جمالية القبح بين الجموح والرعب*

المركيز دو ساد في ( أيام سادوم المائة والعشرون )

0 870

دعد ديب – سوريا

في الفن، ثمة معايير لا تعرف الثبات، لنزوع أصيل في الذوات المبدعة لاجتراح جديد ما، وفتح آفاق مجهولة؛ واختراق أبواب مغلقة؛ بمغامرات غير محسوبة، وغير معنية بحسن وقوعها على ذائقة متلقيها. من هذه البؤرة، برزت العجائبية، والفانتازيا، والسحرية الواقعية، وغيرها الكثير مما تفيض به مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة؛ ومن هذا المدخل، يبرز مفهوم جمالية القبح الذي يبدو عنوانًا صادمًا ومشروعًا للسؤال الذي يفرض نفسه: هل للقبح جمالًا، أم هو تجميل القبيح أو تقبيح الجمال؟! ثمة خواطر عدة تطوف بالبال عندما يطرق أسماعنا هذا المصطلح، حيث أنه وحسب تعبير الدكتور سعد الدين كليب ليس القصد منه تبيان مواطن الجمال بالقبيح أو تجميل القبيح، وإنما التركيز على الطاقات الإيحائية والتأثيرية المختزنة فيه، أو ما يتكشف عنها في التشكيل الفني، من إتقان للصنعة بغض النظر عن انعكاسه بالواقع، حتى لو كان مغرقًا في البشاعة، مما أفسح مجالًا مهمًا لأهمية القبح في الفن لما يخفيه من ردود أفعال غير محسوبة، تتجلى في استياء المتلقي واستهجانه ورفضه؛ مما يعني التناقض الدرامي في المشاعر بين النفور والرفض، وبين الدهشة والإنكار.

المركيز دوساد – رغم الزوبعة التي أثارتها مجمل أعماله الأدبية الصادمة للذائقة في زمنه، والتي فتحت ضده موجة واسعة من الاستنكار والاستياء – قد أزاح لنفسه مكانًا متفردًا في ابتكار أسلوب خاص في استحضار الشر والفظاعة والانتهاك، وتوضيح لأشكال تواجده، وليس آخرها عمله ((أيام سادوم المائة والعشرون )) الذي ترجمه حديثًا إلى العربية كامل العامري وصدرت عن دار ألكا لعام 2018. تكمن المفارقة في الإشارة إلى حجم المتعة التي يعطيها الإفراط في العبث والقذارة لنموذج خاص من البشر، حيث يقوم أربعة من الأثرياء العصابيين والنافذين في محيطهم، باختطاف مجموعة من الضحايا بعد أن تفننوا باختيار مواصفاتهم وأعمارهم، ويتابعوا الأمر باحتجازهم في قلعة بعيدة، محاطة بجرف صخري بشكل يستحيل فيها النجاة لأي كان، ويمارسون عليهم شتى أنواع الانتهاك الجنسي؛ والتعذيب الجسدي؛ والإكراه على ما لا طاقة لهم به، من تنكيل وامتهان وإذلال بما فيها علاقات سفاحية مبتذلة وانحرافات جنسية ونذالات يندى لها الجبين، مما يستدعي نفورًا وقرفًا متصاعدين، حيث جمالية القبح تعتمد على الإيلام الجارح وقدرة عالية على التنفير إلى أقصى الحدود، في هوس عارم لاستحضار المتعة من آلام الآخرين ومحنهم. ولا غرابة أن مصطلح السادية اشتق من اسم هذا الكاتب الذي اكتظت حياته بسلوكيات مشابهة إلى حد ما، أو هكذا نمي إلينا، مما اقتضى دخوله إلى السجن مرات عديدة، فالسعادة عنده تحتم عليه إلحاق الأذى بالآخرين، وكلما ازدادت ضراوته في سحق ضحيته، كلما ارتفع عنده هرمون المتعة التي تستدعي إيغالًا مستمرًا في طلبها، وبالتالي مزيدًا من الضحايا ضمن فانتازيا القوة والهيمنة والجنس والامتلاك والتأليه الخارق وغير العادي للشخصية السادية التي تعتمد على الحط من إنسانية الضعيف والبسيط، واختزال وجوده الى الحيز الأضيق، وتحقيق المتعة لزمرة محدودة من الكائنات المتعالية عن ما تعتبره الدرك القطيعي .

ولعل العنف ضد النساء تجلى بشكل ملموس لشخص لم يعرف معنى الحنان فتأتي سلوكياته انتقامًا من المعنى السائد لهن بالعطف والحنو؛ لذا تراه يمعن في استحضار المعنى الخلاعي الذي يمكن أن تأتيه امرأة عجوز، بالصور الأكثر قباحة وترهل وبشاعة، ترافقها شهوة التدنيس وارتكاب الموبقات منصاعًا لرغبة تجرفه للحضيض الأخلاقي المتعارف عليه، في حمى المتعة اللامتناهية وإشباع سائر الرغبات الحسية دون أي وازع كان، معياره المتعة التي يجنيها دون أي اعتبار آخر، حيث فيها فقط حسب منظوره تكمن السعادة، وماعدا ذلك حياة بائسة متبعًا نصيحة أحد أقاربه من القساوسة”«اسمع يا ولدي.. كن فاضًلا أمام الناس، واقتل كل يوم طفلًا رضيعًا في بيتك”. هذا السعار الذي يتجلى في رفضه للدين والرب وانحداره لسلوكيات الإجرام وللسلوكيات الأكثر قذارة في أشكالها المختلفة، وكلها مجتمعة تثير صاحب جوستين لدرجة الجنون وتعطيه تلك المتعة المرعبة بالسرد والإمعان في تفاصيلها وهو المترف الذي لم يحتج لشيء.

هذا اللون من الأدب كتيار حداثي فيه من الصعوبة والصنعة الشيء الكثير لما يحويه من تنظير لمفاهيم ذات غرابة واستهجان، وما يتطلبه من إقناع بالتصوير الفائق والمدهش، وإمكانيات عالية لإحداث تأثيرات مبتغاة، وتجسيدها على درجة من الصعوبة لاعتمادها على مخيال غرائبي وتصور وقائع غير ممكنة الحدوث. دوساد الذي تستهويه الممارسات العنيفة بكافة أشكالها، اختلف معاصروه في إطلاق ألقاب عليه من كاتب الشر المطلق، أو أول الكتاب الملعونين في العصر الحديث. هو الذي يجهر بإلحاده وماديته، وأن الطبيعة هي أساس الوجود وهي غير عادلة فالطريقة الوحيدة لخدمتها هو إتباع رغباتها بشكل أعمى. إذا كان العنف؛ الجنون؛ الآثام؛ الانحراف؛ وكل ما تذخر به أخلاقيات الشرور هي المعمار الذي يبني عليها فلسفته في المتعة من خلال الاستهانة بالآخر الفقير ماديًا ومعنويًا وتحقيره تحقيقًا لعقد دفينة واستغلال ضعفه ومحدودية تفكيره وجهله، يعطي المستبد حقوقًا أوسع عليه وعلى كيانه ومبررًا لمجمل سلوكياته، فيصبح بالتالي عبدًا لمتعته غير المحدودة، ولعل ذلك فلسفة كل طغاة التاريخ لمن يتساءل كيف يستطيع النوم والراحة من ولغ بدماء البشر وآلامهم. عندما يكتب الروائي نصًا ويعلنه ينفصل عنه ويصبح له كينونته الخاصة بمراميها، ونوازعها التي ليست بالضرورة بذات القصد عند مؤلفها، فالمركيز دوساد ربما عاش مارقًا آبقًا عنيفًا، يمجد كل المخازي والسفالات الذي حفل بها تاريخه؛ لكننا هنا نحاول أن نرى ما وراء الكلمة، وما تزيحه الحداثة المتوارية من معاني في استلهام الغرابة والإثارة كأسلوب فني تتسع فيه دائرة المعاني إلى أقصى مداها؛ كفهم القبح وتعريته بواقعه المؤلم والجارح والصادم، إذ لا يمكن فصل الأدب عن الشر حسب تعبير باتاي لأنه إذا ابتعد أصبح رتيبًا ومملًا؛ لأن الحالة الفنية تتطلب دائمًا موجة من القلق المترجرج، والقلق ذاته يرتكز على شيء من الشر والإيلام الجاف والاستنكار والاستهجان إلى أبعد درجة. ربما تتسع مظلة التساؤلات التي يثيرها هذا الجنس الأدبي: فهل التحرر من الدين بالضرورة يؤدي إلى إباحة كل هذه الشرور والآثام؟؟ وضمن نسبية الأخلاق وعدم وجود معيار واحد باختلاف الجغرافيا والثقافات، وإذا اعتمدنا على السير الطبيعي لمفاعيل الطبيعة حيث القتل وهيمنة الأقوى هما السائدان، وحيث الموت أحد أشكال الحياة بالفهم الكيمائي لحركة العناصر والمادة، وحيث أن الإثارة محفز رئيسي للمتعة لذا صارت البراءة محفز للقسوة والانتهاك؛ وهذا يفسر نزعات الاعتداء على القصر والأطفال سواء بالانتهاك الجسدي أو الاعتداء بالضرب المادي، فتداعيات المتعة ولا غير سواها تقود دهاليز الحرية السوداء المطلقة ولكن لمن للقوي؛ الشرير الذي يسود بالقوة التي يمتلكها .

نماذج الطغاة وشهوة الدم والفتك بالآخرين تلتقي مع فلسفة دوساد بالمتعة التي يلاقونها في تفننهم بإلحاق الأذى بمن يقع تحت أيديهم حتى عندما لا يطلب منهم ذلك، نتيجة تضخم الأنا السادية لديهم. ربما ما يجعلنا نتصالح مع هذا التيار من الأدب في غرابته ومناقضته لعالم المثل، أن القبح لا يصور فنيًا إلا من أجل نفيه جماليًا ولا يتم الإيغال في تجسيده إلا لتبيان هول الكارثة التي يحملها في جنباته، والجاذبية والخروج عن المألوف الكامنة فيه هي الخيط اللولبي غير المرئي الذي يتحرك ما بين القبح والجمال.

 

* بالتنسيق مع موقع نخيل عراقي حيث نشر المقال أول مرة. 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.