كانت سمرةً وطلّ الخريف

0 287

علي سباع – السعودية

(1)

سيحبّونكَ وحيداً تقول الغريبةُ لهُ، سيحبّون معركتكَ، أن تخرج من الحرب دونك، ثمّ يحتضنون البيوتَ كأنّها جسدك، سيحبّونك لأنهم يجدون صوت طيورٍ بعيدةٍ في القصائدِ، يذكّرهم بالنوافذ المفتوحة في الصباح الباكر، سيحبّونكَ لأنك مسحتَ فكرة البارحة من الرفوف، وتركتَ انكسارَ القلمِ يجرّ خيبة التجربة، سيحبّونكِ لأنكَ تاريخٌ حزين، فستانٌ لم يلبس بعد، وهم سيسهرون حتى اليأس، حتى يشعرَ الوحيدُ بأنّه سيتمكّن بالجنونَ من تحرير جرأته، والمستقبل من أوتاره، والحبّ من ألواحه، وكل نبيٍّ سيمرّ هنا يموتُ في صحراءه، وسيكون مستعدا ليكون كلّ الإثم الذي في معيّته وارثاً وحيداً لبراءته، سيكون مستعداً ليموت بأيّ طريقةٍ وهو بكامل صحّته.

سيحبّونك لأنهم يفتقدون شيئاً، ذلك الشعورُ بأنّك كأسٌ رغم فوران الفطرةِ ظلّ مثقوباً بالأناةِ، غرورُ الطباعِ الجافة، لا يأبهون بحفلةٍ تستمرُ حتى تصمت الأفكار، ولا يشعرون بزاوية منهكةٍ من اختباء الوجوه، القصائدُ الفارغةٌ موجودةٌ في كل مكان، فلماذا أنتَ تحديداً؟! لماذا لا ينتبهون لجراحهم التي تسيل؟! لتلكَ المجازات المفقودةِ في أعينهم؟! وينتظرون أن يجلسَ عابرٌ جديد فتحفرَ سيقانه الطريق أو هكذا يصبح صوت الرغبةِ حين تغلق الحبيبةُ النافذة، الحبيبةُ التي تشبهُ أوراق الليمون، الحبيبةُ التي تدخل غصونها من بين الكلمات، وتتشكّل أمواجها من رقّة الطفولة.

سيحبّونكَ، لأنهم يسمعون في داخلك نبض العاشق الخائف، أمتعة الشوق التي تلوّح في الطرقات، إنهم يجرّون الصيّاد لمكيدةِ اليأس، إنهم عابرون، وهذا يكفي ليحبّونك، لأنّ النهرَ لا يستطيع العبور إن لم تنحني الضفتان.

سيحبّونك، أو يدّعون ذلك، ويحبّون تفاصيلك الصغيرةَ، الضوء الخفيفُ على ورقةِ حياتكِ، الحروف المتشابكةُ في قوامكِ، مساحة شعرك على الظلال، وحبّك المحترقُ، بحّةُ القلمِ ثم سقوط الكأس وبعدها صوت الطيور البعيدةِ، سيحبونكِ لأنكَ نافذة مفتوحةٌ، وهذا الصباحُ منهكٌ ووحيد، وقد استمرّت الأعراس حتى شروقَ الشمس.

(2)

لك هذا النصيب، كأنه دينٌ إليك، يلاحق أسرابكَ بعصاه، وشواردكَ بانتباهِ جاسوس، ويقاومُ يأسكَ حتى كأنّك نهرٌ جريء جداً، توقّف كي يسقي أناهُ، ففاض بالمكان، أو مجموعةُ أيامِ فائتةٍ، وجدت لحظة ثمينةً، فأعطينها للغياب، لكأنه الغياب عشٌّ صغير والندمُ  يلتفُّ على راحتيه، وهذا النصيبُ على أثركَ فرخٌ يحاول الطيران.

لك هذا النصيبُ، وهذا البحرُ، ولك أقدامكَ على التراب، وطلائعُ الزرقةِ في شفتيك، يا من هدأ على سكونِ غضبه قطيع الجنون، يا من تنفّس من حيرته حديث الحبيبةِ، يا من استلهمَ من خطيئته فكرةَ الوجود، ومن فتيل الغوايةِ ما يستباحُ، فأورقَ حينَ خذلتهُ إشارة السماء، وأشرقَ كما يحبّ أن يقول: لقد سهرنا حتى أوقظْنا الفجر، وسكبنا أحلامنا على وجهه.

وجاءت طيورٌ مغمورةٌ كي تأكلَ ما تبقّى من حصادنا، لكننا جميعاً، لم نترك خلفنا إلا صيادّين عراة، يقيمون صلاة الشوقِ، فأْذن لهم، الجمرةُ طلقتهم الوحيدة، فأذن لهم، والأصابعُ غصونُ الخريف، فأذن لهم، كما أذنت لقلبٍ ضعيفٍ بهذا الحبّ العظيم وقد حمله وعبرَ الجسر، حتى تقطّع نبضه وظلّ يدفعُ بدمهِ كما تدفع الدلاءُ حجراً إلى أعلى العطش.

وهو نصيبكَ إذن، كمن قاتلَ حتى يعيش، فجرحته الدلاءُ قدر جراح السلامة، وغدرتْ به الطمأنينةُ حتى انصرفَ عنها لقلقِ الموتِ مستظلاً تحت سقفٍ أو غصنٍ أو غمامة، وسقطت الطيور كما تسقط الظروف أمام حسن الحظ، قد يبطؤك الموتُ ولكنه لن يفقد أثركَ أبداً، ككل السهامِ التي لا زالت في الهواء وأنت مغمضَ العين، تأمل أن يكون سقوطها خفيفاً، كإبرةِ مرضى السكّر.

وها أنت كشعرة بيضاء بمفرقٍ، كشعرة بيضاء بطفل، والسعفات الغزيرةُ على منكبيك، تمشط واحدةً وتحكُ أخرى، تظنُّ بفصولك الظنون، أن تعودَ لك حواسّك لكنّ ربيعكَ أخذ مقعدهُ وصارَ جولةً أخيرةً على طاولةِ العمر، ضع ما لديك، هذا كل ما لديّ، فلنكتفي إذن.

حطّ على غصنكَ تاجا وشذّب حواسكَ بالأمنيات وقل: انتهى الأمرُ، يأستَ ومضيت.

قنطتَ وأصبحتَ فارغاً، مقعداً فارغاً، مقعداً في طائرةً سقطت في البحر، مقعداً لا ينتظرُ أحداً ..

الآن ستشعرُ بيدٍ تمسحُ على رأسكَ بهدوء : أعتذر، لقد تأخرتُ قليلا عليك.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.