دون الحاجة لعمل آخر.

ويحضرني الآن العلاقة بين الكاتب الأمريكي الشهير فوكنر ومحرره الأدبي، فقد نشأت بين الإثنين واحدة من أغرب وأطول العلاقات بين كاتب ومحرر، كانا يكرهان بعضهما بشدة، ولم يلتقيا خلال عملهما مع بعضهما البعض سوى في دار النشر. كان فوكنر الموهوب جدا والثرثار جدا أيضا، دائما ما يأتي إلى الدار برواية تتجاوز صفحاتها الخمسمائة، وأحيانا الستمائة صفحة، فيعطيها الناشر إلى المحرر، ويعيدها المحرر وقد شطب على ثلاثين بالمائة منها. لكن العلاقة استمرت بسبب إدراك المحرر لموهبة فوكنر الاستثنائية، وإدراك فوكنر لعبقرية المحرر الاستثنائية أيضا، حيث كان فوكنر يدرك في قرارة نفسه أن موهبته في الكتابة، قد لا تكون بمستوى موهبته في القراءة. والقارئ المحترف كثيرا ما ينتبه لأخطاء قاتلة قد تفوت الكاتب مهما بلغ نبوغه. والسؤال: من أين يأتي هذا النفور في عالمنا العربي لما تعارف عليه في كل العالم كضرورة لا بد منها وهو التحرير!. بتصوري (مع ملاحظة أني كثيرا ما أخطأت في تصوراتي) لا يمكن تفسير ذلك سوى بالرجوع إلى علم النفس الجمعي. يبدو لي أن في لا شعور الكثير من الكتاب ما زالت فكرة الكتابة تحظى بالتقديس المتأتي من خرافة قديمة جدا مفادها في ثقافتنا العربية هو أن الكتابة عمل فوق بشري توحي به الجن في وادي عبقر (ومن هنا أتت كلمة عبقرية) حيث كان الاعتقاد سائدا بأن لكل شاعر جني يوحي له. وربما بسبب اعتمال هذه الفكرة الخرافية في اللاوعي هو ما يجعل الكتاب والشعراء يستهجنون أن يقوم محرر- إنسان بمراجعة ما يمثله الكاتب “المختار” الذي يُوحى إليه، فتتشكل في لا وعيهم فكرة أنهم ليسوا سوى واسطة مقدسة للتلفظ بما لا يستطيع الإتيان به بشر! قد تضحكون! وأنا نفسي ضحكت عندما أعدت قراءة ما كتبته، غير أن عليكم أن تنتبهوا إلى أن الكثير من الأفكار والتحليلات التي تبدو غير منطقية، قد تكون أكثر منطقية من الأشخاص الذين تتناولهم! فلا تستهينوا باللاوعي الجمعي. فهو الأساس الذي تقوم عليه أغلب تصرفاتنا التي نعتقد بأنها واعية أو منطقية!

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.