الخنيزي يضع حواسه على محك الاختبار

غسان... الصُنْدوقٌ المُكْتَظُّ بٱلأوْهام. الوَحيدٌ كَمَعْبَرٍ بَيْنَ أشْجارٍ ذاوِيَة.

0 195

عبدالوهاب أبوزيد – السعودية

بين إصدار كتابه الأول (أوهام صغيرة أو التي تراود الموهوم في الحمى)، وبين إصدار كتابه الثاني (اختبار الحاسة أو مجمل السرد) عقدان من الزمن أو يكاد، فالكتاب الأول صدر عن منشورات دار الجديد في 1995م، في حين صدر كتابه الآخر عن دار مسعى عام 2014م، فلماذا تأخر غسان الخنيزي كل هذا الوقت، ولماذا انتظر عقدين كاملين ليطل علينا بكتابه الجديد؟ هل مر بفترة نضوب وجدب في الكتابة؟ هل تغيرت في جدوى النشر؟ هل ما يضمه الكتاب بين دفتيه من نصوص هي كل ما كتبه في هذه الفترة الزمنية الطويلة، أم أن هناك نصوصا أخرى لا تزال حبيسة الأدراج (أم هل نقول الملفات؟) تنتظر دورها لترى النور؟ هذه أسئلة لا يملك أن يجيب عنها سوى الشاعر نفسه. أما نحن فنملك أن نقرأ كتابه الجديد ونبحر في لجته ونغوص في أعماقه ونعود منه محملين بالثمين من جواهر الشعر المصفى ولآلئ السرد المحكم النسج، المصقول بمهارة نحات ينفخ في قصائده لتتمثل شعرا سويا. في مجموعته الجديدة، يواصل غسان حفره الشعري في مكامن المعنى العميق، ويأخذنا رحلة شائقة في مجرات روحه الشفيفة، مقشرا بهدوء وتؤدة طبقات علائقه الوشيجة بالمكان والزمان والجسد، واضعا حواسه على محك الاختبار الذي يخرج منه الشعر ناجحا وبتفوق ملحوظ. الشعر الذي يعرفه في أحد نصوصه، موجها الخطاب إلى نفسه على الأرجح، بأنه “كلام قليل يكون لك متى ما استيقظت من غفوتك أيها الشفاف في المنام – المعتم في اليقظة”. هذا الكلام القليل الذي لا يكون له وحده بالطبع، بل لنا نحن أيضا نصيبنا الوافر منه، يتم تقطيره بدقة وحرص كبيرين وبدربة عالية على يد شاعر يحكم بناء نصه بكافة عناصره، فلا نجد صورة نافرة هنا أو لفظة معلقة في الفراغ هناك. تتكرر عبارة “كلام قليل” وتتوزع على عدد غير قليل من صفحات الكتاب، وكأن الشاعر يؤكد على الطبيعة الاختزالية والإيحائية المشعة للغة الشعر في نصوصه التي تميل إلى القصر في الأغلب منها، وإن جنح بعضها إلى الطول. ويرجح لدي الظن أن غسان من ذلك النوع من الشعراء الذين لا يذهبون إلى كتابة القصيدة إلا حين تلقي بثقلها على صدورهم، ولا يكون أمامهم مفر منها إلا بالاستسلام والانقياد لها (دون أن يتنازلوا عن شروطهم الفنية العالية والقاسية). في أحد نصوص المجموعة يحدثنا غسان عن شوقه للعودة إلى ما يسميه “جرائم الكتابة”، لينبئنا بعد ذلك أن “العزيمة أضعف أن تساق سوق الأسود إلى الفرائس”. لا يؤرخ غسان قصائد مجموعته الجديدة كما فعل مع معظم قصائد مجموعته الأولى. وكما في عنوان المجموعة ذي الشطرين المفصولين بكلمة (أو) الأثيرة لدى الشاعر، تنقسم نصوص الكتاب إلى مجموعتين لكل واحدة منهما طابع شكلي وأسلوبي مختلف عن نظيره، ففي حين كتبت نصوص القسم الأول وفق شكل القصيدة الحرة التي يتفاوت طول أسطرها، نجد أن نصوص القسم التي يتفاوت طول أسطرها، نجد أن نصوص القسم الآخر تجنح نحو الطابع السردي، وتكتب ككتلة واحدة متماسكة، كما هي قصيدة النثر وفق مفهومها الكلاسيكي المتعارف عليه في الشعر الأوربي. وشاعرنا كما يعرف القريبون من تجربته مطلع بشكل كبير على الشعر العالمي عموما، والشعر الإنجليزي على وجه الخصوص، وهو صاحب تجربة عريقة وطويلة في ترجمة الشعر عن اللغة الإنجليزية. ولا يعدم أن تظهر آثار من ذلك في بعض نصوصه، حيث تتسلل ملامح من بعض نصوص الشعراء الأجانب إلى قصائده، كما في نص (كلام قليل – ص 60) الذي يستدعي قصيدة الشاعر الأمريكي مارك ستراند (المحافظة على كمال الأشياء) إلى الذاكرة. القصائد التي تستحق الوقوف عندها طويلا كثيرة، ولعل أبرزها (تشبب) التي يواجه فيها الشاعر ويفلسف مخاوفه من الموت، و(القاهرة)، ذلك النص الأشبه بفيلم تسجيلي شعري متقن يقبض فيه على روح المدينة العريقة ويتغنى بأدق تفاصيلها، و(شقيقة الروح، شادية)، “التي كانت قاب قوسين أو أدنى وكانت بعيدة في الوقت ذاته”

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.