بلورة “هوية النص الشعري” مجاراةً لصوت الشاعر الداخلي

0 313

مهدي حسين السنونة – السعودية

 

تتشبث الأنا الشاعرة بهوية النص تشبث الجذر بالأرض. الشاعر، عند ولوجه إلى النص، يحاول انتقاء اللحظة الفعلية لبزوغ أناه؛ لتحويلها من مجرد أنًا متطرفة إلى أداة فاعلة في النص الشعري، فتصقله أو تقومه تحضرُ لا لمجرد الحضور بل لحاجة النص إليها. الهوية دافعٌ من دوافع تشكيل النص؛ وهوية الشاعر الإنسانية غالبًا ما تكسبُ الرهانَ في إذكاء جذوة النص الأولى، مهما احتال الشاعر عليها ليتجرد من ذاته لكنها لا تتجرد من النص الشعري.

يقول الراحل محمود درويش: “الهوية هي ما نورث لا ما نرث، ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة، لا أخجل من هويتي فهي ما زالت قيد التأليف”

نعم لمّا تزل الهوية قيد التأليف قابلةً للتنقيح حتى يرحل الإنسان عن العالم؛ لكننا لا نستطيع إلا أن نُجزِئ الهوية إلى فسيفساء صغيرة؛ فالهوية كمكون تتشكل من المنطلق العقائدي والاجتماعي والفلسفي، وتتأثر بالمحيط أيضًا. لذلك، لا يجدر بنا صرف النظر عن التقلبات الحياتية ونقاط التنوير في حياة الفرد التي قد تعيد تشكيل هويته بين الحين والآخر بناء على علاقته بالأشياء وطريقة ملامستها إياه. هذه المعطيات تفرض ذاتها في الحياة الشخصية للفرد العادي، كما تفرض نفسها على حياة الشاعر، وعلى قصيدته أيضًا. علينا، أيضًا، ألا نُغفل أنه مع أن للإنسان الخيار، فالموقف المعاش يفرض أي جزء من الهوية يظهر وأي جزء يختفي، وماهي الأجزاء التي يتماهى معها، كما يحدث في النص الشعري أيضًا.

الشاعر يشغلهُ نصه فينبثق في مخيلته أولًا ثم “يركض” على المدى الأبيض.

تقول نازك الملائكة في مقدمتها لـ (شظايا ورماد): “النفس البشرية عمومًا ليست واضحة وإنما هي مغلقة بألف ستر وقد يحدث كثيرًا أن تُعبر الذات عن نفسها بأساليب ملتوية” وأقول إن جدية البحث عن فكرةٍ خلاقة هي في الأصل مبعث قلٍق وتساؤل أدى لتطوير الذات الشاعرة عند نازك الملائكة. إننا إذ نستطلع التحولات الفكرية في تجارب نازك الملائكة نلحظ تحولًا عقديّ الدلالة تحولًا في اليقين لدى نازك ويبدو هذا جليًا في خطابها مع الحبيب مثلًا:

“ولو جئت يوما و ما زلت أؤثر ألا تجئ

لجف عبير الفراغ الملون في ذكرياتي

وأمسكت في راحتي حطام رجائي البرئ”

صارت تخاطبه:

“وسألت حبيبي أن ألقاه

فتطلع في وقال إن شاء الله”

إن مثل هذه التحولات نلاحظها لدى السياب مثلًا حين كان شاعرًا كما تتطلبه المرحلة السياسية “إذ ما من متنفٍس لفردية الفرد” لكنه استطاع بعد حين التغلب على الوضع والعبور بالقصيدة إلى منعطٍف آخر.

“علينا ألا نُغفل أولًا أن القصيدة كانت قصيدة إجابة فصارت قصيدة تساؤل وحيرة يبدأ الشاعر بيتها الأول و يجهل كيف تنتهي و كيف يتحرك داخلها”

فالشاعر كما يقول فوزي كريم ” فهم من الحداثة في الشعر أهمية يقظة الصوت الفردي الداخلي

وهذا ما يعيه شعراء اليوم فهم يتركون على الطريق علامات لكل القادمين نحوهم من شعراء وقراء. في بداياته، قد يتماهى الشاعر مع ما يطلبه المجتمع من نظم شعر مباشر، قد لا يصل لمدى طموحه أو لطموح المجتمع الذي “يناقض” نفسه؛ فيطلب من الشاعر محاكاة أوجاع الشارع وهمومه اليومية بسطحية في ذات الوقت الذي يطالبه بالنهوض بالقصيدة لغةً ومعنى.

حينها يصبح الشاعر في شد وجذب؛ فصوته الداخلي يدعوه للتخلي عن بردة المجتمع والارتقاء بذائقته لمستوى أعلى، بينما يدعوه المجتمع للتحرز بالتراث والطُرق المعتدّ بها لدى من سبقه من الشعراء.

وحين يتحوّل الشاعر من الاصطفاف خلف رغبات مجتمعه إلى الإنصات لصوته الداخلي سيضطره غالبًا لقتل صوت مجتمعه، وإعادة إحياء الذات الشاعرة التي طالما تدعوه للتجديد والخوض في أطوار القصيدة والتحليق بعيدًا. يرجع هذا لمدى إخلاص الشاعر لشعره أو لنقل لصدقه داخل القصيدة وتحويل هذا الهاجس العابر لمشروٍع أدبي.

إن فكرة الإنصات لصوت الشاعر الداخلي، الذي لا يتبلور إلا متأخرًا بعد الكثير من التجارب الإنسانية والظروف والمتغيرات الإجتماعية والسياسية، فكرٌة جديرة بالاهتمام. كلما نمى الصوت الداخلي وكبر؛ ازداد توهج القصيدة وارتفع نسق الخطاب فيها من مجرد محاولٍة لنظم الشعر إلى محاولة جادة للتعبير عن مكامن النفس البشرية وتحديات الوضع المعاصر، والرهان على التجديد المطلوب للتقدم. كما أنه كلما نضج الصوت الداخلي لدى الشاعر؛ انخفض منسوب الانفعال لديه. هذا الصوت الداخلي الذي يتجلى في نصوص الشاعر كلما تقدمت به التجربة لابد أن يكون “تحت السيطرة”؛ فلا يجب تغليب الهوية على الصوت الداخلي أو لعكس فهما مجدافان لذات الزورق.

……………….

تم الاستفادة في إعداد هذه المادة من كتاب “شاعر المتاهة وشاعر الراية الشعر وجذور الكراهية”،  فوزي كريم، دار المتوسط

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.