في زحمة القطار

0 500

سعيد نعام – المغرب

جو حار، أجبرني على الوقوف لمدة زادت عن الساعة، تحت سقف محطة مولاي المهدي، أنتظر قدوم القطار. عقارب الساعة الحائطية المستديرة لا تتحرك. كانت وجهتي أصيلة، تلك المدينة الجميلة، التي يَسْحرني هدوؤها، ويُبْهِرني صمتها الناطق في كل الفصول. في هذه الرحلة، سأحل ضيفًا على مدينة الإشعاع الفكري والأدبي، للمشاركة في إحدى فعاليات موسمها الثقافي السنوي.

بدأ الفضاء يضِجُّ بالمسافرين، وسُمِع صوت من بعيد، لعجلات تجر عربات مهترئة، شبيهة بتلك التي كانت تنقل الجنود، إبَّان حرب الهند الصينية. صار الناس يتدافعون كالنمل نحو السكة، تفاديًا لفوات فرصة الصعود، واستعدادًا للهجوم على المقاعد الشاغرة؛ فغالبًا ما كانت تشهد هذه المحطة، أحداثًا مؤسفة بسبب الزحام، أثناء التوجه إلى المدينة الساحلية.

ارتميت في حضن أول مقصورة صادفتني، جلست بجوار رجل عجوز، كان يضع حقيبة بين قدميه، ويتكأ عصا خشبية معكوفة، وبجانبه شاب في العشرين من عمره ربما. كانت تبدو عليه ملامح الفضول والسعادة الشديدة، وتصرفاته تشبه تصرفات الأطفال، أخرج يده من النافذة، واستشعر مرور الهواء على وجهه وشعره، وصرخ فجأة:

– أبي، هل ترى كل هذه الأشجار التي تسير وراءنا؟!

تبسّم الرجل العجوز فَرِحاً بسعادة ابنه، وكنت أستمع باستغراب، إلى الحديث الدائر بين الأب والابن، وشعرت بشيء من الإحراج، فكيف لشاب في هذا السن أن يتصرّف كطفل صغير؟!

عاد الشاب يصرخ مرة أخرى:

– أبي، أنظر إلى تلك البِرْكة المائية والحيوانات من حولها، أنظر إلى الأزهار الملونة والأعشاب، أنظر إلى الغيوم، إنها تسير خلف القطار!

ازدادت حيرتي وتعجبي من تصرفات الشاب، وحديثه بهذا الشكل، وحين دخل القطار نفقًا طويلًا مظلما، عاد يصرخ من جديد:

– أبي، لقد فقدت بصري، لم أعد أرى شيئا، إنني خائف!

وما إن خرج القطار من النفق، حتى راح الشاب يصرخ صرخة مدوية فرحًا بعودة النور. لم أستطع ضبط أعصابي؛ فقد كنت مرهقًا، وبحاجة إلى قسط من الراحة، بعد عناء الانتظار، ومشقة السفر، بالرغم من قرب المسافة بين القصر الكبير وأصيلة. دنوت من الرجل قليلًا، ومِلت على كتفه شيئًا؛ حاولت أن أكون هادئًا، وقلت له:

– لماذا لا تعرض حالة ابنك على أحد الأطباء المختصين، يا والدي؟

 نظر إليّ الرجل العجوز بابتسامة مشعة، ورد قائلًا:

– إننا للتو عائدان، من إحدى المصحات لطب العيون، لقد أصبح باستطاعة ابني الحبيب أن يُبصر، ويرى النور للمرة الأولى في حياته!

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.