“العنقاء” : نور البعث ورماد التغيير في ديوان “سفر البوعزيزي” للشاعر نصر سامي: بحث في التفاعلات االنصية

0 894

الدكتورة هادية السالمي- تونس

يعد التناص مدخلاً نقدياً مهماً لمعرفة تعالقات النصوص الشعرية، وهو يسهم في فهمها متجاوزا النص المغلق ورؤيته الدلالية. ففاعلية الموروث واتساعه مانع من هذا الانغلاق فضلا عن الصلة الوثيقة بين التناص والتدفق الشعري. ولهذه الظاهرة جماليات وتقنيات غير خافية على هذا النص، وهي تشي بقدرة الشاعر على توظيف المتناص وفق سياق لغوي متميز يغاير ببنائه المنصوص الهدف والدلالة الأولى.

القراءة التناصية:

تمثل أسطورة الخلق الخلفية الوجودية التي ينطلق منها الشاعر نصر سامي لبناء عالمه الشعريّ. وسبيله في ذلك أن تؤثثه الاستقصآت الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) منها إليه نشأة ومنه إليها نهاية: فهذا الكون الذي يزدهي بالولادة موسوما بالأصليّ والمقدس في رموزه الدينية والأسطوريّة. وذاك الذي يجسد النهاية تترصده الفجيعة والدمار مآلا  وقدرا. وبين العالمين إنسان يعتاش بالحلم والأمنية، لا يملك أمره، بل يتبدّى ضعفه أمام عناصر الكون وأمام ولاة أموره، وأمام شهواته، وأمام تاريخه. “هي هكذا أسطورة بشرية لم يستطع أحد سواي رؤية ريشها من تحت طيات القميص” (1)

     ومن قصة الخلق تتوارد القصص: فقصة الطوفان والإسراء والافتداء مرورا بقصة عليسة والكاهنة وصولا لقصة البوعزيزي التي ينضدها الشاعر ضمن التاريخ القصصيّ ويستلهم منها معاني الوجود، بل تستحيل في النص بؤرة دلالية منها تنبثق المعاني البدئيّة فتتأصل منها وفيها لتكون وعيا جديدا ونمطا مختلفا في الوعي بالذات والعالم.

واعتبارا لهذا التشكيل اللغوي استعان الشاعر بآليات مددت طاقات النص اللفظية والدلاليّة ومن أهمها:

*الذاكرة الشعرية:

وتمتد لتشمل الشعر الإنساني سواء أكان قديما أم حديثا، عربيا أم أجنبيا، فلقد اتسع المشار إليه تضمينا واقتباسا ومعارضة، وحضور الشعر في الشعر بديهيّ إذ يعتبر المنهل الأول للنص و”من الطبيعيّ أن تكون شخصيات الشعراء من بين الشخصيّات الأدبيـّة هي الملاصقة لنفوس الشعراء ووجدانهم؛ لأنّها هي التـي عانـت التجربـة الـشعريّة ومارست التعبير عنها، وكانت هي ضمير عصرها وصوته، الأمر الذي أكسبها قدرةخاصة على التعبير عن تجربة الشاعر في كلّ عصر” (2).

ومن ذلك نرى الشاعر ينحو الى استحضار نص المتنبي القائل

أطاعن خيلا من فوارسها الدهر /    وما قولي كذا ومعي الصبر

في قوله:

“هل كنت وحدي والعواصف في دمي/ أستيقظ الأسلاف تحت ردائي/ وأعيد تشكيل الحقيقة كلها/ من ضلع إنسانيتي العوجاء/ هل جئت للدنيا بضوء راعش/ لأخاف من ريح الأدى الهوجاء” (3)

 كما لا يخفى نفس الشابي في هذه الأسطر الأخيرة فالنص الخلفي المولد لها قوله:

سأعيش رغم الداء والأعداء    /      كالنسر فوق القمة الشماء

وليس هذا إلا أنموذجا من التناص الضمني فضلا عما تكشفه البنية السطحية من متناصات صريحة ومن ذلك أنه يهدي إلى الشابي هكذا حدث بروميثيوس ونصا لمحمود درويش من إنشائه ويهدي الشاعر الإيطالي نابوليتانو ونصا لجبران خليل جبران (4) ويدرج في نصه شعرا لبدر شاكر السياب (5) وغير هذا كثير.

وقد أشار الشاعر إلى مدونة ضخمة ثرية لئن كشفت عن ثقافة وسعة اطلاع، فهي من جهة أخرى تحاور التاريخ الأدبي للإنسانيّة منذ البدء إلى ما آل إليه اليوم من تنوّع واتساع في آن.

فلهذا المخزون وجهان فقد يكون اطلع عليه الشاعر خلال مسيرته المعرفية وظل نصا فاعلا، إذ تسلل بوعي أو دون وعي إلى ما يكتبه. فتتضاعف بذلك البنية العميقة ويستحيل للمعنى طبقات: يتجاوز خلالها القارئ طبقة المعنى الأول مخترقا اللفظ والبنى اللغوية للوصول إلى المعاني الثواني. أما الوجه الثاني فقد يكون هذا النسق عالقا كذلك بأذهان القراء في أزمنة وأماكن مختلفة فيذكرون منه ما يذكرون وقد تستثير فيهم هذه النصوص ما أنسوه فيها كل حسب ظروفه. ومن هنا صعوبة القراءة، وما قد تسقط فيه من زلل غير مقصود ما دام النص الشعري جماع النص الموروث الشعريّ الساكن في الذاكرة ذاكرة الكاتب أو ذاكرة القارئ، أما الآلية الثانية فهي:

*الخطاب الثقافي:  وهو النص الغائب الثاني الذي يكتشفه الباحث في نص نصر سامي، ففي هذا الكم الهائل من النصوص الشعرية الرابضة في نصه يعيد قراءة تاريخ الكلمة الثابتة لتأسيس لغة مغسولة من الضياء. ولذلك يرتد إلى التراث، فيتعمد فيه مبشرا بالمعتم منه كأنه العنقاء مغموسة في الرماد تبشر بالانبعاث. وقد استند في ذلك إلى رصيد ثر من الأساطير منحت النص الأكبر صيغته المطلقة .

أما الآلية الثالثة فهي

*الخطاب السياسي: إذ لم يستطع الشعر إلا أن يكون متورطا في السياسة موصولا بالأحداث الوطنية  وأزمات الأمة في كل العصور بل كثيرا ما استوعب إشكاليات عصره وعبر عن توقه لاحتوائها وتقديم رؤى لتجاوزها. ويرشح نص نصر سامي بخطاب يقترن فيه المقدس الديني بالمقدس السياسيّ مراوحا بين صور النبي والرسول والثوريّ.ـ المثقف العضوي. وفي هذا المستوى ينفتح على البطل بين التصور الملحمي والتراجيدي.

وهو يشي بالأمل المرتقب بالزعيم العادل في ظلّ  المستبد القاهر، على أنّ الشاعر يظل متفائلا بالمستقبل. ولقد حضرت شخصيّات كثيرة  كالمسيح والعنقاء مثلت هذا الأمل في جزء هام من نصوص المدوّنة، ولقد عكس هذا الحضور أوّلا قيمة هذا البطل تاريخيّا وما اتّسم به من سمات وما يقدّمه من أعمال. وهو يعبّر ثانيا عن حاجة ماسّة لمن ينقذ الإنسان عموما، اليوم ممّا يعيشه من غبن وذلّ، ويستعيد عزتهّ وكرامته. فهو يمدح في هذه الرموز صفاتها التي فقدها القادة والزعماء من الفكر والساسة على حد سواء.

  • يعدّ الموروث الديني من المنابع الأصيلة التي نهل منها الشعراء شخصياتهم حتى استحالت وسائل تعبيريّة من خلالها يكشفون عن جوانب من تجاربهم، ولم يشذ نصر سامي عن ذلك، إذ يكتسح الدينيّ البنية السطحية ومن ذلك أنه يستحضر قصة افتداء إسماعيل ويمزجها بقصة يوسف في قوله:” وحين سمعنا الثغاء ومدّ كبش السماء على صخرة رأسه لافتدائي رأيت على إخوتي قمرا في انطفاء”(6) / إخوتي لا يحبونني/ حملوا قميصي للذئاب (7) / ما أنت يوسف كي تعود (8)

كما يضمن حادثة إحراق سيدنا إبراهيم ” لم تكن نار إبراهيم بردا”(9) فهي وإن اندرجت في التاريخ إلا أنها تظل مشعة بالدلالات الدينية مشيرة إلى قدرة الله غير أنّ الشاعر في سياق استحضارها يخالف معانيها الأصلية ويحورها لتناسب رؤيته الخاصة. وهو ما يعني أنّ المعاني الأول مجرد ظلال لنوى دلالية تكتسب مشروعيتها من التناقض مع المحتمل والممكن.

ويوظف الشاعر كذلك “البراق” الدابة التي أسرى بها الرسول ويجعلها عنوان نص له (10)

ويستمر في استلهام المخزون الديني ومن ذلك أيضا قوله على سبيل الذكر لا الحصر:” وجعلتم قلم النبي يغرد (11) / أغرقتم الفرعون دون جنوده (12) / المدثر (13)

  • البوابة الموالية والموظفة في هذا النص الشعري هي التاريخ و”يعد التاريخ منبعا ثرّا من منابع الإلهام الشعري الذي يعكس الشاعر من خلال الارتداد إليه روح العصر ويعيد بناء الماضي وفق رؤية إنسانية معاصرة يكشف عن هموم الإنسان ومعاناته وطموحاته وأحلامه وهذا يعني أنّ الماضي يعيش في الحاضر ويرتبط معه بعلاقة جدلية تعتمد على التأثير والتأثر”(14)
  • تنوع العتبات: أفاض جينـيت Genette الحديث في “عتبات”عمّا يمكن أن يحيط بالنص الأكبر من نصوص صغرى؛ وتشمل العتبات عنده العناوين والمقدمات والإهداء والتوقيعات وما إلى ذلك، وتدخل كلها ضمن ما يسمى بالنص الموازي، وهو: “العناصر الموجودة على حدود النص، داخله وخارجه في آن، تتّصل به اتّصالا يجعلها تتداخل معه، إلى حدّ تبلغ فيه درجة من تعيين استقلاليّته، وتنفصل عنه انفصالا يسمح للتداخل النصيّ، كبنية وبناء، أن يشتغل وينتج دلاليّته” (15).

ومن النماذج على هذه النصوص المقدمة والتصدير.

وقد كتبت المقدمة بقلم الشاعر، وتعد ضمن العتبات أيضا، حيث تلحـق بالعنوان في معمارية جيرار جينيت، ويجري  فيها  الشعراء عادة مجرى الناظمين لا الشعراء فقدموا لـدواوينهم بمقدمات نثريّة أو شعريّة. وما كتبه نصر سامي هو بيان manifeste. فهل كان هذا البيان قاصدا التعتيم أم هو فتح لإمكانيات القول التي لم تتح من قبل؟ فالأنا تترصد السواد والبياض في  تاريخ معرفتها وكينونتها، وكلّ تساؤلاتها تصب في معنى الندم على ما حدث والتحسر على ما لم يحدث، وهذه الرغبة في احتواء الزمن إنسانية خالصة تعي قصور الذات وتعي تمام الوعي اتساع الكتابة.

ولئن جُعل النور رديف القناع الذي تتستر به الذات وتتجمل أمام الآخر، فهو أيضا يسجن الضوء حين يسيج ويصير مرادفا للممكن متسلطا. فهذا البيان، عقدُ القراءة، قراءة للسائد وبحث في مشروعية المعتم المسكوت عنه. إنها وقفة تأمل في ما كتب وما لم يكتب: هل للكاتب سلطة على مخزون كتابته؟ أهو انصراف إلى تقليد المكتوب أم هو هوس تستجيب له الذات؟ أم إنّ الكاتب تتناوبه أمور كثيرة ويختار أفضلها حسب مقتضيات الزمن السياسي والفكريّ؟ هل إنّ الفكر لكثرة اصطلائه بالنور تقولب؟ وكيف يكون الشاعر وهو ثمرة الضياء في قوله “أنا ثمر الضياء”(16) أو اعترافه “يفيض ضوئي” و”تحلم أن تبقى ضوءا طول الدهر؟”

تفتح المقدمة شهية القراءة وتسمح بالتأويل ممهدة لإشكاليات الوجود البشري زارعة القلق حيثما حلت. أمّا التصدير فمن نماذجه قول عمر الخيام “نحو تلك الكؤوس المقلوبة التي تدعي السماء التي تحتها نعيش ونموت كالحشرات..”

وينزع التصدير عادة إلى الاحتذاء والكشف عن المرجعيّة التي يحتكم إليها إنتاج النص، وهو يشتغل بوصفه نصا موازيا يمكن أن يلمح إلى القضايا التي يعيشها الفرد والجماعة دون تحديد للزمان والمكان وهو ما يعني إنسانية التجربة وامتدادها في التاريخ.(17)

ومن النماذج أيضا نص عبد الرحيم محمود:

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى(18)

وغير ذلك كثير.

  • تعدد المعاجم واللغات: وأما من نماذج التضمين اللغوي فهو يدرج العامية مثلا في قوله “وجوه اللوح، ارجع غدوة”(19) وغير خاف نقده اللاذع للبيروقراطية القاتلة والتي أرهقت المواطن التونسي لسنوات خلت وفي هذه النبرة القاسية تضمن العلاقة العدائية بين الدولة والمواطن وما يستتبع ذلك من معان حافة.

كما يستلهم من الحكايات الشعبية سيرة الجازية الهلالية ويضمن قولها: “الحوت ما يسكن البر والطير تحن لأوكارها..”(20) مبرزا علاقة الإنسان بوطنه من خلال صلة الحيوان ببيئته. وهذا الاتساع التمثيليّ درج في كتابات كثيرة من مثل كليلة ودمنة في الأدب القديم. وهو ما يعيدنا إلى أساليب الترميز والتمثيل بالحيوان ودواعيها السياسيّة.

ويطفو على مستوى البنية السطحية معجم الرحلة أيضا من مثل قوله: “منذ آدم لم نصل؟ فعيوننا جثث وحواسنا تعهّدها الجحيم(21) // من ألف عام فكرتي تمتد في ترحالها الأبديّ(22) // بيتي القلوب ولا أتوب عن الرحيل(23) // وأخزن ما أمكن من زاد للرحلة نحو المجهول(24)

وهي تعكس معنى الغربة وروح البحث ولعلّ الاغتراب من أهم القضايا التي تناولها الشاعر متحدثا عن نفسه وقد تجلت  أساسا في استعمال لغة خاصة ذاتية المراجع تناصية الأبعاد والغربة في بعض معانيها  تجسد مأزق الذات في المجتمع  وتطرح مشاكل المجتمع  التونسي الحديث ككل. وقد تجسدت عنده في أشكال منها العزلة أو الانعزال/ والعجز عن التلاؤم مع المتغيّر والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة مع ألم اللامبالاة وعدم الشعور بمعنى الحياة.

إن الغربة التي يعانيها الشاعر وليدة الشعور بعدم الانتماء لهذه المجموعة البشرية أحيانا لوعيه بعيوبها فهو مجتمع الوهم والزيف مجتمع يحتاج طوفانا يجرف دنسه ويستعيد طهارته الأولى وجدارته بالاستمرار. والشاعر، إذ يشعر بالاغتراب عن منابع ذاته الحقيقية، يحيا الخيبة ويكابد الألم، وينمو شعور الرفض لكلّ مكونات النظام الذي يسير عليه العالم، وهو يتصدى في قرارة نفسه لنفاق الناس وزيف معاملاتهم. ومن تم يجد الشاعر نفسه عاجزا عن صنع حقيقي للذات في التاريخ. إنه يتحرك في زمن جزئي متقطع يسحقه ويبعثره. لذلك فالشعر عنده يبقى خيمة مسكونة بالحسرات، وفضاءً مملوءاً بالخيبة والرجاء معا.

“ها أنذا أفكر في نجمتين لأصنع إلياذة في سماء الغياب/ وها أنذا أفكر في غيمتين لأصنع أوديستي (25) // إن في قتلي بدايات الوجود(26)

ولئن تطابقت الرحلة الشعرية مع مثيلاتها في الأدب والخرافة في بعض التفاصيل فإنّ المعاني الإنسانية تظل طاغية على نفسه الشعري مادحا الإرادة والعزم. ولذلك يستعير من مسيرة الأنبياء بعض لحظاتها فيقول في حديثه عن سفينة نوح: “المركب لمّا يصنع بعد” “فصبرا”(27) مبشرا بسفينة نوح الجديدة ويراها خاصة بالحيوان دون البشر تخليصا للعالم من شرورهم.

ومن الإنجيل قوله “من يثبت إلى النهاية يخلص”(28)

  • تعدّد الأجناس: إن هذا النص جامع للمعارف من عقائد وسحر ودين، وهو يتقاطع مع شؤون الناس في الحياة. وقد جسد النص في تشكله عالم البشر في امتزاجها وشمولها لأبعاد وجوده. ولذلك كان الشعراء في بناء نصوصهم يتوخون النظم على السنن وقد يلجؤون إلى الانزياح عنها.

ولا تخفى مكانة الشاعر في المجتمع العربي ولا منزلة الشعر من معارف العربي وحضارته، فتراث الأمم السابقة كان معينا معطاء لتصوير نص نصر سامي واغترفت المخيلة التصويرية عنده من اللاشعور الجمعي. وهو مفهوم صاغه كارل غوستاف يونغ، ويعني أن اللاشعور يستمد تجاربه من الموروث الإنساني العام، وليس من تجارب الفرد الشخصية فقط. وهذا ما جعل الحديث عن هذا المفهوم يرتبط بالحديث عن الرموز التي كررها الإنسان في كل زمان ومكان، وشكلت النماذج الأصلية التي كثيرا ما توجه السلوك والتمثلات البشرية شأنها في ذلك شأن الأساطير التي تشكل خلاصة التجربة البشرية عبر كل الأزمنة، لذلك لم يكن مستغربا أن يجد القارئ تشابها بين مضامين الكثير من الأساطير والرموز.

كما لم تكن الذاكرة الشعرية عنده بنية مغلقة بل هي تتحاور مع كل الألوان المعرفية والثقافية فتصنع بناها وآلياتها من سرد ونظم وقص وغيرها تخترق حدود الأجناس وتهزأ منها.

ولعل هذا المخزون  الذي اعتمد عليه الشاعر في  بناء نصه كان لبنة أساسا للإبداع إذ سمح استحضار الماضي بإمكانيات كثيرة في النص فقد أقام الشاعر حينا تداخلا أدى إلى تشكيلات  تناصية  وانزاح  إلى  التخالف مرة أخرى وهو في كل ذلك يساير رؤية خاصة به  نأت به إلى نوع من الشعر هو شعر الرؤيا.

ويقصد بشعر الرؤيا ذلك النمط من الإبداع الشعري القائم على إنتاج نصوص بوعي مسبق يرفض محاكاة النماذج الشعرية السابقة، و يؤمن بأن الإبداع يقع خارج المتداول والمألوف، وأنه ليس تصويرا للواقع، بل هو كشف جديد لعلاقاته الضمنية وغير المباشرة، و أنالأشياء المادية والمحسوسة والمعيشة ليست سوى تفاصيل وجزئيات يتجاوزها شاعر الرؤيا بتشييده لرؤياه التي تغوص في أعماق الحقائق غير المرئية مستحضرة تجربة الذات في تفاعلها مع التجربة المجتمعية والإنسانية وهو ما يفسر توظيفه للرموز والأساطير.

تتشابك إذن هذه الآليات في النص محور الدراسة فتعمل على التمطيط والتوسع الدلاليّ، إذ لقد اخترقت الذّات ﺍﻟﺸّﻌﺮﻳﺔ ﺍﺧﺘﺮﺍﻗﺎ بعد أن تشبّعت بتراثها فسكبته في لحظة على الورق، فالشعر فتح الذات على الآخر وقبل بتعددها في تجاويفه لتحقيق متعة الانتقال من المفرد إلى صيغة المفرد/ الجمع،  وليستحيل المعنى مغامرة غير مأمونة النتائج.

إن المتمعّن في الأقاصيص(29) المتنوّعة يلاحظ رغبة الكاتب في ضمان وجود الواقعي في العناوين ترسيخا لمبدأ الآنية ووجود الرمزيّ والأسطوريّ رقيا بنصه الفني إلى مصاف اللا متناهي. وبذلك يصبح التعبير عن الواقع مرحلة من مراحل التنامي نحو الممتد والمستمر. ولعل الحديث عن بعض الشخصيات الوطنية مثل جميلة بوحيرد والشخصيات الأسطورية كطائر العنقاء  والشخصيات الخرافية  كجلجامش هو في حد ذاته يحمل رؤية باطنية تعمّق اليوميّ والسطحيّ وتكشف الموقف النّقدي من الذات ومن الآخر.

إن الكتابة سيرورة في المكان وصيرورة عبر الزمان وحيلولة دون ظاهر الأمور تباهي بكونها غير نمطيّة تتشكل الأجناس وفقها تبعا لرؤيا الناقد  ولرؤية الواقع غير عابئة بالقوانين الإلزامية التي تنال من حريتها وإبداعيّتها .

ولهذه العين ضوء لابدّ أن يقوم بوظيفته المجبول عليها فهو” ليس مجرّد فضاء”(30) وإنما هو ضوء خطر وخطورته تكمن ” حين يتمكّن من الذهن ويصبح أشدّ خطورة حين يتمكن من اللغة ويلمس يده البيضاء كل مجالات الدنيوي ليصير مقدسا”(31)

وحسب اعتقادنا إنه صدّر عمله بـ”المضاء والمعتّم” على هذا الأساس الفكريّ، ثم تراه يستمدّ انعكاس الضوء من شخصيات تجذّرت في الفكر الجمعيّ الإنساني كأسماء جسّدت قيم الصبر والثبات والتحدي، فهي رموز ثورية مثل بروميثيوس الأسطوري وبوحيرد الوطنية والعنقاء الخالدة. فمن كل هذه الشخوص يؤسس لثورة على السائد والمستهلك اليوميّ.

ولعل الإبداع الحقيقيّ في هذا العمل لا يتجلى في هذه الاستخدامات الرّمزية ، فاستدعاء الأسطوريّ والشعريّ والتاريخيّ سمة بارزة في الكتابات الحديثة، وإنما في تصويره للواقع التونسي بحذافيره دون أن  يقع في الإيغال في الذهني فوجود برومثيوس والعنقاء ماثل في الأقصوصة الثالثة، شبح خيم على المعاني دون أن يذكر، ولكن يتم رصده  عبر الانتقال من المعلن إلى المضمر. فالحفر قائم يساند الصورة الإبداعية في شموليتها، فلا شك في أن الواقع التونسي بعد الثورة يرى في  برومثيوس الأنموذج الأرقى للتغيير، ويرى العنقاء شعبا احترق ثم انتفض من رماده، وعاش لذة الجمر وتجربة البعث، وهو جلجامش الذي حكم عليه بأن يحمل صخرة الأوجاع فيتدحرج بها وتكون حياته مسرحا بين الدفع والجذب.

والمتمعن في ثنايا اللغة يكتشف أنّ الكاتب أخرج هذه الصور في رداء محاك تشابكت خيوطه وأُمسِكت تلابيبه بإحكام ذلك أنّ هذه الشخصيات الأسطوريّة تتحلل في شخصيّة واحدة فإذا جميلة بوحيرد هي نفسها العنقاء بل هي برومثيوس، ولعلّها الكاتب نفسه إنها الإنسان يقول الكاتب: “أنا الجميلة والجميلة لا تموت… الجميلة لا تموت الجميلة صوتها يكفي لترتجّ الدّنى حرّية.”(32) فمعنى الخلود والقوّة والتحدي يُكسب التّعدّدَ التّوحيدَ.

وعلى هذا الأساس تصبح نظرية التّلميح باستعمال الأسطوري والتاريخي غير مجدية إذ أن الكاتب على غير الكتاب والشعراء من قبله ممن استعمل هذه الصور الفنية شكلا من أشكال القناع الذي يغلّف المعنى ويخفيه عن أعين السلطة، وهو ما لا يحتاجه فالقناع سقط والسلطة تهاوت، وأعين السّاسة صارت تخشى الكلمة المضاءة. وهذا ما يفسّر تلك المعاني التي تهبنا نفسها طيّعة دون أن نبحث كثيرا في مراميها لأنها موجّهة إلى الإنسان البسيط الذي يشقى من أجل لقمة العيش، نمط حياة التونسي بعد الثورة فيرصد حركته:

 1 داخل السوق: ويتحدّث عن غلاء الأسعار وفساد القيم وتدنّي قيمة الدّينار وبذلك يصبح وشم المعاناة غائرا في اللحم الحي.

 2- في القصبة(33)، أمام الولاية(34) … ليؤرّخ حركة الشعب وهو يصرخ للتنديد بالطغاة الذين سلبوا الحق وجاهروا بالاستبداد ولذلك يصوّر شخصيّة محمد البوعزيزي تصويرا فنّيا تتعمّق فيه الرّؤى ويستحيل الإنسان نبيا والعربة براقا وتتلبّس الشّخوص والأدوات بميسم مجازي فتحضر في مستواها الأول في حقيقة وضعها – قصة البوعزيزي مع الموظفة- ثم تتجلى في مستوى ثان صورته دون كيشوت يلخّصه الكاتب بقوله: “سوف تصعد من رمادي الشمس أؤمن بالقصيدة ليس بالجلاّد وأعمل، لا أطالب بالحياد ولا أسابق مثل غيري طواحين الرّياح ولا الرّياح مثل آلاف الجياد.”

لقد رصد الكاتب في عمله هذا حركة الزمن وحركة الشعب التونسي وحركة المكان بين عهد الطغاة والجبروت السياسي وعهد التململ والثورة والرّجاء. فوردت حكاية الأحداث مشوّشة مما يدلّ على أن الكاتب واقع تحت عبء أفكاره وهواجسه التي تنهمر في تداع حرّ، فتُدوَّن على علاّتها.  وهذا الخلط الزمني ينسحب على أغلب الأعمال الإبداعيّة إنه “اختلاط الواقعي بالممكن والكائن بالممكن”. وكان السرد نسخا للواقع وتأريخا لمرحلة هامة من مراحل نضال الشعب التونسي ضد قوى الفساد فتكشف المعجم الطبيعي بين السالب والموجب والمعجم الديني بين الخير والشرّ والمعجم الحضاري بين التّطوّر والتّحجّر والمعجم الفلسفي بين إمكانات الذّات وإفرازات الآخر والمعجم الأدبي بين صوت نداء الكاتب وأصوات ضجيج بقيّة الشّعراء كالسيّاب والشابّي ودرويش.

فتزدحم الدلالة لتصبح ذات أبعاد متنوّعة شبيهة في ذلك بالمرآة تُعلّق على الحائط وتتغاير الوجوه أمّا هي فثابتة ترحّب بالذين عكسوا صفحات أحلامهم على بلّورها الشّفّاف المطواع.

  ونلاحظ أنّ أغلب المعاني تتمحور حول دلالة الموت التي يعطيها بعدا رمزيّا إذ يتماهى معنى الموت بالبعث،بالنّار، بالتراب، بالتّجدّد. فلم يعد الأمر مسألة شهيد ولا ضحيّة وإنّما يصبح حرق الذّات درجة من درجات الصّعود إلى عالم المقدّس والمثل(35) ومرحلة من مراحل بناء الشعوب لحضارتها فـ”صوت موته أيقظ الدّنيا وإيقاع أقدامه “دقّ الأرض” مذكّرا تلك البذرة المدفونة في تربة الأموات بأن تخضرّ.

وهنا يسدي للزمن – وللجسد وللأشياء من حوله – قيمة تحرّريّة حين يعرّفه قائلا “الوقت رماد”. فهو تمدّد فضائي لانسياب الأفعال بين الماضي والحاضر والمستقبل كشف عن موقفه السياسيّ. إنه التعبير عن الاحتجاج على الوضع الرّاهن المتوتر القلق. إنه الرفض الجازم للقوى الهدّامة التي لا تصنع إلا السلب والمهادنة، بل إنه تعرية لفساد بعض النماذج السياسيّة وتشهير بكل من يحدّ من الحريات. ولذلك يمكن تصنيف هذا العمل ضمن التجارب الفنية السياسية التي تزيح اللثام على هواجس المجتمع التونسي وإرهاصاته .

ومن هنا نفهم لم  خصص الكاتب الفصل الأول “المضاء والمعتّم” إنه manifeste لبيان ازدواجية الرؤية مستنتجا من كل موقف ما يراه صدى للواقع التونسي الذي تعيشه البلاد، وما صاحب التحوّلات السياسية منذ الثورة من تغيّرات اجتماعيّة، وتتتالى بقية الفصول دعما لهذه الازدواجيّة وبلورة لما ينشده من أحلام مشروعة وهذا حسْبُ المبدع أن يحيط قرّاءه علما بما يحدث، وأن يتوجّس خيفة وحيطة مما يهدّد الاستقرار الخاصّ والعامّ للإنسان عموما، وأن يستشرف آفاق الغد متوعّدا مندّدا ناقما ساخطا ومبشّرا. ولذلك يستنزف رؤاه العقلية والقلبية تعاطفا مع شعبه ومناصرة للثورة في عملية تعاقدية مع الآتي فيستحيل الحدس نظرة ثاقبة لمجريات الأمور.

فعن أي كتابة نتحدث؟ وكيف يصنف  هذا المكتوب ضمن نظرية الأجناس؟

إنه من العسير في هذا العمل التّصنيف، ذلك أن العمليّة تحتاج دقّة ومعرفة بقوانين الأجناس. و”نظريّة الأجناس الأدبية” مصطلح يشير إلى مبدإ تنظيمي يصنّف الأعمال الأدبيّة تبعا لأنماط أدبيّة خاصّة من التنظيم أو البنية الدّاخليّة لهذه الأعمال. وتستمدّ غالبا هذه الأنماط من الأعمال الأدبية الرّفيعة التي تتحوّل مبادئ تنظيمها وطرائق بنائها، بفعل جملة من العوامل الاجتماعيّة إلى معايير يأخذها الكتّاب بالحسبان عندما ينشؤون نصوصهم.”(36) وعلى هذا الأساس، اتفق النقاد أنّ العملية الإبداعية تخضع لجملة من الخصائص النوعية. وقد فصل أرسطو بين الأجناس الأدبية على أساس خصائص كل نوع من ناحية المضمون والشكل، كما ميّز ابن طباطبا بين النثر والشعر، وربط بين النثر واللغة اليومية وبين الشعر والوزن،(37) فكان الشعر وجدانيا ناقلا لعاطفة ومعبرا عن حالة شعورية في ظرف ما مفارقا الدرجة الصفر في الكتابة. أمّا النثر فهو تقريريّ وصفيّ يتّسم بتتابع الأفكار وتسلسلها الزمني. واعتبرت غايته محدّدة واضحة على عكس الشعر المتجدّدة معانيه باختلاف قرّائه ومتذوّقيه.

وقد شرّع الدرس المعاصر المزج بين الأنواع لتوليد نوع مختلف بل اعتبروا ذلك أسّ الخلق الإبداعي وأهم متنجات الحداثة الفكرية التي تزفّ للإنسانية إمكان التجريب من أجل تفعيل التلاقح  الثقافي والحضاري. وهي دعوة إلى توسيع حدود الجنس الأدبي. وقد سعى بارت إلى تفنيد فكرة التصنيف وتعالت رؤيته على الفروق بين الأنواع الأدبية. وارتقى جينت بعده بالمبحث إلى مصاف ما يسمّى بـــ:”جامع النّص” لدمج كل التجارب الممكنة من أجل الوصول إلى مفهوم الجامع المشترك بين النصوص مؤكدا أنّ مشكلة الأنواع وجب تجاوزها وعدم تأويل النص من منظور النوعيّة لأن الخطاب الأدبي يتم إنتاجه وتطوره “طبقا للأبنية التي يمكنه تجاوزها. ويؤكد ميخائيل  باختين  في كتابه “الخطاب الرّوائي” على مسألة حواريّة الأجناس وعدم نقائها.

وقد ظهرت أعمالً إبداعيّة كثيرة لا تكسر فقط الحواجز بين الأنواع الأدبية، بل تعمل أيضا على تفجير النوع الأدبي من داخله، فهذه الأعمال تتمرد على القيم الجمالية للنوع الروائي وعلى التقنيات السردية الروائية التقليدية، وعلى الطرق التقليدية في تصوير الشخصيات وتصوير الزمان والمكان، بل تفتت الحبكة والحكاية معاً”(38)

إنّ المتفحّص في هذا العمل يلاحظ تقاطع الأجناس وتداخلها المقصود، بل يلاحظ انصهار النثر والشعر في شكل فني واحد. وسوف ندرس هذه المسألة من جهة مراميها التي تتّضح بعد تمحيص أشكال هذا التقاطع وأدواته.

ولعل من المشروع أن نتساءل: إلى أي مدى يمكن إخضاع العمل إلى قوانين النظريّات؟ وهل تصبح العملية النقديّة آنذاك محاولة لفهم العمل أم هي مجرّد إسقاط؟

ألا يمكن التسليم بأنّ العمل الفنّي في حدّ ذاته يحمل قانونه الخاص، أليست أدوات الخطاب فيه هي نفسها مفاتيح الولوج إلى مغالقه؟

وهل أنّ هذا المفتاح بيد القارئ – لأنّ  المعنى في النص  هو من يحدّده- يسبغ على الوجود الفعلي للكتابة تفاعلا ديناميكيّا وحوارية متواصلة لا تنقطع؟

إن الإشكالية المطروحة حول الأجناس تثير مسألة التجنيس التي برزت في النقد  الفني الحديث، فقد مثلت ظاهرة تلفت الانتباه خاصة في فترة ما بعد الحداثة التي خلقت ثورة على كل معطيات الحداثة، إذ اختلطت الأنواع والأجناس وصارت النصوص تحيطنا بحالة من الغرابة الدّائمة. وبذلك نستنتج العلاقة الجدلية بين كل التحولات الأجناسية والتحولات التاريخية: فمؤلَفنا ازدحم  بالأجناس واختلطت فيه ملامح الحداثة الإبداعيّة وتعددت فيه الوجوه ليعكس إرهاصات بيئته: صخب الثورة وما حفّ بها وضجة الشعب الهادر في الشوارع وتعاقب الحكومات على البلد في أوقات متقاربة.

ويتعزّز هذا المعنى بالنظر إلى الشخصيات الأدبية والفكرية التي ملأت رحاب النّص وازدحمت لتثري فضاءه شاهدة على هذه الجماليّة المبتكرة.

ويتفق أغلب النقاد على تأييد هذه العلاقة إذ يقرنون بين نظرية الجنس الأدبي وظرفه الثقافي والحضاري وقد بدأت بشائر التمرد على نمطية الأجناس مع التيار الرومنسي وتعمق أكثر مع ظهور ما يعرف بـ :”عبور الجنس الأدبي  وقد جمع هذا العمل بين الشعر والسرد ومختلف صيغ التعبير التي سمحت بتشابك الأنواع المتغايرة (39) trans -genreسواء ما انضوى منها تحت الجنس الشعري، ممثلا بشعر التفعيلة والنص المفتوح أو ما انضوى منها تحت النثر ممثلا بالسرد الفني والتراث الشعبي ولغة التخاطب اليومي، ولغة الوثيقة السياسية كذلك. وإن استعمال اللغة اليومية العادية إلى جانب اللغة الأدبية عائد إلى الموقف العام للكاتب الذي تشرّب مشكلات واقعه ووطن نفسه على الاقتراب من يوميات المواطن التونسي البسيط فتحدّث -على سبيل المثال – عن أسعار الخضر والغلال، في تونس بعد الثورة، حديثا ينزّل العمل من كبرياء مجازاته ليلثم جبين المعيش وينقل لغة السوق (40) ودهشة الحاضرين. وفجأة تتلبّس هذه المعاني المباشرة في سطحيّتها بالسياسي والحضاري والإيديولوجي فتصبح المراوحة تشكيلا فنيا تؤكد تجذّر الأدب التونسي في واقعه. وهكذا يتعايش أكثر من جنس في النوع الواحد. ولعله اختار شكل القصيدة التي تتعدد فيها الأجناس. فنجد القصة الشعرية وقصيدة الشعر الحر وقصيدة النثر كما نجد الخاطرة والقصة النثرية والسيرة الذاتية والشعبية. والسرّ في ذلك أن الجامع بينها هو اعتمادها على شعريّة الأداء وعلى الشحنة الانفعاليّة للغة والتأملات الفلسفية. ويعزّز هذا الرأي الناقد عز الدين مناصرة الذي يعتبر أن تداخل الأجناس الأدبية أمر ضروري من أجل تمتين أواصر الجنس العام.(41)

ورغم أن الكاتب نصر سامي حسم أمره عندما اعتبر مؤلفه شعرا، فإنّ هذه  النصوص تستعصي على الاندراج في قاعدة نقدية، تتأبى  الانتساب إلى نوع أو جنس أدبي محدّد بعينه. فهي قصص قصائد وهو ما ساهم في ظهور “الرواية ذات الأسلوب الغنائي” والتي تحفل بقوة الإيقاع الداخلي الذي “يرتكز على نسبة تكرار الخواطر واللمحات والحالات النفسية، على تلك المساحة الداخلية للشخصية، لا على ما يتراءى من علاقة بالعالم الخارجي”(42)

ولذلك تكثّف حضور المونولوج الداخلي والمتمعّن فيها يلاحظ أنها تهتم بباطن الشخصية أكثر من اهتمامها بالواقع الخارجي المعيش(43).

فالكتاب سبر لأغوار النفس الإنسانيّة وبحث في دفائن الرّوح العليلة المتألّمة وهي تسعى إلى الحياة الكريمة وتنشب أظافرها اللّدنة في الصخور الصّلبة علّها تستكين ويطيب مقامها. وهو ما أصبح سمة بارزة في السرد العربي المعاصر ويؤكّد انفتاح الأدب التونسي على أساليب القص الحديث. ولو اقتصر الأمر على هذا العمل أو ذاك ما شكّل الأمر أهمية ولكن لاحظ أغلب النقاد اتساع رقعة التمرد ولاحظ د. مجدي توفيق أن المشهد الروائي المعاصر هو جملة من”تداخل الأنواع، كالتراوح بين السرد السيري(44) والسرد الروائي التخيلي، وكالقفز خارج السرد الروائي إلى شكل مقالي، أو إلى تأملات نظرية عامة قد يكون لها طابع فلسفي”(45)

وقد امتص هذا العمل أغلب الأجناس إذ أخذ من الشعر استعاراته وألعابه اللغوية (46) ومن المسرح حواراته المختلفة (47) ومن الرواية أشكال السرد الاسترجاعي والاستباقي والآني (48) ومن الفلسفة طابعها التأمّلي.

وبذلك تمتزج السيرة الذاتية بالمذكرات والمسرحية بالمناجاة والقصة بالخاطرة والقصيدة العمودية بقصيدة الشعر الحر وهكذا يستدعي الجنس قرينه يغازل أهم مقوّماته فيستفيد منها ويتغذّى من جذورها دون نكران للآخر. مما يؤكد أن “الأنواع الأدبية ليست ثابتة الأركان، ولا مطلقة الوجود، بل كيانات متحركة متحولة أبداً، بما يجعل من انقراض أنواع وتولد أخرى جديدة وتحولها أمراً طبيعياً، بل يكاد يمثل قانون وجود هذه الأنواع ذاتها، من حيث أن الفن بطبيعته، تجاوز دائم بصفته إبداعاً وخلقاً متجدداً” (49).

ولاشك أن للذات المبدعة دورا في هذا الاختيار التوافقي بين الأجناس إذ من الواضح  ارتواؤها من هذه الخصائص النوعية عبر مبدأ التجريب  واستعمالها لها  في مرحلة أولى  منفردة  منفصلة محافظة على خصوصياتها. فالحديث هنا عن ثقافة الكاتب التي تحمل قوة إقناعية فالبطولة الأولى هي للمبدع الذي يمثل أسّ العمل وروحه وبالعودة إلي السيرة الذاتية لنصر سامي نكتشف أنه كتب الرواية والمسرحية وأصدر عدة دواوين شعرية وسبق له أن جرب المقالات النقدية والبحوث الجامعية وبالتالي فإن هذا التداخل الأجناسي أمر متوقع. فلا يمكن أن يزاوج بينها إلا من خبر سرائرها وتفحّص وجوه النظريات ممارسة وتطبيقا وصار قادرا على التصرف بالزيادة والنقصان وخلق أنماط جديدة وفية لماضيها فهي أصيلة، معززة لآنيتها فهي متجددة، مستشرفة لآتيها منفتحة مشعّة. وما الإنسان إلا شتات كتبه التي تزوّد بها  وإذا ما كتب  تداعت له سائر قراءاته بالتّوهّج والثّراء.

فإذا كان هذا حال الكاتب فما حال القارئ؟

الآن يبدأ عمل القارئ لأن التصنيف الحقيقي يكون لحظة القراءة لا لحظة الولادة لأنه يندرج ضمن العملية التأويلية، فنحن من ننفث في النص معنى مضافا وخلقا معاد التكوين. فنبني مقاربة بالاستناد إلى ازدواجيّة اللغة وجديّة الخطاب وتعالق الأجناس. فندرس الكون القصصي وعناصر التلفّظ والمعجم والصورة وحضور الشخصيات والحبكة الدرامية دراسة وصفية تحليلية لنتدرّج إلى أغوارها وننفذ إلى أقاصي مراميها بعد تقصّي أدنى مستوياتها.

وهنا نستعد لأن ندرس ذلك السحر الشخصي للنص فنستوعب ما كمُن في عقل كاتبه المتّقد “فلا حقيقة تداولية فعلية للنص الأدبي في غير سياق القارئ”. الكتاب بين أيدينا… قادر على استفزاز قرائحنا إن شئنا، يحثّ الخطى نحو قارئ متيقّظ يزرع كلماته في ربيع أحلام التونسيين  ويبشّرهم بمخاض ما بعد الثّورة، يسلك بنا طريقا مكلّلة بالويل والوعيد لكل من يريد الاستحواذ على مباهج وطننا  ورجّ سلامها الدّاخلي. أهداه الشاعر إلى محمّد البوعزيزي مفجّر الثّورة، ولذلك كان عنوان العمل “سفر البوعزيزي”.لم يقل خالقها ولا قائدها لأنه نفخ في النار وترك لنا جمرها. هو من قدح عود الكبريت ونحن الذين منعنا إطفاء الشعلة. إنها العنقاء: العودة من جديد… تقول الأسطورة:كل ألف عام، تريد العنقاء أن تولد ثانية، فتترك موطنها وتسعى صوب فينيقيا وتختار نخلة شاهقة العلوّ لها قمة تصل إلى السماء، وتبني لها عشاً.. تنتفض من كومة الرّماد وتعود كائنا بهيجا. ونستعير في هذا المقام  نشيد الإله رع  حين يقول:”المجد له في الهيكل عندما ينهض من بيت النار. الآلهة كلُّها تحبُّ أريجه عندما يقترب من بلاد العرب.”(50).

وهاهي اختارت نخلة عالية في تونس  انتصبت ورفعت جناحيها وصفّقت بهما تصفيقا حادّا. وما هي إلا لمحة حتى التهب الجناحان فكأنّهما مروحة…  من نار.(51).

المراجع:

  1. سفر البوعزيزي،ص 181
  2. زايد، علي عشري: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصـر. ط1، دار الفكـرالعربي، القاهرة، 1997، ص 138.
  3. أقسم جسمي في جسوم كثيرة ، ص 28
  4. ص 138
  5. ص 146
  6. ص 57
  7. ص 63
  8. ص 128
  9. ص 123
  10. البراق، ص 127
  11. ص 109
  12. ص 110
  13. ص 75
  14. نمر موسى 2004، توظيف الشخصيات التاريخية في الشعر الفلسطيني المعاصر، مجلة عالم الفكر م.33.ع2 ديسمبر ص117
  15. محمد بنيس: الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها ـ1 التقليدية، دار توبقال للنشر، البيضاء، الطبعة الأولى، 1989، ص:76.
  16. تذكرت البداية ، ص 18
  17. محمد رشد ، ظاهرة الشعر الحديث لآحمد المجاطي،31 تشرين الاول 2009diwanalarab.com
  18. ص 130
  19. ص 128
  20. ص73
  21. ص52
  22. ص54
  23. ص66
  24. ص155
  25. ص56
  26. ص121
  27. ص155
  28. الوشم ، ص 161
  29. لا يمكن الجزم بجنس المكتوب وتظلّ القراءات مفتوحة حسب الكفاءة اللسانية والمنطقية
  30. سفر البوعزيزي ص 13
  31. سفر البوعزيزي ص 13
  32. سفر البوعزيزي ص 100
  33. سفر البوعزيزي معلّقة القصبة ص 115-118
  34. سفر البوعزيزي البراق ص120
  35. الخطاب الاخير لمحمد البوعزيزي ص 127
  36. الموسوعة العربيّة عبد النبي اصطيف
  37. ابن طباطبا عيار الشعر ص 42
  38. “أسئلة السرد الجديد (مجموعة أبحاث) د.عبد الرحيم الكردي تحت عنوان “السرد الروائي وتداخل الأنواع” – ص 280 ، كتاب أبحاث مؤتمر أدباء مصر – مرسي مطروح 2008 م .انظر تمازج الشعري والنثري في ” خمسون نجما يا أبي”+” مسيح الليل” + “نشيد السلام”+” جلجامش”+
  39. انظر “وشم غائر في اللحم الحي” ص 200
  40. عز الدين مناصرة علم التناص المقارن ط1 دار مجدلاوي للنشر والتوزيع عمان الاردن 2006 ص 72
  41. أساليب السرد في الرواية العربية” د.صلاح فضل ص169 – دار سعاد الصباح – القاهرة  2008
  42. اتجاهات جديدة في القصة المعاصرة ” مجموعة أبحاث وشهادات د. السعيد الورقي ص18 كتاب أبحاث مؤتمر القصة باتحاد الكتاب القاهرة يناير 2008م
  43. اختلطت القصة بالسيرة الذاتية من خلال الحديث عن حياة البوعزيزي في ” البراق”
  44. المشهد الروائي العربي” مجموعة أبحاث، المجلس الأعلي للثقافة ص420 – القاهرة 2008م بمناسبة انعقاد ملتقي القاهرة الرابع للإبداع الروائي العربي
  45. انظر “هكذا حدث برومثيوس”+”فوضى على باب القيامة”+ “ثورة الأحرار”+ “معلّقة القصبة”+ “تذكرت البداية”+ أقسّم جسمي..    
  46. +”قبضة نجوم من أجل مريم” +”الخطاب الأخير لمحمد البوعزيزي” + “لي سماء في السماء”  انظر “الوشم”
  47. انظر البيت إلى الشاعر محمد النجار” + “أعطي جسدي لحرير الليل” +””لدينا حلم”+ أهذا كل ما تعطيه لي الكلمات”
  48. تداخل النصوص والأنواع الأدبية ” مجموعة أبحاث وشهادات ، د.صلاح السروي ص143 تحت عنوان “الأنواع الأدبية العابرة للنوع” جامعة الزقازيق – الزقازيق مارس 2009 م
  49. انظر  العنقاء ويكيبيديا الموسوعة الحرّة على شبكة النترنيت.
  50. ميخائيل نعيمة “صوت العالم” دار المعارف مصر ص 95-99.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.