الأساطير: تعريفها ودلالاتها

0 2٬072

سعاد خليل – ليبيا

المأثور أو القصة أو فابيولا كلها تحمل بالضرورة سمات العصور الأولي والقديمة، مفسرة معتقدات الناس بإزاء القوي العليا والسماوية: آلهتهم وأنصاف آلهتهم، وأبطالهم وخوارقهم، وكذا معتقداتهم الدينية.

بمعنى أن الاسطورة تعتبر من أهم أشكال الأدب الشعبي؛ بل تعتبر أهم أشكال التعبير القولي في الأدب الشعبي. فالأسطورة ليست قصة عادية تروى، أو حكاية يتداولها الشعب في أمسياته لتمضية الوقت؛ بل إنها – بقوامها المتكامل المستوعب للكلمة والحركة والإشارة وتشكيل المادة – جماع التفكير والتعبير عن الإنسان في مراحله البدائية القديمة. الأمر الذي لم يبق بعده شك، في أن نشأة الدراما كما نعرفها اليوم جاءت عن الشعائر والطقوس التي تفسرها الأسطورة، والتي كانت محل ايمان بلا نقاش واعتناق بلا تردد من كل افراد المجتمع، وحيث كانت تحمل في طياته خبرته الحياتية وتصوراته لما يدور حوله. بما يحفظ توازنه داخل الجماعة. ويشكل المضمون الخفي للأفكار الجماعية.

كما يذكر سيرد. ل. جوم، إن غرض الأسطورة هو التفسير بالإضافة إلى الغايات التعليمية والاعتقادية، فالأسطورة تفسير لقضايا أو أصل وجوهر العلم في عصور ما قبل العلم. تخبرنا الأساطير كيفية خلق الكون، والإنسان والحيوان، وكافة المخلوقات والمعالم الارضية، من أنهار وجبال ووهاد. كذلك ان العلاقة وثيقة بين الاساطير والخرافات والمأثورات الطوطمية من حيوانية ونباتية، بل وحشرات وزواحف وعناكب وديدان؛ أخصها الدودة، دودة العلق التي صيغ منها الإنسان القديم كم ذكر في أساطير خلق العالم والإنسان. الأسطورة تفسر أيضا الظواهر الطبيعية من برق ورعد وأمطار وعواصف. وقد تبدو الأساطير للباحث على أنها نمط من المعتقدات التي يصعب تصور حدوثها؛ فالباحث يواجه منذ البداية موقفا يبدو متناقضا لأول وهلة، فهو يجد من ناحية أن الأسطورة تتضمن أفعالا مباينة، بحيث لا يكاد يستبين فيها أي نوع من المنطق أو الاستمرار أو الاطراد، كما أن الشخصيات تتشكل بأشكال كثيرة تجمع بين صفات وخصائص متباينة وتتراوح بين الخير والشر، أي أن كل شيء في الإمكان حدوثه مهما بدا غريبا. وتفسر لنا الاساطير، سكنى الأرباب والالهة في عليون – الأعالي عند قمم الجبال الشاهقة وأشجار السنط العملاقة وعندما تسمع صوت أقدام في رؤوس أشجار البكاء، عندئذ احترس لأنه إذ ذاك يخرج الرب امامك.

ولكن ليست كل القصص القديمة اساطير(legend)، فمن الضروري أن تتوافر في الأسطورة عناصرها المتمثلة في عوالم الأرباب والالهة، وكذلك الخلفيات الدينية والسماوية. وحسب الدارسين المبكرين، تعرف الأسطورة أنها ما هي إلا تأليه للوقائع البشرية. أما دارسو الأساطير المقارنة مثل فريزر فقد توصلوا إلى تفسيرات للظواهر الكونية، وكذا للتقويمات، من شمسية السنة الميلادية وقمرية السنة الهجرية، مثلها مثل الأساطير الفرعونية المتصلة بالخلق، للإلهة أنفسهم، وهم الذين خلقت آلهة خمسة منهم خارج الزمن.

ومعظم الفولكلوريين دائمو التشكك من مدى التداخلات والمزواجات بين عناصر كلا من الأسطورة والحكاية الشعبية، خاصة تلك الحكايات الطقوسية، للمقدسين والمباركين، وأولياء الله. وبعض الحكايات الشعبية، ما تزال تحمل سماتها الرئيسية، كبقايا أو اشلاء أساطير، وهو ما سبق أن لاحظه الأخوان جريم. فالكثير من الأساطير اجتذبت وانتفعت بموتيفات وتضمينات الحكايات الشعبية البسيطة أو الساذجة، وبذا رفعتها إلى عوالمها الفوقية، فعندما أصبح الشطار والمكارون بشريين، بدلا من كونهم في السابق مقدسين؛ وعندما أصبح البطل إنسانا بشريا بدلا من كونها إلها، أصبحت الأسطورة حكاية وحدوثة وخارقة أكثر بساطة.

إذن ما هي الاسطورة؟

في العلوم الانسانية عامة، لا تكاد توجد أحكام مطلقة تتوافر لها الصحة الكاملة، وأغلب ما يمكن الوصول إليه هو الاجتهادات العامة التي قد تخطئ أو تصيب، وإن كان بعضها في أحيان قليلة يحظى باتفاق عام. كذلك الأمر بالنسبة للأسطورة، فهي من أشد حقول المعرفة غموضا وضبابية على وجه العموم، ويزداد هذا الغموض شدة في نظر القارئ المعاصر لكونها تدور حول آلهة وأبطال غرباء عنه. فهي عنده أسماء مجردة ومنفصلة عن علائقها الرابطة. من هنا، لم يفلح العلماء في ايجاد تعريف يتفقون عليه، رغم كثرة ما كتب في هذا الموضوع. لقد تعددت التعاريف بالنسبة للأسطورة طبقا للاتجاهات المختلفة، والمتتبع لمفهومها في المعاجم المختلفة سوف يجد تعددا هائلا في التفسيرات التي وضعها العلماء من مختلف الاختصاصات والاهتمامات. ويؤطر (سنت اوجسطين) غموض ذلك المصطلح بقوله: ماهي الاسطورة؟ إني أعرف جيدا ما هي، بشرط ألا يسألني أحد عنها، ولكن إذا سئلت وأردت الجواب فسوف يعتريني التلكؤ.

ولو أخذنا بعض الاجتهادات لمفسرين في تفسير معني الاسطورة، فقد نستطيع من خلال تلك التعاريف، مجتمعة أو منفصلة أن نتعرف على إجابة السؤال: ما هي الاسطورة؟ هي قصة مقدسة، يحاول الإنسان فيها أن يحدد العلاقة بين حياته والكون الفسيح الذي يحيط به. هي المادة الخفية التي ينبغي الرجوع إليها لمعرفة وفهم الجانب الخفي من حياة المجتمع. وتعرفها (جين هاريسون) التي تعتبر من أشهر وأهم التخصصات في الدراسات الكلاسيكية بأنها حلم الفرد. ويعرفها فقهاء الجمعية الفلسفية الفرنسية في معجمهم بأنها صورة المستقبل خياليا قلما يمكن تحقيقه، يعبر عن مشاعر جماعة وتخدم وظيفة الدفع نحو اتخاذ موقف والإتيان بفعل ما. هي مجرد قصص حكيت عن بعض الطقوس والشعائر التي اختفت أو سبيلها للاختفاء. ومن ثم فهي لا تزيد عن كونها مناسك منطوقة.

وفي معجم (le irobe ) وهو من أحدث المعاجم الفرنسية جاء أنها قصة خرافية، وعادة ما تكون من أصل شعبي، تصور كائنات تجسد في شكل رمزي قوي الطبيعة وبعضها من جوانب عبقرية البشر ومصيرهم. هي قصة تفسيرات لعلل التغيير الحادث، ولكائن الظواهر الكونية وعلاقتها بالإنسان. ويعرف معجم (فونك) الأسطورة بأنها قصة تبدو وكأنها حدثت فعلا في زمن سابق، تفسر العقائد الميتافيزيقية وما وراء الظواهر الكونية والإلهيات والأبطال، والسمات الثقافية والمعتقدات الدينية.

هي ابداع عبقري غير مصقول، تغلب عليه البساطة والسذاجة. وننهي ذلك الزخم من التعاريف ما قاله (ماكس مولر) من أنها تصور فترة من الجنون كان على العقل البشري ان يتجاوزها.

من خلال ما سبق نجد أنها لفظ متداول؛ لكنه في نفس الوقت شديد المراوغة، بحيث يكون أي جدل حوله هو في الحقيقة جدل بين أشخاص لا يتحدثون جميعا عن شيء واحد، إلا أن ذلك لا ينفي وجود الأسطورة كما أنه لا يحط من شأنها بعد أن صارت من الأعمال الأدبية التي علا سلطانها، وتوجهت لها دراسات السيكولوجيين والأنثروبولوجين الاجتماعيين توجيهات حاسمة وخطيرة.

نشأة الأسطورة

بعد هذا الطرح للتساؤلات بماهية الأسطورة وحيال التعريفات المتنوعة والمتباينة كأننا نسير في طرق التيه، ترى هل نفاجأ بنفس التباين عندما نسأل متي نشأت الأسطورة؟

يجيب بعض الباحثين بأنها ارتبطت ببداية الانسان أو بداية البشر، حيث كانوا يمارسون السحر ويؤدون طقوسهم الدينية التي كانت فيما يقال سعيا فكريا لتفسير الظواهر الطبيعية. وربما تبدو الإجابة منطقية على نحو ما، إلا أنه سرعان ما تتهاوى عندما نتبين أن الإنسان الأول لم يحاول تفسير الظواهر الطبيعة لأنه كان لا يعرف لنفسه مجالا مستقلا عنها. ولم يلفت انتباهه شيء منها، لكنه بعد امتلك قدرا من التحضر أدرك أن ثمة أمورا تحتاج إلى المناقشة المفصلة. ويتفق كثير من الباحثين على أن الأسطورة هي لون من ألوان الحكاية الخرافية، بمعنى أن أصلها خرافي؛ ويعرفون الخرافة بأنها مجرد شائعة أصبحت بمرور الأيام جزءا من تراث الشعب، وذلك قبل أن تتخذ شكلا فنيا لدى القصص الشعبية. ومن المعروف أن الخرافة تحكى بلغة العوام. أما الأسطورة فتروى وفق القواعد اللغوية المعتبرة. أما من حيث الشكل فإنه من الصعب وضع حدود أو إيجاد فروق في الشكل والمضمون بين الخرافة والاسطورة. ولعل هذا ما جعل أرسطو في كتابه فن الشعر لا يفرق بين الاثنين، وأستبدل بهما لفظة الحكاية وبما يتفق ذلك مع الاسم الاغريقي للأسطورة (Myhthos) والمشتق من لفظة الكذب أو بمعني اخر البعد عن الحقيقة. من هنا، علينا أن نتقبل استخفاء إنسان في جوف حيوان مخيف أو في كهف به حيوان مهول. ولا بأس كذلك من أن يلقف ثعبان عروسة جميلة، أو يتسلط مارد على مدينة ويفرض عليها أن تقدم له كل يوم عشر فتيات جميلات ليلتهمهن في وجباته الثلاثة، أو يقوم البطل برحلة إلى عالم الموتى حيث يلتقي بمن كانوا على اتصال به في حياته.

رغم اختلاط مصطلح الاسطورة بالخرافة بصورة مزجت بينهما خاصة عند فلاسفة الغرب المحدثين، فإن لفظة الأسطورة تعد أكثر دقة ودلالة، وتعطي ايحاء بأننا أمام شيء أبعد ما يكون عن الخرافة بكل دلالاتها اللغوية والنفسية؛ والدارس للأسطورة يجد أنها ليست مجرد محفوظات شعرية عاطلة، كما أنها ليست سلسلة من أخيلة والأوهام لا طائل منها ولا تهدف لشيء؛ إنما هي في جوهرها ثمرة جهد متواصل، وقوة ثقافية على درجة كبيرة من الأهمية. إنها ليست قصة تردد ولكنها حقيقة حية كانت في اعتقاد المرددين لها أنها قد حدثت في يوم من الأيام، واستمرت منذ مراحلها الاولي تؤثر في العالم وفي مصائر الناس، وعاشت في طقوسهم وشعائرهم وأخلاقياتهم وتتحكم في معتقداتهم وضروب سلوكهم.

إن المفهوم العلمي للأسطورة يخرج بها عن النظرة البسيطة، وهي كونها مجرد قصة تروى وتشير، في خير حالاتها إلى مغزى غالبا ما يكون أخلاقيا ويتخطى تلك الحدود إلى النظر اليها على أنها مؤشر حضاري، غالبا ما يكون أخلاقيا يتعامل مع الوجود الانساني في انتشاره مكانيا واستمراره زمانيا.

تنوع الاساطير

حسب تصنيف الباحثين، توجد مجموعة من الأساطير تندرج تحت مسميات مختلفة منها أسطورة الخلق وهي الأساطير التي تفسر خلق العالم والكون، وتعتمد أساطير الخلق المصرية أساسا على آلهة الطبيعة والسماء والارض والريح والشمس والنجوم؛ كذلك الأسطورة الطقوسية التي ارتبطت بعمليات العبادة وعنيت بإثبات الجانب الكلامي من الطقوس، وقبل أن تصبح حكاية لهذه الطقوس؛ وهناك من يقول بأنها مأخوذة من التوراة، ومن ثم كان هرقل اسما آخر لشمشون، والمارد ديكاليون الذي أنقذه زيوس وزوجته من الغرب يوازي نوح (عليه السلام). الباحثون اعتبروا أن أسطورة ايزيس المصرية واحدة من هذا الصنف. فثمة مواقف من الأسطورة تبرز تماما عند الترتيل الشعائري. وتصاحب النسوة ذلك الترتيل وهن يضعن دمية ترمز لاوزوريس الممزق يلقين بها في النيل، إحياء لذكر طرحه في الماء داخل الصندوق. هذا على سبيل المثال، ثم هناك الأسطورة التعليمية: التي يقال أنها لم تجد مكانها إلا بعد أن ظهرت فكرة وجود كائنات روحية خفية في مقابل ما هو موجود في الظاهر، ويبدو أن طائفة من رجال الدين استطاعت أن توهم الجماعة بأنها على اتصال بتلك الكائنات الروحية، ومن ثم وجد السحر الذي أثار الرغبة الروحانية في التفسير. أما الأسطورة الرمزية فإن ظهورها جاء في فترة تجاوز فيها الإنسان مرحلة التساؤل وتعداها إلى مرحلة التسلح ضد قوي الطبيعة من برق ورعد وأمطار وعواصف، وكان سلاحه في ذلك هو تعاويذ الكهنة وسحرهم من ناحية، وتكشف أسباب المعرفة والتحضر التي ساعدته على درء واتقاء ويلات الطبيعة من ناحية أخرى. ومن المؤكد أن أغلب أساطير العالم المحفوظة اليوم تنتمي إلى هذا النوع وفيها نري صفات الإنسان تخلع بسخاء على الآلهة، كما نرى الإنسان قادرا على مواجهة تحديات السماء والانتصار عليها. وذلك واضح في أساطير الأغريق والمصريين والهنود.

الدكتور عبد الحميد يونس، في كتابه التراث الشعبي، يطرح رأيا مغايرا بالنسبة للأسطورة الرمزية، حيث يرى أنه إذا ما أتيح لها أن تدرس فإن الدارس سيتحقق من أنها ليست رمزا، وإنما هي تعبير عن مادتها الموضوعية؛ وأنها ليست مجرد تفسير منطقي لإرضاء نزعة علمية، لكنها بعث يتخذ الاشكال الفنية الحقيقية البدائية. أما توماس بوليفينش يقول إن الاسطورة الرمزية مجرد مجازات فهمت على غير وجهها الصحيح، كما أنها فهمت حرفيا، ومثال ذلك ما يقال أن ساتورن الذي يلتهم أولاده أخده الإغريق وأحالوه إلى يكرونوس أي الزمن الذي يأكل كل شيء. والواقع أن الاتجاهات الرمزية في تفسير الأسطورة كثيرة ومتشعبة، وتختلف بالنسبة للأسطورة الواحدة من باحث لآخر، حيث أنه من الصعب الركون إلى تفسير رمزي واحد لأي أسطورة، بحيث يعتبر هو التفسير الصحيح بالضرورة. هناك أيضا الأسطورة التاريخية؛ وربما هذا المسمى يبدو غريبا للوهلة الاولي لأنه يعني اشتمال الاسطورة على عنصر التاريخ المحقق من ناحية، وما ناحية أخرى ان بعضها يمزج بين التاريخ والاعمال الخارقة التي تنسب إلى البطل الذي يجمع بين الصفات الإنسانية والقدرات الخارقة الإلهية. وعلى اننا يجب أن نحتاط، ونفرق بين ضربين من الاساطير: الأول يعني بأبطال دخلوا التاريخ بالفعل، ولكن طمست أعمالهم كسيف بن ذي يزن، ورولان، وعنترة، وهاملت، وفاوست. بل لعل أعمالهم اختلطت بأعمال غيرهم من الغزاة الفاتحين. والثاني يعني بأبطال دخلوا أساطير الرموز من أوسع الأبواب مثل اوديب واوليس وسيزيف.

إن الأسطورة هي ميراث الفنون، وهي معين لا ينضب للأفكار المبدعة والموضوعات الممتعة؛ ومن ثم فهي تهب كل مبدع شيئا. إنها لا تهيئ للمبدعين منهلا فحسب، بل أنها أيضا تشجع على تشييد أعمال خالدة.

يقول بيير البوي: إن الأسطورة أسلوب في التفكير يتلاعب بالواقع والحقيقة، وأنها سؤال يبقي بلا جواب محدد، فتبقي دائما منتظرة لمتسائل جديد ولمفسر يستشف من ورائها معني من معاني الوجود، كما قال (بواس ان) العوالم الاسطورية نبتت فقط لتشتت وتتبعثر، وليقام فيما بعد عوالم أخرى من الشظايا والتشات. وهكذا صارت الاسطورة معينا لا ينضب للمبدعين المحدثين ليعبروا من خلال استلهامها بأفكارهم وآرائهم بعد ان يحملوها برؤى عصرية.

أستند إعداد هذه المادة على:

شوقي عبد الحكيم، موسوعة الفولكلور والاساطير العربية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1955

فاروق حسان، الاساطير الدلالة والاستلهام: كتاب الرافد 52، دائرة الثقافة، الشارقة، يناير 2013

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.